السيمر / فيينا / الأثنين 09 . 08 . 2021
د. لبيب قمحاوي / الاردن
أذكر مقولة قبل ثلاثين عاماً لمسؤول أمريكي قال فيها أن عودة الاستعمار بأشكاله المختلفة الى دول العالم العربي سوف تصبح في المستقبل المنظور مطلباً وطنياً لتلك الدول، وذلك في معرض تعليقه على حوار ساخن دار بيني وبينه عن التركة الاستعمارية السلبية للاستعمار الغربي في فلسطين والعالم العربي . ويبدو أن هذه المقولة قد أصبحت الآن قيد التحقيق، وأصبحت الأنظمة العربية تتسابق على دعوة الدول الكبرى الى اقامة قواعد عسكرية على أراضيها وعلى اعتبار السياسات القريبة من أفكار تلك الدول سياسات من الواجب اتباعها أو على الأقل الاقتداء بها . وهكذا، بدأت القواعد العسكرية الغربية والشرقية في الانتشار في أقطار العالم العربي المحافظ منها والتقدمي سواء بسواء . إن إقامة قواعد عسكرية أمريكية أو أوروبية أو روسية وربما لاحقاً صينية في مختلف أرجاء العالم العربي لا يهدف بالطبع الى حماية الأوطان بقدر ما يهدف إلي استجلاب الدعم لأنظمة الحكم المعنية، بالاضافة الى ضمان الحصول على قروض ومساعدات ودعم عسكري وبدلات أخرى كثمن لإخراج أجزاء من الوطن من السيادة الوطنية ونقلها عملياً الى سيادة الدول صاحبة القواعد . وفي هذا السياق وبصراحة ، فإن الأردن مثله مثل باقي الدول العربية، يتلقى التعليمات أو التوجيهات ولا يعطيها، وأي حديث خلاف ذلك لا يعدو عن كونه حديثاً جانبياً بلا معنى على رصيف مقهى صاخب متهالك .
يسير الأردن الآن في نفس السياق العربي العام فيما يتعلق بالقواعد الأجنبية من خلال اتفاقات وربما معاهدات تفاصيلها تبقى مجهولة للكثيرين ولا يعرف طبيعتها ومداها إلا القليلون، وحتى مجلس النواب المناط به دستورياً الموافقة على مثل تلك الاتفاقات أو المعاهدات لا يعلم عن حقيقتها شيئاً . هكذا تدار الأمور الآن في الأردن والعالم العربي في ظل صمت أردني وصمت عربي عام ومتبادل على إتفاقات ومعاهدات عربية مماثلة وحاكمة لإقامة قواعد عسكرية أجنبية في هذا البلد العربي أو ذاك .
الاردن يتمتع بموقع استراتيجي هام بين دول عربية مثل العراق والسعودية وسوريا ومصر وبالطبع فلسطين المحتلة مما يجعل الآثار الاستراتيجية المترتبة على وجود قواعد عسكرية أمريكية وغربية على أراضيه أمراً في غاية الخطورة له انعكساته على أمن دول الجوار بل وما قد يكون أبعد من ذلك . ما يحكم دور تلك القواعد هو مصلحة الدول المالكة لها وليس الدول المضيفة لها وهنا تكمن الخطورة لأن تلك الدول وأهمها أمريكا هم حلفاء أسرائيل أولاً وقبل كل العرب، وبالتالي تكون تلك القواعد في خدمة المصالح الاسرائيلية حُكماً، وضمن صمت عربي واسلامي مُريب .
لقد رافق اقامة قواعد عسكرية في الأردن وبعض الدول العربية الأخرى توجه ملحوظ للتطبيع مع اسرائيل . وقد أصبح نهج التطبيع الموضة السياسية والابتكار الفذ للعديد من الأنظمة العربية الحاكمة . وأصبح المبرر الأكبر لنهج التطبيع يتمحور في معظم الحالات إماً حول العوائد الاقتصادية والسياسية والتنموية والأمنية لسياسات التطبيع تلك، أو مجرد الحفاظ على النظام المعني من السقوط و ضمان استمراريته في حالات أخرى . وقد نشهد في المستقبل تطورات خطيرة مثل إنشاء قواعد عسكرية اسرائيلية في بعض الدول العربية إماَّ تحت ستار تحالف عسكري ما، أو تحت ستار مقاومة إرهاب ما أو خطر خارجي قد يكون وهمياً قادماً من دول اقليمية مثل إيران أو تركيا، الى غير ذلك من أعذار لتبرير وجود مثل تلك القواعد العسكرية .
وإذا ما تم التعامل مع هذين التطورين، أي القواعد العسكرية والتطبيع، يتضح أن الكاسب الأكبر هو اسرائيل، وأن العالم العربي يسير بخطئ حثيثة نحو شرق أوسط تقوده اسرائيل وتتحكم بمصير دُولِهِ سواء مباشرة أو بأسلوب غير مباشر، وان كانت النتيجة واحدة في كل الأحول .
شرق أوسط يسير في الفلك الاسرائيلي هو النتيجة الحتمية لسياسات التنازل العربية، علماً أن اسرائيل لم تتنازل أبداً عن هدفها المعلن منذ البداية وهو “من النيل الى الفرات”. والقواعد العسكرية والتطبيع العربي سوف يفتحا الطريق لبروز شئ جديد يمكن أن يدعى “القضية العربية” والتي تتعلق بالعلاقة المستقبلية بين الدول العربية التي سيتم اخضاعها للنفوذ الاسرائيلي من جهة واسرائيل من جهة أخرى، خصوصاً وأن الاحتلال في تجلياته الجديدة لم يعد عسكرياً فقط بل قد يأخذ أشكالاً أخرى مثل “الاحتلال الاقتصادي” أو “الاحتلال التكنولوجي” أو “الاحتلال الثقافي” والقائمة تطول . وهذا قد يفسر نمط الاحتلال الاسرائيلي الجديد لبعض الدول العربية بعيداً عن الاحتلال العسكري التقليدي .
أخوة العروبة يتم استبدالها الآن بأخوة الانزلاق السياسي والتنازلات السيادية . الجميع يتسابق الآن في إعطاء الموافقة على بناء قواعد أجنبية على أراضيه والانضمام الى أحلاف واتفاقات عسكرية تجعل من حلف بغداد مثلاً والذي رفضته الشعوب العربية قبل ما يزيد عن ستة عقود لعبة أطفال مقارنة بحجم التنازلات المطلوب من العرب تقديمها الآن .
04/08/2021
*مفكر عربي