السيمر / الأربعاء 06 . 06 . 2018 — طوال عقود طويلة من القرن الماضي، وقف رجلًا أمام شاه إيران وملوك المملكة السعودية ورؤساء أغلب الدول اللاتينية ورؤساء إندونيسيا وماليزيا وكثير من الدول الأخرى النامية والناشئة اقتصاديًا، وجمع لقاءاته بهم جملة واحدة اعتاد أن يخبرها لهم جميعًا، وهي كالآتي “في اليد اليمنى هناك مئة مليون دولار ستكون ملكًا للرئيس أو الملك وحاشيته في حالة تعاونه مع هذا الرجل، وفي اليد الأخرى هناك مسدس في حالة عدم تعاونه، كان هذا الرجل هو ما يُعرف بـ”القاتل الاقتصادي”.
لا يكون القاتل الاقتصادي قاتلًا مستأجرًا عاديًا، إلا أن رسالته لا تختلف في نهاية المطاف عن رسالة القاتل المستأجر أيضًا، إلا أن بخلاف ذلك لقد استطاع القتلة الاقتصاديون أن يخلقوا نوعًا جديدًا من الرأسمالية، يحب أن يصفها أحد أشهر القتلة الاقتصاديين بـ”الرأسمالية المفترسة”، نوع من أنواع العولمة الجديدة التي تخلق اقتصادًا فريدًا من نوعه يكون المتحكمون فيه القتلة الاقتصاديين.
يقول أشهر القتلة الاقتصاديين جون بيركنز في كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” إنه إن أردت معرفة سر الديون الضخمة الموجودة في الدول النامية عليك أن تتعقب القتلة الاقتصاديين، بدأ بيركنز شهادته كونه شخصيًا قاتلاً اقتصاديًا محترفًا، بدأ المشوار باختياره من وكالة الأمن القومي الأمريكي بينما كان طالبًا في كلية إدارة الأعمال لتدريبه على دورات مكثفة من علم النفس، مُنح بعدها وظيفة في مجال الاستشارة الاقتصادية في ولاية بوسطن، كانت تلك الوظيفة لها علاقة وطيدة بكل من وكالة الأمن القومي والاستخبارات الأمريكية، في سياق آخر كانت تلك الوظيفة عبارة عن تدريب آخر لجعل بيركنز قاتلًا اقتصاديًا.
تكون مهمة القاتل الاقتصادي باختصار كما يصفها بيركنز في كتابه أن يذهب إلى البلاد التي تحتوي على كثير من المواد الخام مثل البترول والغاز والمعادن أو على كثير من الأموال، وإقناع قادتها وحاشيتهم بالاستدانة من البنك الدولي وغيره من المؤسسات المشابهة لتذهب تلك الأموال إلى الشركات الأمريكية الكبرى المعروفة التي بدورها تستخدم الأموال نفسها لتأسيس مشروعات ضخمة في البلاد النامية التي لا تمتلك الأموال الكافية ولا العمالة الخبيرة القادرة على تأسيس تلك المشروعات مثل بناء المناطق الصناعية أو البنية التحتية مثل الجسور، لتقدم تلك الشركات الأمريكية يد العون في مقابل أن أرباح المشروع تعود إليها وليس للدولة المستضيفة.
من خلال تلك الخطة البسيطة تجد الدول النامية نفسها أمام كمية ضخمة من الديون للمؤسسات الدولية التي منحتها الديون في المقام الأول وأيضًا للشركات الكبرى التي تتربح من مشروعات أنشأتها على أرضها، حينها يأتي دور القاتل الاقتصادي مرة أخرى للقضاء على الضحية، الدول النامية، بشكل كامل، لينبه قادة تلك الدول والمسؤولين فيها أنهم أمام ديون ضخمة لا يقدرون على سدادها، والحل هو بيع المواد الخام الموجودة لديهم بسعر رخيص للشركات الأمريكية، أو عرض حل الخصخصة، أو بيع الخدمات المحلية للشركات الدولية مثل بيع المدارس أو المستشفيات أو حتى السجون.
رغم أن القاتل الاقتصادي مجرمًا، فإنه لا يحمل مسدسًا، ولكن في حالة رفض رؤساء أو قادة الدول عرض القاتل الاقتصادي في بيع مؤسساته وخصخصتها، يحمل كل من يحمي القاتل الاقتصادي السلاح من وكالة الأمن القومي الأمريكي والاستخبارات الأمريكية، لتبدأ عملياتهم الممنهجة لاغتيال الرؤساء أو تدبير انقلاب على الحكم.
تحدث بيركنز عن مهمته الأولى في كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” التي كان مكانها في إحدى البلاد التي خرجت لتوها من حرب أهلية برئاسة ديكتاتور يرغب في الحماية الأمريكية، كانت إندونيسيا مهمة بيركنز الأولى، ليُقدم تقارير اقتصادية في صالح مشاريع بعينها خاصة بنظام جديد للكهرباء تساعد المؤسسات الأمريكية على الربح من خلال أن تطلب إندونيسيا الدين وهذا ما نجح بيركنز في تحقيقه في النهاية، ليقتل إندونيسيا اقتصاديًا.
إيران 1953
حينما كان هناك وضع لا يعجب الولايات المتحدة في مكان ما حول العالم، ستجد فيه القتلة الاقتصاديين بلا شك، من بين تلك الأماكن كانت إيران في عام 1953 حينما كان رئيس الوزراء محمد مصدق أشهر شخصيات العام لتكون صورته على غلاف مجلة التايمز، اعتمدت سياسة مصدق على تأميم صناعة النفط الإيرانية بعدما كان البريطانيون يسيطرون عليها منذ عام 1913، لم تعجب سياسته كل من بريطانيا والولايات المتحدة، واستعانت الأولى بالاستخبارات المركزية الأمريكية لمنع تطبيق سياسة مصدق في تأميم الصناعة النفطية في إيران.
أرادت الحكومة الإيرانية أن يستفيد الإيرانيون من النفط الخاص بهم، وهي السياسة التي أغضبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية
تسببت قرارات مصدق في تأميم شركات النفط في تدبير الاستخبارات الأمريكية بواسطة القتلة الاقتصاديين انقلابًا عليه أزاحه من منصبه ووضعه في السجن بضع سنوات قبل أن يُطلق سراحه ويظل رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته، ليحل محله الجنرال فضل الله زاهدي صاحب السياسة الملائمة لتستفيد الشركات البريطانية والأمريكية من النفط الإيراني على حساب المواطنين الإيرانيين.
الإكوادور 1980
يقول بيركنز في حديثه في الفيلم الوثائقي الذي يحمل نفس عنوان كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” أن الحكم في الإكوادور، في أمريكا اللاتينية، لطالما كان في يد ديكتاتوريين تابعين قلبًا وقالبًا للولايات المتحدة وذلك قبل أن يأتي أول رئيس ديمقراطي للبلاد في الثمانينيات من القرن الماضي، وهو رولدوس أجيوليرا الذي فاز في الانتخابات الديمقراطية بسبب أهدافه التي وعد المواطنين إياها أنه سيوظف موارد الإكوادور الخام وأهمها البترول لمساعدة المواطنين، وهو أيضًا ما لم يعجب الولايات المتحدة على الإطلاق.
ليكون بيركنز من بين عدة قتلة اقتصاديين ضمن مشروع للاستخبارات الأمريكية لمحاولة إفساد إجيوليرا وجعله يعود عن قراره في تأميم صناعة النفط في الإكوادور، حيث يقول بيركنز في حديثه في الفيلم الوثائقي “اعترافات قاتل اقتصادي” أنه قال لإجيوليرا إنه بإمكانه أن يصبح غنيًا هو وعائلته إن أراد التعاون مع الاستخبارات الأمريكية وقبول الديون، أما إن قرر الرفض فهذا يعني رحيله بالطريقة التي تقررها المخابرات الأمريكية.
“اسمع يا “جون”، أنا لا أريد المال، بل أريد أن تُعامل بلادي باحترام وتقدير، وأريد أن تدفع الولايات المتحدة للمواطنين ثمن كل المشروعات الإنشائية التي أنشأتها على أرضهم وأن تعود أرباح تلك المشاريع للعامة، وأن تعود قناة بنما للمواطنين من بنما، التي تُعد من أعظم الإنجازات الهندسية في العالم، وهذا ما أريده، ولهذا دعني وشأني ولا تحاول أن ترشيني”.
كان هذا جزء من حديث رئيس دولة بنما عمر توريوس لجون بيركنز الذي حاول إفساده هو الآخر في التوقيت نفسه الذي اغتيل فيه رئيس الإكوادور، وهو الأمر الذي لم يمنع عمر توريوس رئيس بنما، من المضي في قراره بتأميم قناة بنما بالتفاوض مع رئيس الوزراء الكندي جيمي كارتر، ليتم اغتيال توريوس في العام نفسه بعد مرور بضعة شهور من التفاوض على تأميم القناة في حادث تحطم طائرة.
العراق 2003
كانت العراق إحدى النماذج الفريدة من نوعها التي فشلت فيها خطة الاستخبارات الأمريكية من خلال إرسال قتلة اقتصاديين لمحاولة التأثير على نظام صدام حسين لقبول الديون الأمريكية، كما فشلت فيها خطة تدبير الاستخبارات الأمريكية لانقلاب أو اعتقال بسبب قوة النظام الأمني في عهد صدام حسين، وبهذا تضطر الاستخبارات الأمريكية إلى اللجوء للحل الثالث في حالة فشل الخطوتين الأولى، وهو حل القوة العسكرية والتدخل بالجيش الأمريكي.
حينما يتدخل الجيش تُترك فرصة أخرى للرئيس في أن يذعن للإرادة الأمريكية من خلال خصخصة الخدمات للشركات الكبرى الأمريكية، وبيع الموارد الخام وأهمها البترول بسعر زهيد للشركات الأمريكية، وقبول تدخل شركات الإنشاء في العراق وتنحي الشركات المحلية جانبًا، إلا أن القتلة الاقتصاديين لم ينجحوا في مهمتهم الأخيرة مع صدام حسين كذلك، حينها كان الحل هو التخلص منه والسيطرة على الدولة عسكريًا.
يعتبر جون بيركنز نفسه رأسماليًا، إلا أنه لا يؤمن بهذا النوع من الرأسمالية الذي اعترف بعمله فيه لعقود طويلة لحساب الاستخبارات الأمريكية، أسماه بيركنز عقود من الرأسمالية المفترسة أو المتوحشة، واعتبره عدوًا بينًا للرأسمالية التي يؤمن هو بها بعدما انقلب الوضع من محاولة كسب الأموال من خلال خدمة الصالح العام إلى محاولة كسب الأموال بأي طريقة بغض النظر عن التكلفة البيئية أو البشرية.
نون بوست
وان نيوز