السيمر / فيينا / الاحد 05 . 07 . 2020 — فكر هنري لَيت، صاحب إحدى أشهر المكتبات المستقلة في المملكة المتحدة، ملياً في التغييرات التي يتعين عليه أن يُدخلها على طريقة عرضه للكتب المطروحة للبيع في مكتبته، بعد انتهاء سريان إجراءات الإغلاق المُطبقة في البلاد، لمواجهة التفشي الوبائي لفيروس كورونا المستجد.
من بين الأفكار التي راودته في هذا الشأن، أن يلف هذه الكتب بالبلاستيك، كلا على حدة، قبل وضعها جميعا على طاولات، يغطيها نوع من أنواع بوليمرات اللدائن الحرارية المعروف بشفافيته المرتفعة، والذي يُطلق عليه اسم “زجاج الأكريل” أو “زجاج البلكسي”.
كما فكر لَيت في السماح للزبائن بدخول المكتبة بمعدل اثنين في كل مرة. لكن أياً من هاتين الفكرتين لم تبد ملائمة له.
في نهاية المطاف، استقر الرجل على أن يتم عرض أكبر عدد ممكن من الكتب، من خلف الواجهة الزجاجية العريضة للمكتبة، والتي تطل بشكل شبه دائري على شارع للمشاة في مدينة نورتش بشمال شرقي العاصمة البريطانية لندن. وستُوضع الكتب بحيث يظهر الغلاف الأمامي والخلفي لكل منها أمام أعين المارة، مما يتيح الفرصة لهم لأخذ فكرة عن محتواها، دون الاضطرار لدخول المكتبة.
ويقول لَيت: “فتحنا المكتبة على نحو ما، لكن لن يكون بوسع الزبائن دخولها. فالمكان طويل وضيق للغاية. في المعتاد، يتطلب استعراض الكتب الموجودة، أن تراها ثم تمسك بما تشاء منها، وأن تقرأها كذلك، لكن ذلك ليس ممكنا في الظرف الراهن، لذا يتعين علينا تجربة أساليب جديدة”.
وهكذا، سيتسنى للزبائن شراء الكتب وحجز الإصدارات التي يريدون اقتناءها وسؤال موظفي المكتبة عن نصائحهم بشأن ما يمكن أن يطالعونه في الفترة المقبلة، عبر نافذة في واجهة المكان، بهدف الحيلولة دون حدوث اختلاط بين الجانبين. ويعني ذلك أن لَيت يسعى لحماية عملائه وموظفيه من العدوى، مع الإبقاء على مشاعر المتعة التي تساور الزبائن حينما يستعرضون المعروضات في هذه المكتبة أو تلك.
لكن حتى إن كانت المكتبة المملوكة لـ “لَيت”، ومتاجر أخرى مماثلة، قد وجدت سبيلا يُمَكِّن عملاءها من استعراض بضاعتها، بقدر ما على الأقل في عالم ما بعد تفشي فيروس كورونا، فهل لا يزال هؤلاء الزبائن يرغبون أصلا في ذلك حقا؟ من جهة أخرى، ربما لن يتسنى لنا في عصر ما بعد الوباء، أن نجد بديلا مقنعا لمتعة “الفُرجَة على البضائع”، التي لا تكتمل سوى بتأملها عن كثب ولمسها، بل وكذلك الخروج في أغلب الأحيان –وبشكل متعمد – من المتجر الذي توجد فيه، خاويي الوفاض.
ومن هذا المنطلق، قد يتساءل البعض الآن: هل وصلنا إلى نهاية عصر “الفرجة على البضائع” بالشكل الذي نألفه؟
أسس “الفُرجَة على البضائع”
ليس هناك منّا من لم يستمتع في وقت ما بالفرجة على البضائع على أرفف المتاجر. فكثيرا ما يدلف المرء إلى متجر ما للتجوال في أروقته “دون أي تكون لديه أي نية في الشراء”، كما تقول لين شا، البروفيسورة في علم التسويق بجامعة بنتلي في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، والتي تضيف أن الناس يميلون لـ “الفرجة على البضائع” لسببين؛ إما لجمع معلومات عن المنتجات التي يهتمون بها، أو لمجرد التسلية وتمضية الوقت.
وقد كشفت دراسة أُجريت في جامعة بولاية لويزيانا، عن أن التردد على المتاجر؛ للتعرف على ما تحتوي عليه من منتجات وتفاصيل الحسومات المُقدمة عليها مثلا أو تحديد الفوارق بين العلامات التجارية المختلفة، يمكن أن ينطوي على متعة ذات طابع خاص في حد ذاته. لكن دراسات أخرى تشير إلى أن الاكتفاء باستعراض البضائع دون شرائها، قد يفيد في أغراض أخرى، من قبيل إتاحة الفرصة لنا للتواصل مع الآخرين، أو لكي يمكن أن نتلهى عن مشكلة بعينها، أو حتى للتسلية.
من ناحية أخرى، لا شك في أن الطبيعة المادية المحسوسة لعملية التسوق، التي تتم من خلال الذهاب الفعلي للمتجر، تسهم بشكل كبير في زيادة رغبتنا في استعراض البضائع وتفحصها. وأظهرت دراسة أجراها موقع “ريتَيل دايف” المعني بتجارة التجزئة، أن المتسوقين يفضلون أن يزوروا المتاجر بأنفسهم، كي يتسنى لهم رؤية البضائع ولمسها والإحساس بها وتجربتها، على أن يقوموا بالشراء عبر شبكة الإنترنت.
ويقول الخبير في علم نفس المستهلك بيتر نويل مَري إن الفرجة على البضائع بهذه الطريقة، قد تمنحنا دفعة نفسية إيجابية. ويوضح مّري، الذي يعمل في مدينة نيويورك، بالقول: “يمنحك الجلوس في سيارة فارهة، بأحد معارض بيع السيارات، الإحساس على نحو مُتخَيل، بامتلاك إحدى هذه السيارات غالية الثمن بالفعل، وهو ما يعني أن الفرجة على البضائع تشكل في حد ذاتها، تجربة تعود على من يمارسها، بالنفع والفائدة”.
ورغم أن الكثير ممن يتفرجون على السلع والمنتجات، يغادرون المتجر بعد ذلك، دون شراء لأي شيء، فإن ذلك لا يحدث دائما. إذ تؤدي ممارسة هذه العادة إلى إتاحة الفرصة لك “لاكتشاف الأشياء بمحض الصدفة، إذ يقودك شيء لآخر بداخل المتجر، لينتهي بك المطاف، وقد اشتريت شيئا، لم تكن قد فكرت فيه في بادئ الأمر”.
ويعني ذلك أن الفُرجَة على البضائع” تجلب فعليا عائدات لا يُستهان بها لأصحاب المتاجر. ففي عام 2019، أشارت دراسة أعدتها شركة للتسويق والتجارة عبر الإنترنت، إلى أن الإنفاق الاستهلاكي يزداد، إذا ما ذهب المرء إلى المتجر فعليا، مُقارنة بقيامه بالتسوق إلكترونيا. إذ كشفت الدراسة، التي شملت ألف متسوق في الولايات المتحدة، عن أن 54 في المئة من المستهلكين ينفقون ما يصل إلى 50 دولارا أمريكيا في مرة التسوق الواحدة إذا قاموا بذلك عبر الإنترنت. وتزيد نسبة من ينفق هذا المبلغ إلى 71 في المئة، إذا كان هؤلاء الأشخاص يذهبون إلى المتجر، بشكل فعلي.
وأظهرت الدراسة نفسها، أن زيارة المتجر تزيد فرصة حدوث ما يُعرف بـ “الشراء الاندفاعي”، أي اتخاذ قرار بشراء منتج ما دون تخطيط مسبق. ويقول الأستاذ المساعد في جامعة “مينيسوتا دولوث”، إيان زيمرمان، في هذا الشأن إن “المتعة التي نشعر بها، بفعل فكرة اقتناء منتج رأيناه ونحن نتفرج على بضائع مختلفة، يمكن أن تجعلنا أكثر اندفاعا في اتخاذ قرار الشراء، لأن الاستجابة العاطفية والشعورية في هذا الصدد، يمكن أن تعوق قدرتنا على التفكير العقلاني”.
تجربة إلزامية
وتُظهر الدراسة التي أجرتها لين شا، أن أسباب نزوع المرء للفرجة على البضائع، لا تقتصر على رغبته في القيام بذلك كمستهلك فقط، بل تشمل كذلك عوامل ترتبط بالأجواء التي تسود بعض متاجر التجزئة، لتشجيع مرتاديها على الانهماك في استعراض ما يوجد فيها من سلع ومنتجات. ومن بين هذه العوامل؛ تصميم المتجر ومستوى اكتظاظه بالرواد، ومدى ثرائه اللوني، وحتى طبيعة الروائح التي تفوح فيه. وتقول الدراسة إن توافر تلك الأجواء “يعزز مستوى التحفيز، الذي يقود لزيادة احتمالات الإقبال على استعراض البضائع، بغرض التسلية والترويح عن النفس”.
يتفق مع هذا الرأي تشاك بالمر، أحد المستشارين البارزين في شركة “كونسيومر إكس ريتَيل” لتقديم الاستشارات للمؤسسات العاملة في مجال تجارة التجزئة، ومقرها بولاية أوهايو الأمريكية. ويُذكِّرنا في هذا الصدد بأن العديد من متاجر التجزئة والمحال التابعة لعلامات تجارية معروفة، كانت قد فتحت في الفترة السابقة لتفشي وباء كورونا، فروعا لها أكثر ضخامة وُصِفَتْ بأنها ذات طبيعة تجريبية، إذ صُمِمَت خصيصا بسمات تلائم المتسوقين، الذين تروق لهم مسألة الفرجة على البضائع بغرض التسلية.
ومن بين نماذج ذلك، فروع أقامتها شركة “نايكي” في نيويورك وباريس وشنغهاي، ويحمل الواحد منها اسم “بيت الابتكار”. ويركز تصميم هذه الفروع، على منح الفرصة للزبائن للمرور بتجارب ذات طابع حسي، يُستعان فيها بتصميمات متطورة للمكان وشاشات عرض رقمية ضخمة، بدلا من أن يُولى الاهتمام – كما يحدث عادة في الفروع التقليدية – لجعل عملية الشراء أكثر سهولة وراحة بالنسبة للزبون. ويؤدي ذلك – حسبما يقول بالمر – إلى أن يشعر المرء عند تردده على أحد هذه الفروع بأنه “طرف مُتفاعل” مع الأجواء التي تسود المكان، ما قد يحدو به للقول: “أوه، إنهم يقومون بكل ذلك من أجلي!”.
لكن مستقبل هذه “المتاجر التجريبية” ربما يكون الآن مهددا بالخطر، في ظل القيود المفروضة حاليا على التسوق، للحد من تفشي وباء كورونا، والتي تشمل أمورا من قبيل احترام قواعد التباعد الاجتماعي، وإغلاق غرف قياس الملابس، وعدم السماح لمستهلكين مختلفين بلمس المنتج نفسه، واحدا تلو الآخر. وتقول لين شا: “في ظل هذه القيود؛ سيتعين أن يكون لدى المستهلكين أسباب وجيهة للذهاب إلى المراكز التجارية بأنفسهم. وسيبدأ الناس في البحث عن فضاءات أخرى لملء الفراغ الذي نشأ على صعيد تواصلهم مع الآخرين” جراء توقفهم عن الذهاب للمتاجر.
اللافت أن ممارسة عادة مرتبطة بالتسوق؛ مثل الفُرجَة عن البضائع، ربما تلعب دورا أعمق مما نتصور، في حياة كل منّا، بل وقد تساعدنا على صياغة الكيفية التي نُعرِّف بها أنفسنا. وفي ورقة بحثية حملت عنوان “هوية المتسوق لأغراض التسلية والترويح عن النفس”، قال مايكل غويري الأستاذ المساعد في جامعة وست تشيستر الأمريكية إن البعض منّا يفترض أن التسوق لأغراض التسلية يشكل “جزءا من مفهومه الذاتي عن نفسه”، أي أننا نرى – بعبارة أخرى – أن “الفرجة على البضائع” تمثل جزءا من شخصيتنا”.
وقد أظهرت الدراسة التي أجراها غويري، أن بعض الناس كانوا ينخرطون في ضرب من ضروب أحلام اليقظة، وهم يستعرضون السلع والمنتجات في المتاجر، وكأنهم يتخيلون أنفسهم في وضع أفضل مما هم عليه في الواقع. وتشير الدراسة إلى أن “الفُرجَة على البضائع” تشكل بالنسبة لبعض المتحمسين لـ “التسوق لأغراض الترويح عن النفس” أحد الجوانب المركزية للحياة “بما يتجاوز مجرد المتعة والترفيه”.
تحولٌ إلى التسوق الإلكتروني أم ميلٌ للإحجام عنه؟
ومن هذا المنطلق، ربما يكون من شأن استمرار بقاء نزعة “الفُرجَة على البضائع” لدى المتسوقين – رغم كل الظروف المعاكسة لذلك في الوقت الراهن – جعل هؤلاء الأشخاص يمارسون تلك العادة عبر الإنترنت، لا من خلال زيارة المتاجر بأنفسهم. وفي واقع الأمر، تُظهر بعض الدراسات أن استعراض السلع والمنتجات على هذه الشاكلة، أو ما يُعرف بـ “الفُرجَة على البضائع إلكترونيا”، يمكن أن يمنح المرء القدر نفسه من المتعة وخبرة التواصل الاجتماعي، اللتين يستمدهما من زيارته للمتاجر بنفسه. وتشير هذه الدراسات كذلك إلى أن المتسوق يستطيع أن يستقي إلكترونيا، المعلومات نفسها التي ينشد الحصول عليها، عندما يرتاد المحال والمراكز التجارية.
لكن المفارقة أن بعض الطرق التي اعتاد المستهلكون أن يستعرضوا من خلالها البضائع إلكترونيا، ترتبط بشكل وثيق مع تجربة زيارة المتاجر كذلك؛ إما قبل “الفُرجَة على البضائع على الإنترنت” أو بعد القيام بذلك.
ومن هنا يبدو من المحتمل أن تُمنى مسألة “الفُرجَة على البضائع” بشكل عام، سواء إلكترونيا أو فعليا، بانتكاسة كبيرة حال الإبقاء على فرض قيود على زيارة المتاجر، خاصة في ظل استمرار تفشي الوباء الحالي. وفي هذا السياق، تجدر بنا الإشارة إلى أن التسوق الإلكتروني يتميز على نظيره التقليدي، في أنه لا يستغرق الكثير من الوقت، وذلك لحرص القائمين عليه، على اختصار المراحل التي يتعين على المستهلكين المرور بها، قبل الوصول إلى مرحلة الدفع.
وتقول لين شا: “لدى العديد من الشركات الكبرى العاملة في مجال البيع بالتجزئة قنوات متعددة لخدمة المستهلك. إذ يمكنك أن تشتري السلعة من المتجر، أو عبر الإنترنت على أن تصل لك في منزلك، أو تُسلّم لك في المتجر. ولذا سيكون لدى الناس دوافع أقل في الوقت الراهن، للذهاب إلى المتاجر بشكل فعلي واستعراض بضائعها”.
ويبدو المستهلكون عازمين على مواصلة التسوق إلكترونيا، برغم إعادة المتاجر فتح أبوابها. وقد أظهرت دراسة حديثة أُجريت في المملكة المتحدة أن 40 في المئة من المستهلكين، يعتزمون الاستمرار في المضي على هذا الطريق، بدلا من الطريقة التقليدية التي كانوا يتبعونها فيما مضى.
وفي ظل هذا التحول في السلوك الشرائي للمستهلكين؛ يبدو أن الذهاب الفعلي للمتاجر، لم يعد يُشبع احتياجات المستهلكين، الذين ينشدون الترويح عن أنفسهم عبر التسوق. كما يبدو أنه لن يكون هناك مجال لأن يتفرج المتسوقون، في عالم ما بعد تفشي كورونا، على البضائع والسلع على أرفف المتاجر بأنفسهم.
اللجوء لحلول مبتكرة
وهكذا يمكن أن تكون الحلول المبتكرة هي السبيل الأمثل أمام طرفيْ المعادلة التي نتحدث عنها هنا، سواء أصحاب المتاجر أو زبائنهم. فربما يحتاج مالكو المحال التجارية لخيارات مبتكرة، لكي يضمنوا مواصلة المستهلكين، الذين يروق لهم استعراض البضائع والمنتجات، التردد عليهم. أما الزبائن، فربما هم أيضا بحاجة إلى التفكير بشكل مبتكر، في الكيفية التي يتعاملون بها مع مسألة الفُرجَة على السلع دون شرائها.
وبالعودة إلى المكتبة التي بدأنا منها هذه السطور، سنجد صاحبها هنري لَيت، لا يزال يأمل في أن يُبقى على روح الفُرجَة على كتبه قائمة، كما كانت قبل الوباء، حتى وإن عجز عن إعادة الوضع إلى ما كان عليه وقتذاك.
ففي الوقت الحالي، تقدم المكتبة لعملائها ما تسميه “رزم كتب فترة الحجر”. وهي عبارة عن كتب، تُرْسل للعملاء بواقع كتاب لكل منهم، وذلك بعد سؤاله عن اسم كتاب يروق له وآخر يكرهه. بعد ذلك، يعكف لَيت وفريقه من خبراء بيع الكتب على انتقاء عنوان مناسب وإرساله للزبون بناء على هذه المعلومات، دون إخطاره بالاسم مسبقا.
ورغم أن الأمر قد لا يشبه تجربة الفُرجَة على البضائع، فإنه يعيد إضفاء روح البهجة والمغامرة ومتعة الاكتشاف على عملية التسوق برمتها. فضلا عن ذلك، يمكن أن يصبح عنصر المفاجأة الذي تنطوي عليه هذه الخدمة، وهو العنصر الذي يطلق عليه لَيت اسم “المقامرة”، كافيا في حد ذاته، لإحداث حالة من الابتهاج والانتعاش، يمكنها سد أي فراغ، يخلّفه غياب تجربة “الفُرجَة على البضائع” بشكلها التقليدي.
المصدر / بي بي سي