السيمر / فيينا / الاربعاء 06 . 11 . 2019
مصطفى منيغ / المغرب
تِكرارُ ما كان عنَّا صادِر ، يُغنِي عن عشرات المصادر ، ولِما اقتبسناهُ عن الذِّكرى غير المُكتَمَلة بمرور الزمن نُصادِر ، لتصحيح رُؤَى أَقَمْنا من ماضينا عليها الحاضر ، فالبدء بما يتطلبه التدقيق للمشي على نفس الطريق وصولا لاجتياز ما أُضيف لتحسين مستواها من معابر ، نكتشف أنها لا تُساوي ما صُرِف عليها عكس ما نشرته بعض المناشير ، إدَّعَى أصحابها أنها صحافة والحقيقة تجعلها وإياهم ضاربي بنادِر، في مواسم سياسة التخدير، الآتية بالخاسر تنصِّبه مكان المنتصر ، في إستراتيجية تخطِّط لكل ما هو طبيعي بشكل مغاير، ممَّا جعلنا نغادر ، لنحيا بعيدين عن المغرب حتى لا نُتَّهم بالشغب ولبعض القواعد الهشة أصلا نُكَسٍّر، مفتقدين الراحل المهدي بن بركة الذي طلبَ مني ذات يوم الالتحاق به في العاصمة الرباط بصفتي مسؤولا عن فرع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمدينة القصر الكبير،لأمر يخص المسائل التنظيمية لمَّا كانت المدينة المجاهدة مركزاً مهما لأحرار أدركوا مبكراً أن الدولة المغربية سائرة بما يُفقر الفقير ويُغني الغني لمصير مجهول ، وقبل مغادرة المطعم الذي تناولنا فيه الطعام سألني مبتسما : أتدري يا مصطفى منيغ ماذا تُردِّد الإذاعة المغربية على مسامع الناس صباح مساء ؟ ، أجبتُ نافياً ، قال : أغنية لام كلثوم مطلعها أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعه ، ملك الفؤاد فما عساي أن أصنع، ثم نهض ليودعني بإبلاغ سلامه لإخوة كان على علاقة وطيدة بهم ، ومن ساعتها وأنا ادرس القصيدة التي نظمها الشاعر ابن نبيه المصري ولحنها محمد أبو العلا لتغنيها أم كلثوم سنة 1926 ، حتى اهتديتُ للقصد وأنا في قرية من قرى برشلونة جالس في حديقة ضيعة السيدة انتظرها لنفطر معا في هذا الجو المنعش، والتي أقبلت هذه اللحظة بطلعتها البهية، أنستني ما كنتُ أدونه مقالاً انشرهُ في جريدة لي معها اتفاق سابق ، قبل أن تصافحني سبق لسانها النطق بما حاولت الابتعاد عن الخوض في تعقيداته حينما قالت بصوت ارتاح صاحبه بما يكفي ليجعله على أتم الاستعداد لإطالة الحديث وتلقي آخر لترد من جديد وهكذا حتى يضيع علينا بقية النهار دون فائدة : “لم تقبل البارحة أن نذهب لتناول الغذاء في مطعم والداي كارمين ، هل لانزعاجك من رؤيتكَ معي ، أم لموقف غامض تُداريه عني؟”، قاطعتها: “لا هذا ولا ذاك ، أفضِّلُ فقط أن تبقى خارج أي كمين قد يُنصب لها آخر المطاف، وحدسي لا يخطئ إلا نادراً” ، قالت وقد تسلَّلت الجديَّة للسانها:”اعتقد حان الوقت لتحدِّدَ موقفكَ وتختار الأنسب لطموحاتك دون التفكير في جرح مشاعري إن كان هذا ما يؤرقك ، فأنا متعودة على تلقى الصدمات غير السارة”،سألتها: هل تريدين معرفة أَبُوكِ؟؟؟،نظرت إلي وكأن صَاعقة أصابت أذنيها، وبصوت مرتعش طلبَت مني أن أكرِّرَ عليها السؤال ففعلتُ، “هل تعرفه”؟ سألتني، “سَنتعرف عليه معاً بمساعدتك طبعاً”، “ما المَطلوب”؟ ، أخذتُها من يدها ودخلنا الدار حتى إذا أوصلتني لغرفة مَن كانت تحسبه زوجا لها امتنعت عن فتحها لتبقى على حالها كما كانت من خمس سنوات ولمَّا خيَّرتُها بين معرفة والدها من عدمه، استسلمت بإحضار المفتاح لتعالج به مِزلاَج الباب ونتوقَّف لحظة بعد فتحه لتمتلئ الغرفة هواء نقياً ، بالدخول توجهتُ مُسرعاً للنوافذ كي لا تبقى مغلقة وتحت السرير تبيَّن لي موقع الصندوق باختلاف ما اعتلاه من لون عن باقي الأرضية المبطنة بصفائح الخشب الملتصقة بعضها ببعض ، كلَّفتُ السيدة بإحضار من يزيح السرير عن مكانه وأيضا آليات الحفر لأشرع في العملية بعد التأكد من انصراف كل العمال بما فيهم الخادمة التي أرادت البقاء لكن السيدة كانت أذكى منها وسحبتها للخارج بلطف ، لم تمر سوى ساعة حتى كان الصندوق رهن إشارتي لإخراج المذكرة والشروع في قراءتها وكلانا في غرفة السيدة لتنساب الحقائق التي ستغيِّر أشياء بما يعيد لها طعم الحياة من جديد ، كتب صاحب المذكرة بعد اسمه وأصله ليمُرَّ لِما يلي : “اوصلتني تجارتي لغاية الشمال الغربي لإفريقيا ، تحديدا لمدينة طنجة التي ارتبطتُ ببعض تجارها الكبار وبخاصة الانجليز منهم السادة (…) ، (…) ،(…)، حالما أنهيتُ معهم استضافوني لمقهى وجدتُ فيها أحد الأصدقاء المغاربة سبق أن تعرفتُ عليه في مدينة الجزيرة الخضراء الاسبانية ، ولمَّا علِم بحاجتي لشراء كميات كبيرة من القمح دلَّني على تاجر للمادة بالجملة وهو يهودي يقطن مدينة القصر الكبير ، لم يمانع الرجل المغربي على اصطحابي للاتصال المباشر به ، بمكالمة تلفونية حدَّدنا موعد ومكان اللقاء فوق قنطرة لوادي قريب من المدينة ، وصلنا لنجده في الموعد نفسه ينتظرنا، بعد التعارف أردنا المرور لما أتينا من أجله فوجدناه منشغلاً بطفلين ناداهما من فوق فحضرا ومعهما فتاة قدَّم لنا اليهودي ابنته “آمينا” ورفيقها مصطفى ابن أحد ضباط الجيش متمِّماً تقديمه أنهما لا يفترقان إلا مساء كل يوم حيث يتوجه مصطفى لبيته ليعاودا اللقاء غدا صباحا، لا أدري فيما يضيِّعان وقتهما، انتظرتُ أن يقدِّم لي الفتاة فلم يفعل ،الشيء الذي شجعني للاقتراب منها سائلاً عن سبب وجودها في هذا المكان ، أجابتني بانتظار مَن يوصلها لمدينة طنجة فأخبرتها أنني مستعد لكن بشرط أن تأتي معي لغاية إتمام صفقة مع هذا التاجر في القمح بالجملة ، فوافقت دون أدنى تردُّد . عدتُ بها من القصر الكبير تاركا المغربي حسب رغبته هناك ، لقد أعجبتني كثيرا سحرني جمالها ، الغريب أنها انسجمت معي بصورة خيالية ما جعلني أحتفظ بها مندسة في ركن صعب العثور عليه في باخرتي التجارية المحملة بالقمح المغربي ومواد غذائية أخري أصدّرها لحكومات بعض بلدان افريقية مُطلَّة على المحيط الأطلسي ، خلال الرحلة تعاملتُ معها وبرضاها الكامل تعامل الزوج مع زوجته ، في برشلونة أسكنتها ببيت اشتريته خصيصاً لها طالباً منها عدم الحضور للضيعة كنتُ حاضراً فيها أو غائباً ، ذاك كان شرطي الوحيد . في يوم أخبرني كبير حُراس الضيعة أن امرأة تخرج من البحيرة لتطير إلى اليابسة فتقضى وقتاً طويلا في البكاء الشديد ثم تعود طائرة لتختفي في الماء ، اصطحبته مرة لأتيقن بما حصل فعلاً ، تركتني أقترب منها مذهولاً لأسمع منها أنها من غير البشر وإن كانت على هيئة امرأة عادية ، أتت معي هاربة من مصير كاد أن يربطها بشخص من عائلتها لا تطيقه ، الأمر الذي عرضها للطرد المحدَّد بتوقيت يرتبط باكتمال شروط تعرف تفاصيلها حق معرفة ، منها التخلص من جنين يترعرع داخل أحشائها أنا أبوه أو أبوها ، على العموم سأجد ما سيولد على كرسي شيّدته هنا لأتحمل مسؤوليتي في الموضوع كاملة وإلا عرّضت نفسي للضياع . بالفعل عدتُ في الغد مرفوقاً بنفس الحارس لأجدها طفلة ملفوفة في جلد، بظهرها علامة لم أتمكن من معرفة ما ترمز إليه ، اقترح عليَّ مُرافقي الذهاب بها لمنزله القريب شيئا ما من الموقع ، وهناك تعاون وزوجته على تنظيفها وتغطيتها وتغذيتها ثلاثة أيام، اهتديت وبعض الأصدقاء المخلصين لي وهم (…،…،…،…) وضعها في ملجأ مقابل هيبة مالية لا بأس بها أقدِّمها سنوياً لنفس المؤسسة الإنسانية ، وهذه شهادة رسمية تؤكد ما أقول مرفوقة بصورتين احداها عادية من الإمام وأخراها تُظهر العلامة من الخلف ، مع الأيام وهي تكبر أمام عيناي اتَّضح لي أنها ابنتي لا شك في ذلك ، ممّا ميَّز حضورها بكامل الرعاية من طرف مديرة المؤسسة مقابل مبالغ أضافية أعزز بها ميزانية الأخيرة . أمَّا أمها وهي من غير البشر، اختفت عن حياتي تاركة الكرسي المشيد من طرفها اقصده كلما سمِحَت لي الفرصة لأجلس فوقه للتمعن في مجرى حياتي سنة بعد سنة فأشعر أن ساعة رحيلي قد دنت فواجب عليَّ أن أنقذ ابنتي التي أطلقتُ عليها اسم (…) حتى إن غبت غبت بضمير مستريح ، وباستشارة قانونية توصلت لقرار الزواج منها ، على الورق فقط، لتصبح صاحبة حق متمتعة بما اتركه لها في وضعية رسمية متوفرة على جميع الشروط القانونية وهكذا كان ،هناك ملف يتضمن الحجج والدلائل سلمته للمحامي الخاص بي الذي كلفته بمراعاة مصالح ابنتي مهما كان المجال ، اسمه وعنوانه ورقم هاتف مكتبه في الصفحة الأخيرة لهذه المذكرة. (يتبع)