وداد عبد الزهرة فاخر *
أحاول في ردي على مقال زميلي الدكتور عبد الخالق حسين المعنون ( في الذكرى العاشرة لتحرير العراق من الفاشية ) ، أن اختصر المقال في هذا المقام بعدة ملاحظات وجدت من الأسلم إيضاحها ، وتنوير القراء بها .
فقد صدمني في بداية مقاله عندما تناسى كلية دور القوات السوفيتية العظيمة آنذاك وهو يقول” تمر هذه الأيام الذكرى العاشرة على تحرير الشعب العراقي من الفاشية البعثية، على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا، نفس القوات التي حررت أوربا في الحرب العالمية الثانية من النازية الألمانية، والفاشية ” متغاضيا عن دور شعوب الاتحاد السوفيتي السابق الفعلي باكتساح القوات الفاشية للمعتدين الفاشست وطردهم من أراض الاتحاد السوفياتي ، وملاحقتهم حتى الأراضي الألمانية ، ورفع الجنود السوفييت العلم السوفييتي على مبنى الرايخشتاغ الألماني في برلين العاصمة معلنين عن تحرير برلين من الفاشست الألمان ودحرهم وقبر الفاشية للأبد .
ولان ” الثورة يصنعها الثوار ” كما قال شاعرنا ، فالتحرير كان يجب ان يقوم به الشعب العراقي نفسه للتخلص من الفاشست البعثيين وهناك عدة طرق كانت موضوع البحث آنذاك بعيدا عن البسطال الأمريكي الذي قالت عنه الـ” هيرالد تريبيون” في 8 /11/2004 ( إن الديمقراطية لا تنمو في أرض داستها أحذية الأمريكان ) . لذلك كان ما طرحه الحزب الشيوعي العراقي آنذاك وقبيل اشتعال الحرب واحتلال العراق من قبل الأمريكان صحيحا عندما رفع شعاره الذي اعترضت عليه بقولك ( فمن الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي العراقي قبل التحرير مثلاً، شعار: ” لا للحرب ..لا للدكتاتورية” ) ، فعلاوة عن تداعيات كل حرب وما تسبب من تخريب للبنى التحتية ومآسي وضحايا ، فهناك الاحتلال الذي يتبع الحرب وتأثيره الاقتصادي والاجتماعي والسايكولوجي على المجتمع برمته . وبالفعل فقد أضافت الحرب والاحتلال الذي تبعها مآسي أخرى على العراقيين ، وضحايا جدد ، رغم إن الحرب كانت تكتيك شكلي لتغيير طفيف جدا في منظومة السلطة الحاكمة في العراق . حيث وضع المحتلون الأمريكان في ذهنهم كما كان مخططا إزاحة الحلقة الضيقة جدا المحيطة بالدكتاتور ، وترك كل تنظيماته وتشكيلاته القمعية حرة طليقة مضافا لها ما استوردوه عن طريق نظرية ” الفوضى الخلاقة ” من قتلة وإرهابيين وقطاع طرق من دول المنطقة المجاورة باسم ” حركات الجهاد ” ، التي اكتشف لاحقا بان معظم أسلحتها أسلحة أمريكية حديثة ، وتتحرك بكل ثقة وحرية تحت نظر وكاميرات الأقمار الصناعية الأمريكية التي تراقب العالم ليل نهار .
لذلك فالقول ( تهدف نظرية “الفوضى الخلاقة” التي تتبناها أمريكا في البلاد العربية إلى إعادة تشكيل خارطة “المنطقة” العربية الممتدة من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي، وذلك عن طريق تفجير الصراعات الداخلية وتأزيم الأوضاع الحالية، وإذكاء الخلافات الطائفية والقبلية والعنصرية والاختلافات السياسية، كل ذلك من أجل إعادة “رسم خارطة المنطقة” بما يتوافق مع المصالح الصهيو-أمريكية.) قول صحيح ، فهذا القول يبلغ من الصحة درجته القصوى ، والدليل على ذلك ما حدث ويحدث في الوطن العراقي من تصاعد الحرب الطائفية ، وتازم الوضع السياسي ، وظهور حالات مرضية مجتمعية غريبة على الشعب العراقي والعربي ، كـ ( الحواسم والخطف من اجل فدية المخطوف بالمال ، وعصابات مختلفة ومتعددة الألوان ، وحالات نصب واحتيال غريبة جدا على المجتمعات العربية ناهيكم عن الفساد الإداري والمالي والرشوة ، وتجذر الطائفية ).
ورغم ان بعض الحالات المرضية في المجتمع العراقي كانت موجودة من قبل الاحتلال وهي نتاج السلطة الفاشية وضمن تربيتها لتخريب المجتمع العراقي بغية السيطرة عليه إلا أنها لم تكن بهذه الحدة والغلو مثلما حدث بعد الاحتلال ، أو ما سمي من قبل الأمريكان بـ ” دمقرطة ” المنطقة العربية – الإسلامية خاصة ، أو ما سمي بـ ” الشرق الأوسط الكبير” ، الذي أصبح وبالا على المنطقة برمتها ، بعد تحالف أمريكا مع الإسلام السياسي وتصاعد دوره المسيس والمنغم أمريكيا .
وأيد تلك النظرية الدراسة التي نشرتها صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” مقالة للمحلل السياسي سيرغي كورغينيان يقول فيها: ( إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يقود مخططا يهدف إلى تقسيم العالم، وما حدث في تونس ومصر ما هو إلا جزء من لعبة كبيرة المرحلة الأولى منها بدأت بتفكيك الاتحاد السوفيتي من خلال سياسة إعادة البناء “البيريسترويكا” التي قادها الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف وفتحت الباب أمام إعادة رسم خريطة أوروبا. وكان العنوان الأبرز لهذه المرحلة سقوط جدار برلين ) ، وحدث من بعد ذلك نفس السيناريو في ليبيا ويحدث في سورية الآن بعيدا عن إرادة الشعوب وإحلال الإسلام السياسي ومنظماته الإرهابية محل الدكتاتوريات السابقة .
وما رآه كورغينيان من قول الرئيس أوباما، من أن التغيير الذي حصل في مصر يوازي بأهميته سقوط جدار برلين يؤكد أننا نعيش اليوم المرحلة الثانية من اللعبة الكونية . ويضيف كورغينيان قائلا : ( عندما يعبر عن ثقته بأن الولايات المتحدة تستعين بعناصر تابعة لها لتأجيج الشوارع في مصر وتونس وغيرهما من بلدان الشرق الأوسط. وهذه العناصر على صلة وثيقة بما يسمى بـ “الخلايا الإسلامية النائمة”. مؤكد أن جون برينان النائب السابق لمدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الذي يعمل حاليا مستشارا للرئيس الأمريكي لشئون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، هو الذي يسهر على تأجيج نيران الاضطرابات في المنطقة. وبالإضافة إلى برينان ثمة مجموعات مختلفة كبيرة ومؤثرة، تقف خلفه وتدعم جهوده. ومن أهم هذه المجموعات الجماعات المتعددة الجنسيات التي تمتهن تجارة السلاح والمخدرات. ففي أفغانستان على سبيل المثال تضاعف إنتاج الهيروين منذ دخول القوات الأمريكية إلى ذلك البلد، بنحو ثلاثين ضعفا. علما بأن الوسيلة المفضلة المتداولة في تجارة المخدرات ليست النقود، بل السلاح. أي أن المخدرات يجري مقايضتها بالسلاح. والسلاح يصبح حاجة لا غنى عنها في أوقات النزاعات، وبعد توفر عنصر السلاح تظهر الحاجة لخدمات الإرهابيين ) . وقد أكد هذه الحقيقة مدير ندوة المخدرات التي جرت في المقر الأوربي للأمم المتحدة في فيينا وحضرها كاتب المقال، عندما قال : ( بان المخدرات والإرهاب توآمان كل يكمل الآخر ) .
إذن فما حصل في العراق هو المرحلة الأولى لخطة أمريكية ، الغرض منها تغيير بعض الوجوه الكالحة للسلطة وشخص الدكتاتور ، والتي كانت في صراع وعداء مع كافة مكونات الشعب العراقي آنذاك ، ومنها حتى أطراف من داخل السلطة الحاكمة ، وكان الأفضل للمجتمع الدولي أن يقوم وقتها بتفعيل دور المنظمات الديمقراطية العراقية ، ومساعدتها ماديا وإعلاميا ، وتفعيل قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بحرب تحرير الكويت بما يهم الشعب العراقي كالقرار 688 القاضي بإشاعة الديمقراطية في العراق ، من خلال الضغط الدولي على النظام الفاشي وإجباره وفق البند السابع بإجراء انتخابات ديمقراطية وتحت إشراف الأمم المتحدة ، فلم جرى طمس هذا القرار وتنفيذ فقط قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بتحرير الكويت فيما يتعلق بالعقوبات على النظام العراقي ، والتي كانت هي في الحقيقة عقوبات على الشعب العراقي وليس الحاكم ، وأهمل عن عمد القرار 688 ؟؟! .
إذن فنحن أمام تغيير واسع وكبير يجري بكل سلاسة في المنطقة بدأته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق التي نشطت في تجنيد الإرهابيين وتدربيهم نخبة من عناصر الاستخبارات. ومن أبرز هذه الوجوه تيد شيكلي الذي كان موظفا ساميا في وكالة المخابرات المركزية متخصصا في تمويل أنشطة العملاء السريين، والذي جند ودرب عددا كبيرا من الإرهابيين المحترفين في دول جنوب ـ شرق آسيا. وفي وقت لاحق بدأ “طلاب” شيكلي يمارسون أنشطتهم الإرهابية بشكل مستقل ويعملون لحسابهم الخاص بالإضافة إلى عملهم لصالح الولايات المتحدة . وبحسب تقديرات كورغينيان ضمن مقالتة السابقة فإن ( قيمة “الخدمات” التي تقدمها المجموعات الإرهابية المتعددة الجنسيات تقدر بـ تريليون دولار ) .
وكرد على البديهية التي وردت في مقالك أيضا (خامساً، كل ما ألحق بالعراق من خراب ودمار وأضرار وجرائم، منذ 8 شباط 1963 وإلى الآن، يتحمل مسؤوليته البعث الفاشي ) ، لا بل تتحمل أمريكا أيضا جزء كبير من المسؤولية في مجيء البعث العام 1963 بقطارها الأمريكي ، وهو أيضا مافعلته أمريكا وحلفائها في المنطقة بالشعب العراقي في تشجيع النظام الفاشي ودعمه ماديا وسياسيا واستخباريا في حربة الكارثية على الجارة إيران ، وكذلك حربه على الكويت وما جرى بين المقبور صدام والسفيرة الأمريكية في العراق غلاسبي أيضا ليس ببعيد .
لكن كل هذا التاريخ البشع للفاشية البعثية زاده بشاعة الاحتلال الأمريكي بنظرية ( الفوضى الخلاقة ) بشاعة ، وجر الإرهابيين في المنطقة لأرض الصراع البديلة التي اختيرت بموجب دراسات استراتيجية وهي العراق ، عملا بمبدأ المثل الذي يقول : ( جلد مو جلدك جره عالشوك ) .
رابط مقال الدكتور عبد الخالق حسين
http://www.saymar.org/all%20maqallat/26032013maq336.htm
* كاتب وصحفي عراقي ناشط في مجال مكافحة الإرهاب
www.alsaymar.org
alsaymarnews@gmail.com