السيمر / السبت 27 . 01 . 2018
جاسم العايف
بعد مجموعته القصصية الأولى ” فراشة على غصن ميت” 2007. صدر للقاص رمزي حسن مجموعته القصصية ” ذاكرة الزمن” * . قسمت على قسمين: الأول( قصص) والثاني (نصوص). عن تقسيمه هذا ، ذكر رمزي في حوار معه: ” أردت أن أجمع بين اشتغالين مختلفين في بنيتهما، لكنهما يشتركان في السرد”، الذي يعده هماً إنسانيا كبيراً لا يستطيع الابتعاد عنه. ” رمزي حسن” عمل على الاستفادة من طرفين هما، الذاكرة والزمن وقد اشتغل عليهما وزاوج بينهما في قصصه. الذاكرة هي ذاكرته الشخصية، وكذلك الزمن فهو زمنه ، ذلك الزمن الذي عاشه وشهد أحداثه، وحاول، هنا، أن ينفض عنه غبار النسيان لإنقاذه من الضياع. وأكد في الحوار :” إذا كنت انشغلت بالكتابة عن الزمن، في هذه المجموعة، فلأن الزمان كان يشكل لي، ولا يزال، لغزاً عظيماً، وأظنه كذلك بالنسبة إلى الآخرين”.إن وجودنا، تعاستنا وأفراحنا، وكل ما اختزناه من صور ومواقف ينبغي تحويلها إلى أثر، لأن الكتابة هي، في نهاية الأمر، وثيقة اتهام وشهادة تبرئة. لا حدود بين الأجناس الأدبية، و التنافذ بينها هو انعكاس لوحدة الوجود، فلا شيء اليوم سوى الكتابة كما قال (لوكليزيو و بارت). الكتابة هي العنوان العام لكل النصوص النثرية، لذا لجأ رمزي إلى إطلاق صفة (قصص ونصوص) على مجموعه القصصية هذه كونها تنطوي،و تفترض رؤية مغايرة في كتابه القصصي الثاني ، قياساً إلى قصصه السابقة التي امتازت بالجملة الطويلة والحدث الخطي والبناء الكلاسيكي. ضم القسم الأول من “ذاكرة الزمن” (21) قصة ، ولا يمكن تجنيسها جميعاً ضمن القصص القصيرة ، فمن خلال فحصها نجد أن بعضها من ناحية الحجم والتوجه السردي ، تتميز بالتكثيف والاختزال إضافة لمحدودية زمنها الفني بالاقتران مع ثيماتها، وهذا ما يجعل بعض قصص المجموعة تقع في دائرة (القصة القصيرة جداً) كونها تبتعد عن البناء المحدد بحثياً لجنس (القصة القصيرة). متجاوزاً ، رمزي حسن، فيها البنى المشكلة للقصة القصيرة ، وفي الأهم تجليات السرد.فالسرد له أساليب عدّة, تكون لدى السارد بما يشبه الأدوات بين يديه ، والسارد يعمد في اختياراته الأداة والمنحى الذي يناسب ما يطمح لإظهار توجهاته وما يشعر به ويسعى لتقديمه، مستثمراً ما يراه مناسباً من تقنيات سردية فنية. فـالسرد هو من الأساليب المتّبعة في القصص والروايات وكذلك المسرحيات و اليوميات والمذكرات وهو ينسجم مع طبع الكثير من الكتّاب وأفكارهم وذلك لمرونته وكشف مقدرة الكاتب وتوجهاته الفكرية وقدراته الفنية, و يعد أداة للتعبير, ويقوم الكاتب بواسطته بترجمة الأفعال وردودها والسلوكيات والأماكن، بأسلوبه الخاص، وعلى وفق إمكانياته الشخصية وتوجهاته الفنية والفكرية و الاجتماعية ، وبذلك يكون الكاتب قد قام بتحويل المحكي وترتيب الأحداث في نصه مع الانسجام أو عدمه، بين توجهاته وأفكاره، عبر اللغة التي تطرح تلك المعاني. وفي السرد الفني تنعدم الحاجة لتقديم المواعظ والحِكم , وذلك لأن السرد يظهر كل ما هو ممكن، وإن حصل ما هو عكس ذلك فهو زيادة وحشو يضعفانه ويؤثران سلباً في بنية المسرود ، وينشأ من هنا الضعف في تركيبته. وللسرد صيغ متنوعة فيمكن أن يروى شفهياً أو كتابة أو حواراً أو أن يكون عن طريق الصور والإيماءات، وقد يقع أيضاً بصيغ فنية مبتكرة يلجأ إليها القاص عندما تقتضي إليه الحاجة فنياً، وحسب (رولان بارت) فـ: السرود لا حصر أو عدَ لها. بشأن (السرد وتقنياته) ، يمكن العودة إلى عدد لا يُحصى من المصادر العربية والأجنبية المترجمة، وشبكة الانترنت العالمية،ونؤكد على استفادتنا منها. القسم الأول من مجموعة “ذاكرة الزمن” يهيمن عليه (الرواي) الوحيد الذي يطرح كل ما يراه ويشعر به ذاتياً.ففي قصة (شيء ما) والتي تتميز بالاقتصاد في السرد وكثافة الحوار، بين الابن والأم واعتراف الابن ارتكابه كثير من (الخطايا)؟!.من وجهة نظر الأم، التي تترك ابنها دون مساعدة أو معالجة، جراء ما حل به نتيجة تلك الأفعال، والغامضة علينا؟!.
” – ما بك يا ولد ؟.
هتفت أمي وقد سحبت إصبعها.
– كيف استطاع هذا الشيء أن يندس في أحشائك.. هل اقترفت خطيئة ما؟!.
– خطايا يا أمي ؟!.
حاولت أمي مرة أخرى، وطفقت تسحب مجدداً،سحبت قدراً كبيراً من تلك القذارة، خيوط من دم اسود، كانت تندلق معها أحشائي”. ثم تتوقف الأم مقررة:” يجدر بك أن تفعل ذلك وحدك..قالت ذلك وانسّلت عبر الباب كالشبح”(ص 10-11). وهو موقف وعقاب تمارسه الأم تجاه ولدها ويقع خارج التوجهات الطبيعية لحنان الأم التي لا يمكن أن تفرط بحياة ابنها في الواقع ، وأراد منه الراوي-القاص- أن يضع، أسمى التوجهات والعلاقات الإنسانية في منطقة نائية حتى عن حدود المألوف و الطبيعة البشرية. أما قصة “الكلمة التي طال انتظارها” والتي تعالج برودة الحياة الزوجية بعد زمن طويل في حياة معتادة رتيبة وانعدام العاطفة والتفاهم المشترك بين الزوج والزوجة، تنتهي بانتحار الزوج، لكن الزوجة تكتشف ما لم تعرفه أو يعبر عنه الزوج عندما: ” وجدته منكفئاً على مكتبه،فيما تجمد خيط من الدم في زاوية فمه،والتصق بورقة فيها بضع كلمات” و تقرأ ما كتبه الزوج في الورقة والتي يعبر فيها عن حبه لها مؤكداً ، بعد فوات الأوان:”لأنني ضيعتكِ، كلانا خسرنا. لأنني لم أجد امرأة تحبني، مثلما أحببتني أنتِ،لأنكِ لم تجدي رجلاً يحبك، مثلما أحببتك!”(ص 25 ).وهذا إشارة واضحة لانعدام التفاهم والانسجام في الحياة اليومية، التي تضغط عليها قوى قاهرة وظروف حياتية مُعطاة ولا أمل في تجاوزها ، و تفقد الفرد قدرة التعبير عن مشاعره الإنسانية تجاه اقرب الناس إليه. كما يحتوي هذا القسم على قصص أخرى نلاحظ فيها شفافية السرد والكثافة ورشاقة العبارة. ومنها ” نزاع وفوبيا ، و ووجه الحياة البهي ، وليلة تنفيذ الإعدام ،والموت العبثي،و الحنجرة الذهبية،وهروب والشيخ والصخرة وعين الطائر..الخ، ومنها : “حكاية معطف”(ص48) وهي قصة مملؤة بالمرارة عن سنوات الحروب المتواصلة التي خضع لها الإنسان العراقي، إذ يبقى (المعطف) معلقاً دائماً في محل “لغسل الملابس” ومالك المحل يضعه، بإصرار، في واجهة محله يومياً بانتظار عودة صاحبه لاستلامه ، ونعلم ، من خلال السرد، أن صاحب المحل هو (والد) صاحب المعطف الذي يغالب غياب (الابن) و يعي أن صاحب (المعطف) لا أمل بعودته نهائياً، إذ قضي عليه خلال الحروب المتواصلة، لكنه يتشبث بتعليق معطفه:” نظيفاً لامعاً دائماً في واجهة محله المخصص لغسل الملابس وكويها”، منتظراً صاحبه، فلعله يعود لاستلامه، وممارسة الأب تعليق(المعطف)يومياً في واجهة محله بمثابة احتجاج معلن على مصير(الابن).وفي قصة “اعتقال”، نتلمس في عنوانها وبدايتها مُباشِرةٍ واضحةٍ ومحددةٍ بالأسماء والأماكن القاسية المعروفة زمن النظام السابق، ومنها “جهاز المخابرات العراقي” وتعاون “المخابرات اليوغسلافية” معه ، فعبر التفاهم المشترك بينهما ، يُلقى القبض على الطالب “نشأت” الذي كان يدرس في جمهورية (يوغسلافيا) : “حين قامت عناصر امن السفارة العراقية وبمساعدة جهاز المخابرات اليوغسلافي باعتقاله، ثم قاموا بتخديره ووضعوه داخل تابوت أنيق، ملفوف بـالعلم العراقي، ونقل عبر الخطوط الجوية العراقية، إلى بغداد”. يخضع “نشأت” لعذابات بشعة، ثم يقبع سنوات في مبنى (حاكمية المخابرات) ، وتبقى أمه تفتقد بلوعة وكمد وعذاب رسائله والتي انقطعت فجأة، بعد أن كانت متواصلة إليها اسبوعياً، فيعمد إخوته وهم يرون قلق الأم والقنوط الذي هيمن عليها، على إرسال رسائل منتحلة باسمه إليها ،لكنها لم تقتنع أو تعبأ بها. القاص “رمزي حسن”،في هذه القصة، إضافة لابتعادها عن الملامح الفنية ، و التقريرية الواضحة التي شابتها، قد ارتكب هفوة غريبة ، عندما ذكر: “كان نشأت،وهذا هو اسمه، مسؤولاً لمنظمة اتحاد الطلبة في (يوغسلافيا)،وطالباً في قسم الهندسة المعمارية في الجامعة التي تقع في العاصمة اليوغسلافية (براغ)”!!. ويكرر مدينة (براغ)، بصفتها عاصمةً لـ(يوغسلافيا) ، في الصفحات (52 – 55)، بينما (براغ) كانت عاصمة جمهورية (جيكسلوفاكيا) ، والعاصمة اليوغسلافية التي كان يدرس في جامعتها” نشأت” ،حسب القصة، هي (بلغراد) حينها!!.ضم القسم الثاني من “ذاكرة الزمن” والذي أطلق عليه القاص (نصوص) في عنوان المجموعة أولاً وكذلك في الصفحة(87) ، تسعة نصوص نستطيع أن ندرجها بما يسمى حالياً بـ(الكتابة المفتوحة). وتتشكل هذه المواد من نصوص صغيرة لا يتجاوز بعضها نصف الصفحة ، و تهتم بالمكان وملامحه وسماته وكذلك تقتفي اثر الزمن الذي عمد القاص لاستغلاله في نصوصه بشكل مكثف. كما يتجلى في “ذاكرة الزمن” ، عالم الذات ، بكل ما فيها من نكوص واستلاب كامن في الروح الإنسانية. ومن هنا، كانت معظم قصص ونصوص “ذاكرة الزمن” فنتازية وأقرب منها إلى الأحلام ، ويشوبها بعض الغموض الذي لا يمكن تفسيره ، و التقنيات السردية التي اعتمدها القاص في بعض قصصه ، تتسم بالاقتصاد ، وعدم رتابة اللغة كونها سريعة الإيقاع، وانعدام التمدد في الزمن الفني ، ولا ثمة فائض في الشخصيات ، وهي من المحددات الفنية والأساسية لجنس(القصة القصيرة جداً) وكذلك (النصوص المفتوحة).لاحظنا أنه لم يتم الاهتمام اللائق فنياً بإخراج الكتاب ، عبر عشوائية تنسيقه وتبوبه وعنونة متونه ، و تم حشر أكثر من (قصة أو نص) في صفحة واحدة، كما في الصفحات(8 و27و67 و72و 76 )، دون إيلاء فضاء القراءة والتلقي الاهتمام المناسب فنياً .
*إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين – البصرة – دمشق- الغلاف: الفنان صالح جادري