السيمر / فيينا / الجمعة 24 . 07 . 2020
د. مصطفى يوسف اللداوي
في ظل هذه الظروف العصيبة، والتحديات الاجتماعية الخطيرة، والأزمات الاقتصادية الهائلة، والركود والكساد والبطالة، وتسريح العمالة وإغلاق المحال التجارية، وتعطيل الشركات المحلية والدولية، وارتفاع الأسعار والنقص الحاد في مستلزمات الحياة، إلى جانب الطمع والجشع والاحتكار والغلاء، وأزمة المحروقات ومحنة انقطاع الكهرباء، في مواسم الحر الشديد والبرد القارص، وفي ظل وباء كورونا وتداعياته المخيفة، وعودته في طورٍ جديدٍ قاتلٍ فتاك، سريع الانتشار شديد العدوى، وهو الذي كان سبباً في إغلاق المطارات وسد الفضاء ومنع السفر والانتقال، وحجر الناس وحبسهم في بيوتهم حيناً وفي بلادهم أحياناً، في ظل هذه الظروف التي يميزها الفقر والجوع والفاقة والعجز، ينهار المواطن العربي وتتداعى عوامل صموده، وتتآكل مدخرات حياته، ويكاد أمام هول ما يرى ويواجه أن يسقط صريعاً، أو تنتهي به الآجال بائساً، أو يضع حداً لها يائساً.
ليستُ يائساً ولا قانطاً، ولا أدعو إلى الاستسلام والخضوع، كما أنه ليس من قبيل المبالغة والتهويل إذا قلنا أن الخطر لأسبابٍ كثيرةٍ سبقت وعوامل أخرى عديدة ظهرت، يتهدد البيوت العربية الآمنة، ويكاد يعصف بالأسر الكريمة، ويفجر المجتمعات المطمئنة، ويفسخ العلاقات الاجتماعية، ويقطع أواصر العلاقات الشخصية، ويفتت التجمعات ويمزق الروابط ويهدم التكتلات، ويشتت جمع العائلات الصغيرة والكبيرة، الجديدة والقديمة، وينتهك خصوصياتها ويفضح أسرارها، ويوقع بينها خلافاتٍ كثيرة، تفرق جمعها وتقود إلى حالات طلاقٍ وفسخ عقود الخطوبة، فضلاً عن تفشي ظواهر التسول والحرابة، والسطو والسرقة، والتهديد والابتزاز، والقتل والخطف، والكذب والخداع، والمكر والاحتيال، والجشع والطمع والمراباة والاحتكار، وغير ذلك من الظواهر السلبية التي لم تتعود عليها شعوب أمتنا العربية والإسلامية، ولم تمر في مراحل حياتها بظروفٍ أسوأ منها أو مثلها وتشبهها.
وقد غدا المواطن العربي إزاء ما يواجه نزقاً عصبياً شديد الثورة سريع الغضب، تستفزه الصغائر وتدفعه نحو الجريمة توافه الحوادث، ولا تكاد تؤثر فيه النوائب ولا أخبار المصائب، فقد تبلد إحساسه، وضاق صدره، وتوترت أعصابه، فما عاد يحتمل شيئاً أو يصبر على حاجةٍ، فتراه يهرب من هموم يومه في النهار نوماً عميقاً حتى المساء، يتقلب في فراشه على جمر الهموم والغموم وآهات الحزن والألم، ويسهر ليله ويبدد ساعاته الطويلة بما لا يفيد أو ينفع، فيتسمر ساعاتٍ أمام شاشة التلفزيون يقلب بين محطاتها، أو يلتحق بلمات ورق الشدة وجلسات الأركيلة، ينفث فيها همومه، ويبعثر كما الورق بين الورى فيها أحزانه، وغير ذلك مما لا يعود عليه بالفائدة أو النفع، اللهم إلا الهروب والنسيان.
أما في الشوارع والطرقات وعلى الأزقة وفي المقاهي والمحلات، فترى الناس وجوههم كالحة، وأسمالهم حزينة، وأصواتهم خافتة، وحالتهم بائسة، يمشون بتراخٍ ويتحركون بكسل، ولا يميلون لعمل شيءٍ أو بذل جهدٍ، وكأن أعباء الدنيا كلها فوق ظهورهم، وهموم الحياة تسكن صدورهم وتعمي قلوبهم، فقد أرهقتهم وأعيتهم، وأتعبتهم وأضنتهم، فخارت قواهم، وهدأت جوارحهم، وسكنت نفوسهم، فلا يكادون يبرحون أماكنهم إلا إلى نومٍ ينسيهم أو إلى طعامٍ يثخمهم، أو غير ذلك مما يسليهم ويسري عنهم، أو تراهم ينغمسون في أعمالٍ جرميةٍ أو قبيحة، ويأتون أفعالاً شنيعةً أو غير لائقةٍ، تدفعهم الحاجة، وتحرضهم الظروف، علهم يسكتون بكاء طفلٍ، أو آهة جائع، أو يضعون حداً لشكوى زوجة ومعاناة أسرةٍ.
لكن الأسوأ في ظل تحديات الفقر والجوع والموت والفقد، والحاجة والعوز، والوباء والمرض، والعقوبات والحصار، والخصوم والأعداء، والحروب والعدوان، هو الغلاء والاحتكار وحرب رفع الأسعار، والطمع والجشع وجرائم الإخفاء والتخزين، ونزعات الإثراء السريع والكسب الحرام الكبير، وممارسات التجار الجشعين والمرابين الفاسدين، ورجال الأعمال الظالمين، الذين بأعمالهم الشنيعة ونفوسهم الخبيثة زادوا في أعباء الحياة وجعلوها قاسية أكثر مما كانت عليه، وصعبة أكثر مما اعتاد عليها الناس، ظانين أن الحياة لهم وحدهم ستصفو، وبعيداً عن الفقراء والتعساء ستحلو، إذا جمعوا مالاً أكثر، وأثروا أسرع على حساب أبناء شعوبهم وأمتهم.
أمام زحوف البؤس وجحافل الأسى، وسرابيل الفقر وسلاسل الذل والهوان، قد يجدُ الإنسانُ نفسه مضطراً لأن يغير عاداته وتقاليده، وأن يبدل أسلوب حياته وشكل عيشه، وأن يتنازل عن الكثير مما اعتاد عليه وأحبه، وأن يتخلى عما تربى عليه ونشأ في ظله، ليتمكن من مواجهة غوائل الزمان وفواحش الظُلَّامِ، وسوء أخلاق أشرار التجار، وفساد الحكام وظلم السلطات، ليحافظ بعفافه على عزته وكرامته، وليستر بقناعته وبساطته نفسه وأهل بيته، وليتجاوز بصبره المحنة والابتلاء، إذ لا يدوم الظلم، ولا يسرمد الظلام، ولا يبقى أحدٌ غير الله عز وجل على حاله، الذي كتب في نواميسه وسنن خلقه، أن الفجر حتماً سيطلع، وأن النور مهما تأخر فإنه يبزغ، وأن ظلام الليل سيتبدد، وعدل الرحمن بين خلقه سيسود، وكلمته الحق ستعلو.
هي الحياة تتقلب ظروفها وتتبدل صروفها وتفرض قوانينها على الإنسان، الذي لا يملك تجاهها غير القبول بنواميسها والعمل بموجب قوانينها، التي إن كانت قدراً سلم بها ورضي، وأُثيبَ عليها وأُجِرَ، وعمل غاية ما يستطيع ليتجنب شرورها، ويقي نفسه أضرارها، تاركاً التوفيق على الله عز وجل، أما إن كانت مصائبه من فعل البشر وأخطاء الخلق، فإن الصبر عليها مذلة، والخضوع لها مهانة، والقبول بها وضاعة، والسكوت عليها ليس نبلاً ولا شهامةً، ولا صبراً واحتساباً، إنما هي شيم الإماء والخصيان وأخلاق الجواري والولدان.
*كاتب من فلسطين المحتلة
بيروت في 22/7/2020