السيمر / الأحد 18 . 03 . 2018
جاسم العايف
عُرف الباحث “خليل المياح” ،الذي توفى ليلة 15 /3 /2011 ، بمزاوجته للكتابة الفلسفية والسياسية والأدبية ، و ترافق مع هذه الاهتمامات عمله السياسي- النضالي منذ منتصف خمسينيات القرن المنصرم عندما كان طالباً في مرحلة الدراسة الإعدادية بالبصرة ، إذ انتمى فيها للحزب الشيوعي العراقي. وقد دفعه العصف الدموي الذي حل بالعراق بعد انقلاب 8 شباط عام 1963 إلى الهروب نحو إيران مع زوجته و طفلته ذات العام الواحد، ، إلا انه وقع في كمين قاده وأسرته الصغيرة إلى معسكر العراقيين الهاربين ، والذين ألقت سلطات سافاك الشاه القبض عليهم ، ثم سلمتهم إلى السلطات العراقية بعد انقلاب 18 تشرين 1963، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات قضى زمناً منها في سجن مدينة الحلة. نشر “المياح” كتاباته في الصحف والمجلات العراقية والعربية بعد منتصف الستينيات ، و ساهم بداية السبعينيات مع “جماعة 12 قصة بصرية” في حلقتها الثانية، وخلال الحملة الشرسة التي قادها نظام صدام ضد القوى الديمقراطية توقف عن النشر ، وبعد سقوط النظام عاوده في المجلات والصحف العراقية والعربية . وساهم ببحث في الكتاب النقدي المعنون”الأدب والفنون الأخرى” الذي أصدره “اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة” عام 2007. وله قيد الطبع رواية بعنوان”جذور المتاهة” ومجموعة قصص قصيرة ، وساهم في تأسيس منتدى الشطرة الإبداعي وكذلك البيت الثقافي في الشطرة. صدر للراحل( خليل المياح) كتابه “استقلالية العقل أم إستقالته؟”*. ضم الكتاب خمسة عشر مقالاً متنوعاً ، وغالبية هذه المقالات محاولة لفهم جوهر المعنى الفلسفي، أي تبيان الطبيعة، تلك الطبيعة التي فصلتها الميتافيزيقيا عن الإنسان وسعت بذلك لتزيفيها، ويؤكد الكاتب في مقدمة الكتاب بأن في المنطق الكلاسيكي ثمة ما يسمى بالثالث المرفوع أي(الممنوع) ضمن تساؤلات عن الروح هل هي حلو أم مر؟ أخضر أم لا أخضر؟ و مقالات الكتاب محاولة للبرهنة الدلالية على إن الثالث كمبدأ هيجلي موجود كون إن “كانت” كان يخفض العلم ليشق الطريق للإيمان بينما “هيجل” جاء ليؤكد معرفة (الشيء في ذاته)، وكذلك اعتبر”لوكاتش” انه لا توجد عوامل خارجية عن النمو التاريخي . ويحدد “هنري لوفيفر”رؤيته للمطلق بأنه قناع يبرر به الإنسان استثمار غيره من البشر و إن الماضي التاريخي للإنسان أكد صوابية العبد الثائر”سباتكوس” عندما ذكر: إننا نتفلسف كي نقف وننظر بوجه الطغاة بدون رعدة أو إغضاء عن أيدلوجيتهم الماكرة. كما المعتزلة الذين ذهبوا في تاريخنا الإسلامي-العربي إلى الدعوة والعمل على عقلنة الفهم الإسلامي للعالم والمحيط الذي به يعيشون ،ومعه فقهياً يتعاملون، بعيداً عن اشكلة الإنسان على الإنسان كما ذكر ذلك “التوحيدي”. لقد حاول الكاتب “المياح” في أغلب مقالات كتابه البحث والتنقيب في المقولات الماركسية الكلاسيكية وأراد المزاوجة بينها وبين الحداثة، في محاولة منه لقراءة الأطروحات السياسية- الدينية الراهنة لغرض تفكيك بنية خطابها الديني والمذهبي ،في هذه المرحلة التي تشهد صعوداً غير مسبوق للهويات الدينية – الفرعية بالذات، وفي بحوثه المنشورة في كتابه يتابع المياح طروحات بعض الكتاب المتأسلمين المتزمتين من كل الطوائف و يطلق عليهم “الارثذوكسين الجدد والقدامى” الذين يرون أن لا ضرورة تدفع بنا لقراءة الفلسفة طالما كانت تعبر عن “ابستيمولوجيا غربية” وغالبيتهم تؤكد إننا نملك فلسفتنا الخاصة والتي نطق بها الفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد ، وبعد استقصاء يؤكد إن هؤلاء “الأفذاذ من العرب والمسلمين كلهم قد تأثروا بشكل أو بآخر بأفلاطون” الذي أطلقوا عليه “الالاهي” وكذلك بـ”أرسطو” حتى إن مفردة(المشائين)كانت سائدة بينهم مستثنياً من ذلك الكندي الذي كانت له منطلقاته العربية الخالصة، ويذهب الكاتب إلى إن التراث الذي يقدسه السلفيون ،ليس قيمة بذاته،إلا بقدر ما يعطي من رؤية علمية في تفسير الواقع خاصة في عصرنا وزماننا الراهن و الذي يتميز بسيادة”الرأسمالية المتوحشة” وعولمتها التي تريد المساواة بين الذئاب و فرائسها. أن التعرف على الظاهرة الدينية أمر متعذر إذا أهملنا مناهج التاريخ المقارن للأديان كون إن الإيمان تركيبية نفسية ، وجذرها منعكسات اجتماعية تاريخية ، ومن هنا فان الازدراء غير وارد في دراساته لهذه المسألة ، بل المواجهة من خلال”ارخنة”كل ما نُزعت عنه تاريخيته وجرى ربطه تعسفاً بالمقدس أو المتعالي وتم تناسي جذوره ومحايثاته الواقعية بتعمد وتزوير، من قبل الكتاب والمنظرين السياسيين- المتأسلمين، حيث إن عصرنا يميل إلى رفض الثقافة القديمة التي تميل إلى التعلق بأهداب المعجز والعجيب والمدهش من الأفعال من قبيل “إيقاف الشمس عن مسارها بإشارة ما”، كما لا يمكن ولا ينبغي اختزال الأديان إلى أطروحة في العدالة فقط ،لأننا نطمح لحل اشكلة القيم التي توارثناها بهدف تجاوزها بعد أن نقوم بتفكيكها ونقدها لان نظريات العودة للتأصيل اللاهوتي والسكولائي ذات النهج الروحي المنغلق اجتماعياً ستتحول إلى أوهام سخية لا نفع منها، وهي لن تهبنا في أحسن الأحوال سوى الرغبات الضائعة عن عدالة هلامية رسمت ملامحها البدوية في زمن محددٍ وواقعٍ متعينٍ . وفي بحثه المعنون “الضغينة المكبوتة والكراهية للقيم” يتابع الكّتاب والسياسيين الذين يعمدون إلى مهاجمة اليسار العراقي والحزب الشيوعي العراقي تحديداً للنيل من تاريخه ذاهبين في تحليلاتهم إلى إن الحزب الشيوعي العراقي، لم يطرح السؤال النظري عن “ماهيته الذاتية” وماهية الهموم الثقافية- السياسية الآنية التي تواجه الواقع العراقي ، وكذلك ماهية المهمات “التاريخية الكبرى” التي تعذبه والمهمات الفعلية التي يسعى لتنفيذها، وأنه نكص عن ايدولوجيا المستقبل واتهامه بالتخلي شبه التام عن المعاصرة واشكالياتها الفعلية. والكاتب يرى بما “إن الجمل الاشتراكي قد كبا فأن السكاكين عليه قد كثرت”، لكن الحزب الشيوعي العراقي وعمله على شرعنة العدالة الاجتماعية الإنسانية لا غبار عليها، وهو قادر على تجديد خطابه السياسي حسب ما تمليه عليه قوانين الحياة المتجددة والواقع المتغير “فلا الصراع قد انتهى حسب رأي فوكياما ولا صدام الحضارات سيؤل كما تنبأ به هنتنغتون”.وفي قراءته لكتاب الباحثة سعاد خيري”وحدة وصراع النقيضين” يذهب إلى إنها تُغري في دراساتها بالعودة مجدداً إلى الأصول الماركسية خصوصاً “رأس المال” لماركس، ولينين في”الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية” ، ويرى (المياح) ضرورة العودة إلى تأصيل جديد ومنفتح للمقولات الفكرية والمفاهيم الماركسية المتنوعة ، كي يصار إلى استنتاجات تتناسب مع التفوق والتقدم العلمي الجديد لمواجهة التوجه المتوحش الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، كونها تمثل القطب الواحد الذي لا يجد من ينافسه في الساحة العالمية الآن، بعد التداعي الذي حصل في كيان المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي والتدهور والنكوص والتخلي الأيدلوجي الذي أعقب ذلك الزلزال.خاصة مع بروز العولمة التي هي ليست بالضرورة ظاهرة رأسمالية فقط ، لأنها ليست تعبيراً عن نمط معين في تطور علاقات الإنتاج، بقدر ما هي مرحلة عليا من تطور قوى الإنتاج، فالعولمة هي النسيج أو البنية الفوقية لقوى الإنتاج العالمية التي خرجت من شرنقتها المحلية وشبكاتها الوطنية وذهبت بعيداً، لتستنشق (أوكسجين) بيئتها العالمية الجديدة. و(العولمة )كما يرى د. صادق جلال العظم:”وصول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول ، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة إنتاج ذاتها ،أي إن ظاهرة العولمة هي بداية عولمة إنتاج للرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الرأسمالية ، وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً، ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله “، وكما يؤكد عالم الاجتماع السياسي ، المفكر الدكتور (فالح عبد الجبار) في كتابه “ما بعد ماركس” في أن الحركة (المدومة) للعولمة،تخلق، رغم نشرها للعلم والتكنولوجيا،حالة من انعدام اليقين ، تذكي النزعات الصوفية والغيبية، مثل بروز الدين بقوة في البلدان المتقدمة والمتوسطة والمتخلفة، ويستثني (د. عبد الجبار) أوربا الغربية من ذلكَ.ويشيد الكاتب (المياح) بدعوة الباحثة “سعاد خيري” بربط قضيتنا الوطنية بالعولمة ،ودعوتها المخلصة للماركسيين ، أن يفحصوا المقولات الماركسية وقوانينها الحيوية كرةً أخرى ، كي يكتشفوا حلولاً منطقية لمسائل عصرنا الملحة ، ولتكن القوانين الماركسية المرنة العمود الفقري للعولمة الإنسانية بعيدا عن العفوية والنظرة الأحادية وردود أفعالها الآنية لغرض خلاص البشرية من علاقات الإنتاج الرأسمالية التي هي استلاب وضياع للبشر والقيم الإنسانية ، كون إن للعولمة مدلولين ، الأول جمع الناس في وحدة بشرية حضارية – مدنية، والثاني المتوحش الذي يسعى لتذويب العالم وصهر البشر لصبهم في قالبٍ نفعيٍ واستغلالٍ فظٍ واحدٍ ،ومن هنا يأتي التوجه الواقعي للباحثة ” خيري” عندما تطلق نداء” أيتها البشرية اتحدي” بالضد من عولمة شمولية متوحشة رأسمالية تهدف إلى تذويب الشخصية الوطنية أينما تكون.واحتوى الكتاب عدداً المقالات منها : النظرة الاستعلائية في التاريخ وتبخيس العامة ، وأكواخ الواقع وقصورالدولة ضياعاً، والسلفية ومزالق التاريخ، و التماهي مع الواقع ، وعلي شريعتي والإنسان ذو البعدين ، وهو قراءة مطولة في كتاب د. علي شريعتي( الإنسان والإسلام)، ومسألة في اليقين الشعري، والدكتاتورية لن تعبر النهر مرتين، وشبح اليوتوبيا يتجول في أعماقنا فلماذا نتجاهله، وهو قراءة في( كتاب نهاية اليوتوبيا) لمؤلفه” راسيل جاكوبي”، ومقالات أخرى . ولاحظنا إن مصمم الكتاب في دار النشر قد الحق خطأً بحثاً مستقلاً بعنوان” الذاتوية تجاهل للشرط الإنساني” (ص 89 ) مع نهاية موضوع الكاتب عن د. علي شريعتي. وفي ختام الكتاب ثمة بحث مطول يحمل تساؤلاً معرفياً عن “هاملت وهل كان رواقيا”؟ ، وفيه يحلل (الباحث) شخصية هاملت لشكسبير، على ضوء المذهب الفلسفي الرواقي، ويذهب إلى ان “شكسبير” الذي لم تفارقه مخيلة أو رؤى “بلوتارك” ومن خلال أحداقه كان يرنو إلى الغابة البشرية ويختار وهو يجوس تلك الغابة الكثيفة ما يتناسب مع ذائقته الشعرية العظيمة ،وقد تمثل ذلك “شكسبير”الذي كان يريد إن يحلق بنا من تخوم (القضاء والقدر) إلى عوالم (الوعي والحرية) غير إن المفاهيم اللاهوتية ومصادراتها كانت تقف في دربه سداً وتعويقاً ،وهو حاول أن يتجنب الريب الديني الذي قد يسعى لأن يدمغ العمل كله وصاحبه معه بالهرطقة والعطالة الفكرية، تلك العطالة التي تذهب لاعتماد التعسف والإكراه من خلال التحالف بين الجبروت الكهنوتي الكنائسي المتحالف وقتها مع الإقطاع الملكي للدفاع عن شبكة المصالح التي توحد بينهما، لذا عمل (شكسبير) من طرف خفي مرموز للتعامل في مسرحية “هاملت” ، على ضوء المذهب الفلسفي (الرواقي) الذي قيض له بفعل رؤاه الرحبة ، في حينه، للكون. ونرى انه وعلى وفق الموسوعات الفلسفية المتعددة التي تشخص (الرواقية )بأنها انتشرت في إطار الثقافة اليونانية في القرن الرابع قبل الميلاد تحت تأثير الرؤى التي تدعو إلى المواطنة العالمية مع الحفاظ على النزعة الفردية،والاحتفاء بملذات الحياة ، فقد هيمن التصور الرواقي على الفكر الفلسفي على امتداد العصور القديمة . علماً إن شخصية هاملت قد تم تناولها من وجهات نظر متعددة وعلى وفق تصورات مفارقة ، ولعل توجهات الفلسفة (الرواقية) قد لا تنسجم مع ما كان يراه ويسعى إليه “هاملت” الذي يعيش التناقض بين (الفكر والعمل) كما يؤكد ذلك الراحل( جبرا إبراهيم جبرا) في مقدمته لترجمته العربية للعمل. ومع تعدد الرؤى وتنوعها في ذلك يبقى ما تابعه الباحث الراحل ” خليل المياح” حول “هاملت” جدياً مع التحفظ ، من قبلنا ، على اعتبار “هاملت” رواقياً ،خاصة وان الراحل طرح بحثه بصيغة استفهامية وليست يقينية جامدة. ونلاحظ إن ، الباحث ، كان واضحاً وأميناً على مقترباته الفكرية وإنه لم يحاول إخفاء مرجعياته عن القارئ إذ تطرق في مقدمة كتابه إلى ذلك ، موضحاً إن ثمة حبائس معرفية وعتمات تطرقت إليها مقالاته و مقارباته الفكرية مستفيدة من رؤية ومنهج وإمكانات البحث الذي تميز به وأرساه المفكر “محمد اركون ” وتم مزاوجتها بالرؤية المادية للتاريخ عبر منابعها الأصلية ، وبالتصور السيميائي الدلالي ، مع رفض كينونة اللغة بصفتها وعاء العالم الأول ، لأن البدء كان للفعل الانطولوجي.
* دار الينابيع – دمشق – ط1 – 2010