متابعة المركز الخبري لجريدة السيمر الإخبارية / السبت 21 . 11 . 2015 — كُتب الكثير عن أسرار نشوء تنظيم «داعش»، وعن مؤسّسيه والضالعين في «هبّته». تقارير تبنّت نظرية أنّ التنظيم صناعة أميركية ـ غربية، مستندة في ذلك إلى ما أوردته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في كتابها الصادر مؤخراً. وثمة تقارير أخرى تقول إنّ التنظيم المتطرّف ولد من رحم «البعث العراقي». وتقارير تتحدّث عن انشقاق «داعش» عن «القاعدة»… تكثر نظريات الولادة، لكن الإرهاب واحد.
إذا كان همّ معدّي هذه التقارير التوثيق للظاهرة الإرهابية الأخطر في هذه الأيام، وذلك من خلال البحث في تاريخ هذا التنظيم من الولادة إلى النشأة والتطوّر، فإنّ ذلك يعدّ عملاً أكاديمياً بحتاً. أما إن كانت أهداف هذه التقارير إلهاء الرأي العام العالمي في أمور نشأة التنظيم، وتحييد النظر عن أفعال هذا التنظيم على الأرض، فإننا نطرح إزاء ذلك جملة من علامات الاستفهام.
في تقريرنا التالي، المؤلّف من حلقتين متتاليتين، نظريتان مختلفتان حول ولادة التنظيم الإرهابي «داعش». الأولى شرحها ثالوثٌ من الإعلاميين في «معهد واشنطن»، وتتبنّى مقولة أنّ «داعش» ولد من رحم «القاعدة». لا بل أنّ أبا مصعب الزرقاوي ـ القيادي السابق في «القاعدة» ـ هو من أسّس «داعش».
أما التقرير الثاني، فنُشر في صحيفة «دير شبيغل» الألمانية في نيسان الماضي، ويتبنّى نظرية مغايرة لكلّ ما سبقها حول هوية مؤسّس «داعش».
في الرابع من تشرين الثاني، خاطب جوبي واريك وويل مكانتس وهارون زيلين، منتدى سياسياً في «معهد واشنطن». وواريك كان قد قام بتغطية القضايا المتعلقة بالأمن القومي والاستخبارات والشرق الأوسط لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية منذ عام 1996. ومكانتس هو إعلاميّ وعضو في «مركز واشنطن لسياسة الشرق الأوسط» ومدير «مشروع علاقات الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي» في «معهد بروكينغز». أما زيلين، فهو إعلاميّ في «معهد واشنطن» ومؤسّس موقع «Jihadology.net». وفي ما يلي ملخّص المقرّر لملاحظاتهم.
جوبي واريك
كان أبو مصعب الزرقاوي، قوة لا غنى عنها في تشكيل تنظيم «القاعدة في العراق» وقيادته، وهذه الجماعة هي سلف تنظيم «داعش». ويستمر الزرقاوي في التأثير على «المؤمنين» برؤيته وتكتيكاته بعد فترة طويلة من وفاته عام 2006 في غارة جوية أميركية. ومن خلال الموهبة القيادية التي تمتع بها وعبر العرض المروّع للعنف، جمع البعثيين السابقين الساخطين والإسلاميين المتطرّفين من أجل بدء تمرد فعّال ضدّ الاحتلال الأميركي في العراق.
وخلال الفترة التي قضاها في السجون الأردنية في التسعينات من القرن الماضي، تطرّف الزرقاوي وحوّل نفسه من «بلطجي وسفاح الشارع» إلى «زعيم». وعمل على إنماء شخصية قوية ولا تهاب، وهي التي جذبت أتباعه وجعلته يؤثر على السجناء من بين الأكثر تعليماً وخبرة. وعندما حاول الانضمام إلى تنظيم «القاعدة في أفغانستان» عقب الإفراج عنه في وقت مبكر من عام 1999، اعتبره أسامة بن لادن، قائد التنظيم، متطرّفاً جداً بالنسبة إلى الجماعة.
وفي الواقع، اختلف الزرقاوي بشكل كبير مع بن لادن حول أهداف تنظيم «القاعدة» واستراتيجيته. إذ لم يهتم الزرقاوي في مناشدة جميع المسلمين. فعندما خطّط لاستراتيجيته في العراق، رأى فرصة لحشد الدعم السنّي عن طريق استغلال التوترات الطائفية وإشعال النار. وقد عُزّزت جهوده في التجنيد عندما استشهد به وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، عن طريق الخطأ، كحلقة وصل بين تنظيم «القاعدة» والرئيس العراقي السابق صدام حسين، الأمر الذي أكسبه شهرة وأتباعاً.
وكمنت الأهداف الأولى للزرقاوي في العراق في السفارات والأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والقادة الشيعة، وذلك بهدف عزل كلّ طرف من الأطراف وإجبار الولايات المتحدة على الوقوف في منتصف الحرب الطائفية الناجمة عن ذلك. ولم يكمن هدفه في تحرير العراق بل في دفع السنّة إلى إنشاء دولة دينية. وقد رفض مطالبات قادة تنظيم «القاعدة» وغيرهم من القادة الذين اعتبروا أن السنّة ليسوا على استعداد لإدارة دولتهم الخاصة بعد.
وبالتالي، بدلاً من الإرشاد المُسهَب لتنظيم «القاعدة»، نشر الزرقاوي مقاطع فيديو عنيفة لجذب المسلمين المتطرّفين. وأدرك أنه يمكن لأشرطة الفيديو التي تُظهِر الإعدامات أن تحمل تأثيراً دعائياً أكبر من التفجيرات التي تؤدّي إلى وقوع أعداد هائلة من الإصابات. وقد عُزّزت جهوده من قبل ضباط الجيش العراقي السابقين الذين كانوا من ذوي الخبرة في تشغيل الأجهزة الأمنية. وقد حافظ على شبكة استخبارات وإمدادات هائلة في العراق وتملّص من القوات الأميركية على مدى أكثر من سنتين.
وفي حين ركّز تنظيم «القاعدة» على عدوّ الإسلام البعيد، ركّز الزرقاوي على العدوّ القريب، أي الدول المحلية والحكّام المحليين، وذلك بهدف إعادة إحياء «الخلافة» عبر الحصول على دعم واسع النطاق من السنّة. وبعد ثماني سنوات من مقتل الزرقاوي، أعلن أبو بكر البغدادي علناً عن تحقيق هذا الهدف في مسجد في الموصل، وأثنى في إعلانه على الزرقاوي، لا على بن لادن.
ومنذ ذلك الحين، أظهر ما يسمّى تنظيم «داعش» مهارة في جمع الإيرادات. وحتى عند وصول سلفه تنظيم «القاعدة في العراق» إلى الحضيض خلال عام 2009، تمكن تنظيم «داعش» من جمع 200 إلى 250 مليون دولار سنوياً، وذلك بشكل حصري تقريباً من خلال عمليات الخطف والابتزاز. أما اليوم، ومع توسّع تنظيم «داعش» في الأراضي، فإنه يكتسب المزيد من العائدات من الضرائب والنفط والآثار وتجارة الرقيق. لكن قد تظهر صعوبة في هذا الإطار، إذا أصبحت المعاشات المخصّصة لأُسَر المقاتلين الذين قتلوا في ساحة المعركة عبئاً مالياً لا يمكنها تحمّله. فهذه العوامل تلزم تنظيم «داعش» على توسيع قاعدته الضريبية باستمرار. ومع ذلك يصعب تعطيل آليات التمويل الذاتي التي يتمتع بها.
أما بالنسبة إلى البروز المحتمل لـ«الصحوة السنّية» التي قد تتحدّاه في السيطرة على الأراضي، فإن تنظيم «داعش» يدرك التهديد ويعلن عن عقوبات قاسية كرادع ضدّ المتآمرين المحتملين. وفي حين نجحت القوات الأميركية تحت قيادة الجنرال ستانلي ماكريستال في عمليات القتل المستهدفة ضدّ تنظيم «القاعدة في العراق» في الماضي، فإن هذا الخيار غير متوفر ضدّ تنظيم «داعش». وبدلاً من ذلك، أصبح السنّة هم المحور الأهم في أيّ استراتيجية لهزيمة التنظيم.
ويل مكانتس
قبل حرب العراق، تصوّر الزرقاوي إقامة «داعش» باعتباره «نواة الخلافة»، ونظر إلى الصراع اللاحق باعتباره أفضل فرصة لتحقيق طموحاته. وقد أبعدته هذه الاستراتيجية عن التنظيمات الجهادية الأخرى التي تعتبر الولايات المتحدة عدوّها الرئيس.
وفي حين افتقر الزرقاوي إلى رؤية سياسية متطوّرة، قدم المنظّرون الآخرون إطاراً لمشروعه القائم على بناء الدولة. ففي عام 2004، كتب أحد أعضاء تنظيم «القاعدة» كتاب «إدارة التوحّش»، وهو عبارة عن خطة لإنشاء دولة دينية. إذ فصّل كيف يجب على «الجهاديين استغلال الفراغات الأمنية القائمة أو إنشاء فراغات خاصة بهم من خلال مهاجمة البنية التحتية الحساسة للدولة». فعند انحسار الدولة من أجل توحيد صفوفها وتنظيمها، يمكن للجهاديين ملء هذا الفراغ لتقديم الخدمات الاجتماعية والأمنية. وفي مرحلة ثانية، يمكن لهذه الأماكن التي يحكمها الجهاديون أن تتواصل مع بعضها البعض من أجل إقامة دولة. وفي هذا السياق، كان إعلان أبو بكر البغدادي الخلافة في عام 2014 الادّعاء الأول الجدير بالتصديق منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية.
ويتجلّى العامل الرئيس لهذه الاستراتيجية في جذب دعم المحليين السنّة، وهي قضية ثبت أنها تشكل فرقاً جوهرياً بين تنظيمَي «القاعدة» و«القاعدة في العراق» بقيادة الزرقاوي. واعتبرت القيادة المركزية أن الاستحواذ على القلوب والعقول أمر ضروريّ لدعم برنامجها السياسي، في حين تمثل رأي الزرقاوي في العمل لتحقيق هدف واضح من خلال الدقة والعنف إما لكسب الدعم السنّي أو لإجبار السنّة على الخضوع لأهدافه. وقد نصح تنظيم «القاعدة» بعدم اعتماد هذا النهج المتسارع في بناء الدولة، فتكتيكات الزرقاوي أغضبت العشائر والجماعات المتمردة السنّية، وتم تمكين سخطها وتوجيهه من قبل الوجود العسكري الأميركي في العراق، ما أدى إلى التراجع عن أول مشروع لـ«داعش» بين عامَي 2008 و2009. وبحلول ذلك الوقت، كانت الحركة قد تدهورت لتتحوّل من كونها عبارة عن تمرّد قابل للاستمرار إلى منظمة إرهابية سرّية.
لكن بعد هذه النكسة، اعتمدت الجماعات التابعة لتنظيم «القاعدة» عَلم تنظيم «داعش» ومشروع بناء الدولة في الأماكن التي كانت فيها الدولة العراقية قيد الانهيار أو غائبة. وابتداءً من عام 2012، وفّرت الحرب السورية فرصة إضافية للتنظيم. فقد أدركت عدّة عشائر عربية سنّية أنها محرومة من حقوقها وعلى استعداد لمساعدة تنظيم «داعش» لأنها رأت أنه البديل الأفضل إما لنظام الأسد أو للدولة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة على نحو متزايد. وفي البداية، تعاون تنظيم «داعش» مع الفصائل الأخرى في هذه الأماكن، ولكن مع مرور الوقت سعى إلى فرض جدول أعماله والقضاء على المنافسين.
وفي النهاية، ربما سيكون مصير التنظيم مماثلاً لمصير غيره من «الدول الجهادية» التي انهارت جميعها. ومع ذلك، لم تفشل هذه الدول بسبب سوء الحوكمة أو الوحشية المفرطة، إنما لأنها جذبت أعداءً أجانب أقوياء وحازمين. وفي حين أن تنظيم «داعش» قد خلق عدداً من الأعداء في العراق وسورية، إلا أن معظمهم يركز حالياً على أولويات أخرى. وعلى رغم أنّ جهوده المستمرّة بغزو جميع أراضي المسلمين ستكسبه المزيد من الأعداء، إلا أن الاضطرابات المستمرة في المنطقة وغياب الإرادة لدى أولئك الذين يعارضونه قد تسمح للتنظيم بالانتشار والتوسّع. ويعترف تنظيم «داعش» بحدود معينة، بيد أنه يعرف أنه لا يمكنه التقدّم نحو مكّة ولا القدس في الوقت الحاضر.
وخلاصة القول، إن نهج الولايات المتحدة السابق في العراق خلال «صحوة الأنبار» يشكّل أيضاً العامل الرئيس لهزيمة تنظيم «داعش» في الوقت الحالي. إن دعم العشائر العربية السنّية يجب أن يكون نقطة محورية في أيّ استراتيجية لمواجهة الجماعة، وهو شرط يستثني بالتأكيد إيران وروسيا من أيّ تحالف قابل للاستمرار ضدّ تنظيم «داعش».
هارون زيلين
يتّبع تنظيم «داعش» نمطاً في توسيع السلطة وتطويرها وتوطيدها. وعلى رغم أنّ هذا النهج كان في البداية عبارة عن عملية موقتة تتكيّف بحسب الظروف، إلا أنها تتم الآن بشكل منهجيّ، وهذه البيروقراطية تسمح للتنظيم بالعمل باستمرار عبر المحافظات المختلفة وبين الأراضي والمناطق الرئيسة وتلك الواقعة في المحيط الخارجي. وفي حين تتم بعض الخطوات في آن، غالباً ما تكون هذه العملية عبارة عن تقدّم خطّي متسلسل: العمليات الاستخبارية، تليها العمليات العسكرية، وأنشطة الدعوة وأنشطة الحسبة الشرطة الأخلاقية وحماية المستهلك والحوكمة.
وتشمل المرحلة الاستخبارية تنظيم الخلايا النائمة وتسلل المجموعات المختلفة. وفي الأراضي مثل سيناء وليبيا وسورية، لا يبدأ تنظيم «داعش» عمله من الصفر، بل يدمج الشبكات الجهادية الموجودة في إطاره، ما يسمح للجماعة باكتشاف التضاريس المحلية بسرعة. وبعد ذلك يتّبع التنظيم أساليب قتالية غير متماثلة مثل هجمات الكرّ والفرّ والسيارات المفخّخة. أما الأنشطة «التبشيرية»، والتي تشمل الأطراف المتلقية للدعاية وتوزيع بطاقات هوية إلكترونية، فهي تسمح للجماعة بإبلاغ السكان الخاضعين لسيطرتها، وتوجيه خطابها العام، وتوحيد كوادرها. كما وتم إنشاء مكاتب العلاقات العامة لجمع الأطراف المتخاصمة سوياً وإدارة التحكيم، في حين تشمل أنشطة الحسبة حرق المواد المحظورة والرموز الدينية غير السنّية. بعد ذلك يفرض تنظيم «داعش» الضرائب وقوانين أوسع نطاقاً ويقدّم الخدمات الاجتماعية. وفي الوقت الحالي، تشكل مصادرة الأملاك أكبر مصدر لإيرادات الجماعة، ولكن هذا أمر لا يمكن الاعتماد عليه على المدى الطويل.
ويفتقر تنظيم «داعش» إلى السيطرة الكاملة في معظم المناطق، ولكنه يعمل على تحقيق مستوى من الحياة الطبيعية في جميع أنحاء مناطقه وأراضيه. فالأعلام السوداء موجودة في كلّ مكان، وقد أعيدت تسمية بعض المناطق، كما تُظهِر مشاريع الأشغال العامة أن الجماعة تقدّم الخدمات للسكان المحليين. إضافة إلى ذلك، أعاد التنظيم تشغيل عدد من الصناعات مثل معالجة المياه والزراعة وإنتاج السلع.
وبقيت السلطات في تنظيم «داعش» يقِظة ضدّ أخطار «الصحوات» المحتملة، وذلك عبر قمع ثلاث «صحوات» حتى الآن في العراق وليبيا، ودير الزور في سورية. إلى جانب ذلك، فهي ترصد بدقّة الإنترنت ووسائل الإعلام، وبعد بسط سيطرتها في المنطقة، اعتمدت برامج إعادة تأهيل للقادة المحليين والمواطنين. أضف إلى ذلك أنها تستخدم المكائد للقضاء على المعارضة. وفي حين أن بعض الأفراد في الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» يلتزمون بقضية الجماعة، فإن آخرين يبقون صامتين فقط للبقاء على قيد الحياة. وبمجرد رسوخه سيصبح من الصعب استئصال التنظيم، على رغم أنّ قبضته أقل شدّة في سورية مما هي عليه في العراق. فالأراضي الوحيدة التي خسرها تنظيم «داعش» هي تلك التي لم يفرض عليها سيطرته الكاملة قط.
وأخيراً، في حين يركّز تنظيم «داعش» على عدوّ قريب في الوقت الحالي، يمكنه في النهاية استخدام أراضيه كملاذ آمن لشنّ عملية إرهابية أجنبية واسعة النطاق على غرار هجمات 11 أيلول، وذلك بهدف كسب الأتباع وارتداء عباءة تنظيم «القاعدة».
«دير شبيغل»
متحفظ، مهذّب، متملّق، شديد الانتباه، كتوم، غير صادق، غامض، شرير. تلك هي الصفات المختلفة التي استخدمها «الثوار» في شمال سورية لوصف انطباعاتهم عن الرجل بعد مضي أشهر من لقائهم به، لكنهم اتفقوا على أمر واحد: عدم معرفة أيّ منهم هوية الشخص الذي تعامل معه على حقيقتها.
في الواقع، حتى أولئك الذين أطلقوا النار على الرجل الطويل الخمسينيّ وقتلوه عقب مواجهة قصيرة في مدينة تل رفعت في كانون الثاني عام 2014، لم يعوا هويته. لم يدركوا أنهم قتلوا المخطّط الاستراتيجي للمجموعة التي تسمّي نفسها «داعش». وقد كسبوا تلك الفرصة نتيجة خطأ نادر لكنّه قاتل من قبل المخطّط الفذّ. وضع «الثوار المحليون» الجثة في ثلاجة كانوا قد عزموا على دفنه فيها. إلا أنهم تراجعوا عن ذلك بعدما أدركوا أهمية الرجل.
اسمه الحقيقي كان سمير عبد محمد الخليفاوي وهو عراقي الجنسية. تغطّي ملامح وجهه النحيل لحية بيضاء. لكن لم يكن يعرفه أحد بذلك الاسم. حتى اسمه الحركي الأكثر شهرة «حجي بكر» لم يكن معروفاً على نطاق واسع، إلا أن ذلك بالتحديد كان من ضمن المخطّط. كان عقيداً سابقاً في استخبارات الدفاع الجوّي لصدام حسين، وكان يعمل على إنشاء «الدولة الإسلامية» في السر. وقد وصفه أعضاء المجموعة السابقين مراراً بأنه أحد قادتها. على رغم ذلك، لم يكن دوره واضحاً تماماً.
عندما مات مصمّم «داعش» ترك خلفه سرّاً أراد أن يبقى كذلك، وهو مخطّط «دولته». إنه ملف يضمّ عدداً من الجداول التنظيمية المكتوبة بخطّ اليد والقوائم التي تبيّن كيفية إخضاع دولة ما تدريجياً.
حصلت «دير شبيغل» بشكل حصري على صفحات الملف الواحدة والثلاثين التي تم لصق بعض منها ببعضه. تُبيّن تلك الصفحات تركيباً معقّداً وتوجيهات تم اختبار البعض منها والبعض الآخر تم استحداثه للسيطرة على الفوضى التي حلت في مناطق سيطرة «الثوار». ويمكن اعتبار هذه الوثائق مرجعاً لأنجح جيش إرهابي في التاريخ الحديث.
معلومات كثيرة حصلنا عليها حتى الآن في خصوص «داعش»، مستقاة من المقاتلين المنشقّين ومجموعات البيانات التي صودرت من إدارة «داعش» الداخلية في بغداد. إلا أن كل ذلك لم يقدّم تفسيراً لصعود التنظيم الصاروخي إلى الشهرة قبل أن تكبح الضربات الجوّية في أواخر صيف عام 2014 مسيرته الناجحة.
وقد أتاحت وثائق «حجي بكر» الفرصة للمرة الأولى لاستنباط الاستنتاجات عن تنظيم قيادة «داعش» وعن دور المسؤولين في حكومة صدام حسين فيها. والأهم من ذلك كله أنها بيّنت كيف تم التخطيط للاستيلاء على شمال سورية ما مهّد الطريق أمام المجموعة للوصول إلى العراق. إضافة إلى ذلك، اتضح بعد أشهر من البحث الذي قامت به «دير شبيغل» في سورية أن تعليمات «حجي بكر» قد تم تنفيذها بدقة متناهية حسبما بيّنت الوثائق الجديدة التي حصلت عليها «دير شبيغل» حصرياً.
قبعت تلك الوثائق لفترة طويلة مخبّأة في بيت في شمال سورية المضطرب. وكان أول الدلائل على وجودها شهادة شخص كان قد وجدها في بيت «حجي بكر» بُعَيد موته. وفي نيسان عام 2014، هُرّبت صفحة واحدة منها إلى تركيا حيث تمكنت «دير شبيغل» من فحصها للمرّة الأولى. ولم يتسنَّ لنا الوصول إلى «تل رفعت» لفحص المجموعة الكاملة من الأوراق المكتوبة بخطّ اليد حتى تشرين الثاني 2014.
وقد قال الرجل الذي كان يخزّن مذكّرات «حجي بكر» بعدما استخرجها من تحت الصناديق واللّحف المكدّسة، «إن جُل اهتمامنا كان منصبّاً على عدم وقوع هذه المخطّطات في الأيدي الخطأ، وعدم معرفتنا بها أبداً». نتحفظ على هوية هذا الرجل بناء على رغبته خوفاً من كتائب الموت التابعة لـ«داعش».
الخطة الأساسية
تبدأ قصّة هذه الوثائق في وقت لم يُسمع فيه بـ«داعش» بعد. عندما سافر «حجي بكر» العراقي الجنسية إلى سورية في بعثة أولى في أواخر عام 2012 كان يحمل معه خطة تبدو غريبة، ألا وهي أن يستحوذ «داعش» على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، ثمّ يتخذها منصة ليغزو منها العراق.
اتخذ بكر منزلاً عادياً غير مميّز ليسكنه في «تل رفعت» شمال حلب. وقد كان اختياره للمدينة موفقاً. ففي الثمانينات من القرن الماضي هاجر عدد من سكانها للعمل في دول الخليج وبالأخص المملكة العربية السعودية. ثم عادوا حاملين معهم أفكارهم وصِلاتهم المتطرّفة. وبذا أصبحت «تل رفعت» معقلاً حصيناً لـ«داعش» في 2013 في محافظة حلب التي تحوي مئات المقاتلين المتمركزين فيها.
وهناك قام «أمير الظلام» ـ كما يحلو للبعض أن يسموه ـ برسم بنيان «داعش» من قمته حتى قواعده المحلية في المدن، ونظّم قوائم تتناول التغلغل في القرى وتحدّد المشرفين والعاملين. كما وضّح تسلسل القيادة في النظام الأمني مستخدماً قلم حبر سائل وأوراقاً من وزارة الدفاع السورية تحمل شعار القسم المعني بالتأثيث وأماكن الإقامة بما يفترض أنه مصادفة بحتة.
إن ما كتبه «حجي بكر» على هذه الأوراق، صفحة صفحة، من تفاصيل تشمل مسؤوليات الأفراد لا يقل عن كونه مخطّط احتلال. لم يكن منشوراً دينياً بل خطة دقيقة لإنشاء «دولة استخبارية إسلامية» ـ «خلافة» تترأسها منظمة شبيهة بوزارة الأمن في ألمانيا الشرقية «ستاسي» سيئة الصيت.
لقد تم تطبيق هذه الخطة بدقة مذهلة في الأشهر التي تلت إعدادها. تبدأ الخطة دائماً بالتفاصيل نفسها: تجتذب المجموعة تابعيها عبر افتتاح مكتب دعوة «مركز إسلامي تبشيري». ويتم اختيار شخص أو شخصين ممن يحضرون الدروس والندوات الدينية ويوكلون بمهمة التجسّس على قُراهم للحصول على معلومات عدّة. وفي هذا الخصوص كتب «حجي بكر» قوائم كما يلي:
ـ حدد العائلات ذات النفوذ.
ـ تعرّف إلى مصادر دخلهم.
ـ تعرّف إلى أسماء كتائب «الثوار» في القرية وأحجامها.
ـ اعرف أسماء قادتهم ومن يتحكّم بالكتائب وتوجهاتهم السياسية.
ـ تعرّف إلى أنشطتهم غير المشروعة «بحسب قانون الشريعة» للاستفادة منها بالابتزاز إن لزم.
وقد أُعطيت الأوامر للجواسيس بالأخذ بالاعتبار تفاصيل كالسوابق الإجرامية لشخص أو ميوله الجنسية الشاذة أو ارتباطه بعلاقة سرّية، وذلك لاستخدام هذه المعلومات لابتزازه لاحقاً. وكتب «حجي بكر» في مذكراته: «سنعيّن أذكى العملاء شيوخاً للشريعة. ندرّبهم لفترة يوفدون بعدها». كما أضاف على الحاشية بأن عدداً من «الإخوة» سيتم اختيارهم وتزويجهم ببنات أكثر العائلات نفوذاً لضمان التغلغل في هذه العائلات من دون إدراكها ذلك.
كما تقع على عاتق الجواسيس مسؤولية جمع أكبر قدر من المعلومات عن البلدات المستهدفة، من مثل هوية سكانها ومن المسؤول عن إدارتها، تحديد العائلات المتدينة والمدارس الفقهية التي ينتمون إليها، عدد المساجد في البلدة وهوية أئمتها وعدد زوجاتهم وأطفالهم وما هي أعمارهم. إضافة إلى تفاصيل أخرى تشمل طبيعة خطب الإمام وتوجّهاته إن كانت أقرب إلى الصوفية، وإن كان مع النظام أم مع المعارضة، وموقفه من الجهاد. كما سعى «حجي بكر» إلى معرفة إن كان الإمام يتلقى راتباً ومن يدفعه، ومن المسؤول عن تعيين الإمام. وأخيراً معرفة كم من الناس في البلدة ينادون بالديمقراطية.
كانت وظيفة الجواسيس تتلخص في تقفّي آثار أصغر الشقاقات وكذلك أعمقها، ما يمكن استخدامه لزرع الفرقة وقهر السكان المحليين. كان من ضمنهم جواسيس تابعين للاستخبارات سابقاً، إضافة إلى معارضين للنظام كانوا قد تشاجروا مع إحدى مجموعات «الثوار». بينما كان بعضهم شباناً وفتية وجدوا في هذا العمل ما يسدّ شوقهم للمغامرة أو حاجتهم إلى النقود. ومعظم المخبرين الذين جنّدهم «حجي بكر» كأولئك في «تل رفعت» كانوا في أوائل العشرينات من العمر، مع بعض ممن هم في عمر السادسة عشرة أو السابعة عشرة.
ومن جهة أخرى، تضمّنت المخطّطات أموراً مثل المالية والمدارس والحضانات والإعلام والنقل. لوحظت قواسم مشتركة بينها جميعاً تم الإعداد لها بدقة فائقة في الهياكل التنظيمية المرسومة وقوائم المسؤوليات والتقارير المطلوبة ألا وهي المراقبة والتجسّس والقتل والخطف.
وفي مخطّطاته تلك، عين «حجي بكر» أميراً أو قائداً لكل مجلس إقليمي مهمته أعمال القتل والخطف والقنص والاتصالات والتشفير، إضافة إلى تعيينه أميراً آخر ليشرف على باقي الأمراء «في حال عدم قيامهم بمهامهم بشكلٍ وافٍ». ما يجعل نواة هذه «الدولة الإلهية» تحاكي خلية شيطانية بدقتها وعملها على نشر الخوف.
كانت الخطة تقضي منذ البداية بعمل أجهزة الاستخبارات بشكل متوازٍ مع بعضها، حتى على المستوى الإقليمي. إذ يترأس قسم الاستخبارات العامة أميراً للأمن يشرف بدوره على نوابه في المقاطعات المختلفة. ويتلقى هولاء النواب تقارير من رؤساء الخلايا الجاسوسية ومدراء المعلومات الاستخبارية لكل مقاطعة. كما يتلقى نائب الأمير تقارير أيضاً من أفراد الخلايا التجسّسية على المستوى المحلي. فالهدف كان أن يراقب الجميع بعضهم. ويترأس أمير المقاطعة كذلك مدرّبي القضاة الشرعيين لتقصّي المعلومات، بينما يتولى الأمير المحلي مهمة الإشراف على قسم منفصل «لضباط الأمن».
الشريعة والمحاكم والتقوى المفروضة كلّها تخدم هدفاً واحداً المتمثل في المراقبة والسيطرة. حتى أن الكلمة التي استخدمها «حجي بكر» في وصفه أتباعه من المسلمين الحقيقيين هي «التكوين»، وهي كلمة ليست دينية، إنما مصطلح تقني يستعمل في علم الجيولوجيا أو البناء. ومع ذلك، وجدت هذه الكلمة طريقها منذ 1200 سنة خلت إلى الشهرة، إذ استعملها علماء الكيمياء الشيعة كمصطلح يصف خلق حياة اصطناعية. وفي «كتاب الأحجار» الذي كتبه العالم الإيراني جابر بن حيان نجد رموزاً وكتابات سرّية عن خلق إنسان قزم. جاء فيه «الغاية هي خداع الجميع عدا أولئك الذين يحبون الله». قد يروق هذا لاستراتيجيي «داعش» على رغم نبذهم الشيعة ككفرة لا يؤمنون بالإسلام الحقيقي، إلا أنه بالنسبة إلى «حجي بكر» فإن الله والدين البالغ من العمر 1400 سنة لم يتجاوزا كونهما أدوات يستخدمها على هواه لبلوغ غايته الأسمى.
البناء / إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق