وداد عبد الزهرة فاخر *
البداية:
يتعرض شيعة العراق ومنذ سقوط نظام البعث الفاشي العنصري لحملة إرهابية مدعومة بحملات إعلامية تحمل نفسا طائفيا عروبيا لا يمت للعروبة الحقيقية بصلة، كون من يديرون هذه الحملات الطائفية بعيدين كل البعد عن الخلق العربي الرفيع، وممن يشك بالنسب العروبي للكثير منهم، ناهيك عن الغرض السياسي لهذا الدور المكشوف.
وقد دخل ميدان التشكيك بنسب الشيعة العراقيين العرب الاقحاح، صحفيين ومرتزقة، وفضائيات عربية مؤدلجة ومسيسة لهذا الغرض الخبيث، ومتلقي عطايا البعث وكوبوناتة النفطية سابقا ولاحقا، ومستعربين من بقايا جنود ومرتزقة الحملات العسكرية في العصور المتأخرة من الدولة العثمانية، ومستعربين جدد من بقايا الجيوش الانكشارية ودولتي الخروف الأسود والأبيض.
وقد لعب الفكر البعثي الفاشي دورا كبيرا في تأجيج المشاعر المضادة لشيعة العراق، في عملية قلب لتاريخ الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي، ومحاولة تشويه صورة الطائفة الشيعية التي تعتبر أنقى الأصول العربية في العراق كونها تمثل النقاء العربي للعشائر العربية المهاجرة من الجزيرة العربية للعراق ما قبل الفتح الإسلامي وما بعده.
كذلك كان هناك عامل مساعد مهم في تأجيج هذه الكراهية ضد الشيعة العراقيين العرب والمذهب الشيعي عموما بواسطة ما تطرحه آلة الإعلام الاسلاموي من فتاوى لشيوخ الإرهاب القاعدي، المتمركزين في مناطق معروفة في باكستان، وبلدان الخليج الفارسي ممن يعتاشون على البترودولار الخليجي، وبدعم وتشجيع من المخابرات الباكستانية في تلك المناطق الحدودية مع أفغانستان. ناهيك عما تستفرغه جهات تدعي الإسلام من شيوخ الوهابيين السعوديين والخليجيين الذين يلقون الحطب على النار المشتعلة في العراق كيلا تنطفيء أبدا، ليظل الاحتراب العراقي قائما بين الأخ وأخيه بحجة الاختلاف الطائفي، وتسيل دماء زكية لعراقيين أبرياء ما كان لها أن تسيل لولا أولئك النفر الضال من وعاظ السلاطين وخدم الحكام المأجورين.
دعوى نقاء الأرومة العربية:
والعرب وكأي قومية أخرى جرى عليهم ما جرى على الكثير من الشعوب خلال الهجرات المتعاقبة من اختلاط بالأمم الأخرى من تصاهر وتزاوج لذلك فالقول بالنقاء العربي مردود من أصله، خاصة بعد الفتوحات الاسلامية وإختلاط العرب الفاتحين بالأمم الجديدة. وقد قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) – الحجرات13 -، وهو ما حدث للعرب الذين اختلطوا وفي أزمان سابقة عديدة نتيجة ترحلهم من مكان لأخر لقلة المياه والكلأ بقبائل أخرى أو أقواما اخرى. ولصعوبة وشدة الحياة البدوية القاسية في شبه الجزيرة العربية في ظل صحراء قاحلة والجفاف، وقلة المراعي وغيرها من العوامل البيئية القاسية فقد أعتاد العربي على خوض صراع البقاء في تلك البيئة القاسية والتكيف مع مختلف الظروف والمتطلبات البيئية والاجتماعية من أجل البقاء، ومن أحدى ضرورات التأقلم مع البيئة الصحراوية هي ضرورة تغيير العربي لنسبه إذا اقتضته الضرورة من اجل البقاء والاستمرار، وفي العصور ما قبل الإسلام لم يكن هناك حرج اجتماعي على العربي إذا غير نسبه ودخل في نسب قوم آخرين عند الضرورة بل إن هذا من الأمور المعتادة في الحياة العربية القاسية، ومن أمثلة هذا:عوف بن سعد بن ذبيان هو في حقيقة نسبه عوف بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي، وبهذا جاء قول الحارث بن ظالم المرّي وهو من بني مرّة بن عوف المذكور:
فما قـومي بثعلبة بن سعد… ولا بفزارة الشعـر الرقابا
وقومي إن سألت بني لؤي… بمكة علّموا الناس الضرابا
وكذلك تفرقت قبيلة أياد قبل الإسلام في العراق وبلاد الشام، فكل من كان منهم بالعراق دخلوا في النخع وكل من كان منهم في بلاد الشام بقي مقيم على نسبه في نزار. ومن هذا قول أخت مالك الأشتر النخعي:
أبعد الأشتـر النخعي آسى… على ميت وأقطع بطن وادِ
نؤاخي مذحجاً بإخاء صدقٍ… وان ننسـب فنحن إلى أياد
ثقيف عمنـا وبنـو أبينـا… وإخوتنا نزار أولوا السـداد
ولذا ظهرت قبائل عديدة التي اختلف النسابون في نسبها مثل المناذرة ملوك الحيرة، وقبيلة قضاعة، وغيرها.
العرب العاربة والعرب المستعربة:
يرجع المؤرخون أصل العرب إلى العرب العاربة والعرب المستعربة، فالعرب العاربة هم عرب الجنوب اليمنيون أحفاد يعرب بن قحطان وهم القحطانيُّون، وموطنهم الأصيل بلاد اليمن، وإلى عرب مستعربة (أو المتعرِّبة) هم عرب الشمال العدنانيون أحفاد عدنان الراجع نسباً إلى إسماعيل بن إبراهيم، سمُّوا بذلك لأن إسماعيل كان يتكلَّم السُّريانيّة أو العبريَّة، ولما نزلت قبيلة جرهم القحطانية. وتعلم إسماعيل اللغة العربية من أبناء جرهم بن كهلان بن يعرب بن قحطان ثم علمها لأبنائه (لذا هم عربيو اللسان وعبريو النسب). وبعد الفتوحات الإسلامية في شرق الأرض ومغربها دخلت أمم عديدة للإسلام واختلطت انساب، ونطقت العربية فسميت بـ(العرب المستعجمة)، ولذا قال رسول الله (كلكم من آدم وآدم من تراب).
وقال الدكتور أحمد سوسة: (ويصف ابن خلدون في كتابه ” تاريخ العبر وديوان المبتدأ والخبر” العرب العاربة والعرب البائدة بأعتبارهما مصطلحين لمعنى واحد فيقول: إن العرب العاربة شعوب كثيرة وهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وعبد ضخم وجرهم وحضرموت وحضور والسلفات وسمي هذا الجيل العرب العاربة أما بمعنى الرساخة في العروبية والمبتدعة لها بما كانت أول أجيالها، وقد تسمى البائدة أيضاً بمعنى الهالكة لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم “). ومشكلة النسابين أنهم يدخلون قوما في قوم آخرين، أو كما جرى من رشوة العديد منهم وخاصة من قبل الحكام والسلاطين، فأضافوا أشخاصا لانساب ليست لهم، أو وضعوا شجرة عائلة حسب هواهم كما حصل في نسبة الملك فاروق الألباني الأصل للرسول الكريم، كذلك ما قام به بعض المتجاوزين على الدين والنسب من إلحاق نسب طاغية لا يعرف أصله ولا فصله مثل المقبور صدام حسين بالشجرة العلوية الشريفة، أو لجهل في الأنساب. وكان رسول الله كما يقول عبد الله ابن عباس إذا انتسب لا يجاوز معد بن عدنان ثم يمسك ويقول: (كذب النسابون) مرتين أو ثلاثا، وهكذا يعلن الإسلام إن الغرض من الأنساب ومعرفة القبائل ليس لأجل التفاخر بطول سلسلة النسب أو بلوغها إلى آدم كما هو شائع عند النسابين، بل إن الغرض من الأنساب ومعرفة القبائـل هو ما ذكرتـه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) – الحجرات 13 -، لذلك جاء قول رسول الله: (الناس سواسية كأسنان المشط)، و (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
التعالي العروبي على بقية الأمم:
وعلة العلل عند العرب أنهم يفاخرون الأقوام الأخرى بأشياء لم تكن يوما إلا في مخيلتهم، فيصطنعون مقالات وقصص بعيدة كليا عن الواقع الحقيقي تدمغهم بروح التعالي والتكبر على باقي الأمم والشعوب وكانت احد اسباب سقوط وانهيار بعض دولهم كسقوط الدولة الأموية بسبب العصبية القبلية التي كانت عاملا أساسيا في إثارة بقية الأقوام من غير العرب عليهم للتمايز الواضح بين الشعوب التي وقعت تحت سلطتهم.
ووصل الحد بالتجاوز حتى على الباري عزوجل عندما ينسب البعض الآية القرآنية التالية للعرب (كنتم خير امة للناس تؤمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) – آل عمران110 – في التفاخر والتفاضل على بقية الأمم، بينما هي في الحقيقة إكرام لفئة معينة من أمة محمد جمعاء ولم تكن مخصصة لأمة العرب، كذلك هي صيغة المخاطب في حالة الماضي البعيد من كنتم، أي خبر كان التي تتحدث عن الماضي وليست لها علاقة بالحاضر. كذلك قال البعض عن رسول الله (خير القرون قرني) فكيف يجمع الرسول الكريم زمنه مع زمن طغاة آخرين جاؤوا من بعده وفي نفس القرن فعند السنة الأربعون للهجرة وهي بدء عهد الدولة الأموية بكل ما فيها من طغاة ومتجبرين على البشرية مثل زياد إبن ابيه، ويزيد بن معاوية وقائده مسلم بن عقبة بن مري الذي استباح مدينة الرسول، وضرب مكة المكرمة بالمنجنيق، او الحجاج بن يوسف الثقفي الذي استباح مكة وضربها بالمنجنيق ايضا وصلب عبد الله بن الزبير ابن ذات النطاقين وحفيد أبي بكر ؟؟!!. وأي امة هذه التي يمدحها القرآن الكريم التي انتظرت وفاة الرسول الكريم لتقتل ذريته وتسبي عياله، واحد طغاتهم وهو يزيد بن معاوية وقاتل سبط النبي الحسين الشهيد يتمثل ببيت الشعر الذي يقول (نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل.. فلقد قضيت من الرسول ديوني)؟؟!!. والتخصيص جاء في القرآن الكريم محددا ببني إسرائيل وفي خطاب مباشر وواضح وفي الآية الكريمة لتكريم بني إسرائيل: (يا بني إسرائيل إنا فضلناكم على العالمين)، و (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) – البقرة 40 -، و (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)- البقرة 122- أي إن التفضيل جاء ضمن خطاب مباشر من الباري عزوجل لبني إسرائيل. بينما جاء خطاب الباري خطاب تأنيب وتوبيخ للعرب وفي سورة سميت بصورة براءة، أو التوبة وهي الصورة الوحيدة في القرآن الكريم التي جاءت بدون البسلمة، وهي سورة تحذيرية. وقد جاء فيها من قوله عزوجل: (الأعراب اشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما انزل الله على رسوله والله عليم حكيم) – التوبه 97 – وكذا وفي نفس السورة (ومـن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء واللّه سميع عليم) – 98 -، وقال تعالى في الآية التي تليها من نفس السورة التوبة: (ومن الأعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربت عند اللّه وصلوت الرسول إلا إنها قربة لهم) – 99 -، وقال في الآية 101 من نفس الصورة: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ).
ولهذا حاول المفسرون العرب أن يدفعوا تهمة الكفر بتفسيرهم لكلمة (الإعراب) بعيدا عن كلمة العرب التي هي جمع ومفردها (عربي)، فقالوا (الأعراب القساة / كلمة الأعراب من الكلمات التي تعطي معنى الجمع , ولا مفرد لها في لغة العرب , وعلى ما قاله أئمة اللغة – كمؤلف القاموس والصحاح وتاج العروس وآخرون – فان هذه الكلمة تطلق على سكان البادية فـقـط, ومـخـتصة بهم , وإذا أرادوا إطلاقها على شخص واحد فإنهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها ياء النسب , فيقولون: أعرابي. وعلى هذا فان أعراب ليست جمع عرب كما يظن البعض.)، وفسروا كلمة الأعراب بمعنى القساة الغلاظ الجفاة. ونـقـل أيضا عـن الإمام علي في نهج البلاغة انه خاطب جماعة من أصحابه العاصين لأمره فقال: (واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا). وفسر رسول الله كلمة بداوة (من بدا جفا).
وردا على كل ذلك فالعرب أو الاعراب هم نفس القوم الذين كانوا في اول الرسالة المحمدية، والخلافة الراشدية حول النبي الكريم وصحبه، ومنهم شكى النبي الكريم وعناهم بقوله (ما اوذي نبي قط مثل ما اوذيت)، وهو القائل: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
الشيعة والتشيع:
وتفسير التشيع لغة هو بمعنى المشايعة أي المتابعة والمناصرة والموالاة، فهو من شيعته أي من أنصاره، وجاء في الآية الكريمة: (هذا من شيعته وهذا من عدوه) – القصص 15 -، و (وإن من شيعته لإبراهيم) – الصافات 83 -.
وغلب هذا الاسم على أنصار الإمام علي بن أبي طالب، وقد قال الشهرستاني في الملل والنحل: (الشيعة هم الذين شايعوا عليا وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصاية أما جليا أو خفيا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده). أما النوبختي في كتابه الفرق فقال: ” الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمون بشيعة علي في زمن النبي ومن وافق مودته مودة علي ” – فرق الشيعة –.
وأما الدكتور عبد العزيز الدوري فقد رسم للشيعة صورة في كتابه ” مقدمة في تاريخ صدر الإسلام “: عن طريق تقسيمه للتشيع إلى روحي بدأ أيام النبي وسياسي حدث بعد مقتل الإمام علي، وقد استدل لذلك بأن التشيع بمعناه البسيط دون باقي خواصه الاصطلاحية قد استعمل في صحيفة التحكيم التي نصت على شيعة لعلي وشيعة لمعاوية مما يعطي معنى المشايعة والمناصرة فقط دون باقي الصفات والأبعاد السياسية التي حدثت بعد ذلك.
وقد بدا التشيع أيام رسول الله عندما تحلق جماعة من المسلمين حول الإمام عليا وسموا بشيعته أيام الرسالة الإسلامية، وذاع صيتهم بعد الفتح الإسلامي للعراق، مع انتقال عدد من الصحابة، ووجوه بعض القبائل العربية، أثناء خلافة الإمام علي بن أبي طالب إلى عاصمته في الكوفة، وبدؤوا في الانتشار داخل المجتمع الكوفي القبلي، ليشكلوا بدايات المجتمع الشيعي العربي. ثم هاجرت أقوام شيعية إلى مناطق مختلفة هرباً من اضطهاد الحكام الجائرين، وانتشر التشيع في أقوام أخرى في البقاع العربية وغيرها، واستقر في مواطن كثيرة. وجاءت الهجرة الثانية للقبائل العربية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليتكون المجتمع الشيعي العراقي الحديث وبتشجيع من الولاة العثمانيين في العراق. وجاء توسع وانتشار المذهب الشيعي في العراق من دون نجاحه في خلق دولة شيعية خاصة به في نفس وقت ظهور ثلاث حركات مذهبية شكلت ثلاث دول في المنطقة، وهي الوهابية في الجزيرة العربية (1745- 1818 و 1823 – ثمانينيات القرن التاسع عشر و 1902 – حتى وقتنا الحاضر) والمهدية في السودان (1881 – 1898) والسنوسيه في ليبيا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتحقق التوسع الشيعي في العراق بطريقة سلمية، وبتشجيع من الحكومة العثمانية السنية بالدرجة الرئيسية , من خلال تشيّع عشائر العراق المتوطنة ” والسنية اسما “، ويظهر عامل أساسي مهم وهو ظهور النجف وكربلاء بوصفهما معقلين للمذهب الشيعي منذ منتصف القرن التاسع عشر , مهدا الأرض لعملية بناء مجتمع شيعي متماسك وفتت الاتحادات العشائرية القديمة.
كذلك كان هناك عوامل مساعدة اخرى ساعدت على تشيع العدد الكبير من ابناء العشائر العربية التي استوطنت العراق في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان من اهمها انشاء قناة اروائية على نهر الفرات لتشجيع البدو على الاستيطان لتوفر الماء والكلأ عندما فتحت قناة الهندية التي مولت بمساهمة قدرها 500 ألف روبية من (حسن رضا خان) وزير دولة (اوذة) الشيعية الأول – رئيس الوزراء – ” وقد ظهرت دولة (اوذة Awadh) الشيعية Oudh)) في شمال الهند 1720 – 1856 م ” وذلك في ثمانينات القرن الثامن عشر، وانجزت قناة الهندية بعد عام 1803 م لتروي الاراضي الممتدة حتى النجف، وهي عامل اساسي في ازدهار منطقة الفرات الاوسط زراعيا وإقتصاديا. وشقت بعد ذلك في اواخرالقرن التاسع عشر ثلاث قنوات اخرى مولت اولاها من قبل (محمد إسماعيل خان) حاكم كرمان الايراني، واما الاخريين فقد مولتا من قبل العثمانيين انفسهم، مما زاد من المساحات المروية، وادت لاستقرار عشائر عديدة حولهما مثل (بني مالك وفروعها / بني حسن وبني زريج وآل علي، وآل فرج والعوابد والحميدات وآل اسماعيل وآل ابراهيم)، وكذلك الشليحات وآل فتلة والقريط. ومن العوامل الاخرى هجمات الوهابيين الوحشية على القبائل، ووجود مدينتي النجف وكربلاء على تخوم الصحراء جعلهما سوقا تجارية للعشائر الرحل وزاد من رغبتها في التوطين لوفرة الماء والحبوب.
وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر كثافة كبيرة في عملية التشيع في العراق كتشيع (بني حچيم من الزبيد، والشبل من الخزعل وآل فتلة وفرعهم من الدغارة من الدليم وبني حسن من بني مالك، والعفك). بينما تشيع العبيد وفروع من شمر والظفير وبني تميم قبيل القرن التاسع عشر او خلاله التي وصلت للعراق في القرن الثامن عشر. بينما لم تتشيع اتحادات العراق العشائرية القديمة إلا ابتداء من اواخر القرن الثامن عشر الميلادي كـ (المنتفق والزبيد والدليم والبو محمد وخزعل وبني لام وربيعة وكعب).
وساعد على التوسع الشيعي في العراق أيضا كما قال الشيخ المظفّر: (وساعد على نمو التشيّع وانتشاره في العراق، أن تكوّنت من الشيعة فيه سلطنات دول وإمارات كسلطنة آل بويه، وإمارة بني مزيد في الحلّة والنيل، وبني شاهين في البطائح، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل، ونصيبين، وكدولة بعض المغول أمثال محمّد خدابنده وابنه أبي سعيد، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه وهناك أمارات عليه إلاّ أنّه لم يصارح به، وكدولة الجلائرية التي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قوّاد المغول وابن أُخت محمود غازان ومحمّد خدابنده، وكانت بغداد عاصمة ملكه). ولم يكن حتى ذلك الحين أي تشيع في إيران السنية حينذاك التي تشيعت بعد ذلك على أيدي الصفويين التي تأسست دولتهم العام 1501 م في تبريز. ولكن كان هناك شيعة عرب يتمركزون في مدينة قم وهم أخوة من أبناء سعد بن مالك الأشعري، وكانوا ضمن الفارين لمنطقة قم بعد هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث (امير سجستان من جهة الحجاج والذي خرج عليه) وفرَّ إلى كابل، ونزل هؤلاء في سبع قرى في منطقة قم كان اسم احداها (كمندان) ولما استوطنوها اجتمع اليهم بنو عمهم وصارت القرى السبع سبع محلات سميت احداها كمندان ثم اسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قماً وهي مأخوذة من كلمة (كومة) التي كان الفرس يطلقونها على بيوت الرعيان الذين يردون قم للرعي (و هم اول من سكنوا المنطقة)، ويذكر ان قم كانت اول تأسيسها على قسمين عجمي وعربي يسمى القسم العجمي بـ (كوميندان) والقسم العربي كان يسمى حتى سنة 1359م (عربستان) او (حسين آباد)، وكان لوجود مرقد السيدة الجليلة فاطمة المعصومة أخت الإمام الرضا في المدينة السبب الرئيسي في عمرانها وتوسعها.
وكان السبب الرئيسي لنجاح الدعوة العباسية هو ظهورها بمظهر الدعوة للرضا من آل محمد وكان اول وزرائهم الذي استوزره ابو العباس السفاح أوّل ملوك بني العباس أبا سلمة الخلاّل الكوفي الهمداني داعية أهل البيت، وقتله على التشيّع ايضا. وكان من ابرز قوادهم من الشيعة طاهر بن الحسين الخزاعي، وأولاده كابنه عبد الله، ومحمّد بن عبد الله وغيرهما، وتولّيهم إمارة هراة، ولا زالت عوائل إيرانية للآن تحمل هذا اللقب ” خزاعي “. وكان من ابرز نقابة الطالبيين في بغداد الشريف الرضي وأبيه وابنه وأخيه المرتضى المدفونين بمقابر قريش في بغداد (الكاظمية) عند مرقد الامام الكاظم.
الصفويون:
لم يورد المؤرخون أية علاقة بين نشوء الدولة الصفوية في إيران وبين شيعة العراق العرب الاقحاح المنحدرين من الاتحادات العشائرية العربية التي نزحت من الجزيرة العربية. وكل كتب التاريخ تتحدث عن ارتباط وثيق بين الإسلام الشيعي والتربة العراقية، وهذا اسحق نقاش يقول في كتابه (شيعة العراق): (ارتبط الإسلام الشيعي منذ بدايته ارتباطا وثيقا بالعراق لأن العديد من الأحداث المكونة للتاريخ الشيعي وقعت هناك. ففي 661 ميلادي اغتيل علي ابن أبي طالب، الخليفة الرابع والإمام الشيعي الأول في احد مساجد الكوفة. وقتل الحسين بن علي الذي طالب بالخلافة مع صحبة في معركة وقعت في سهل كربلاء سنة 680 م. وأمضى العديد من الأئمة الاثني عشر شطرا على الأقل من حياتهم في العراق. وفي العراق توجد مدن العتبات الشيعية الأربع الأكثر قدسية، وهي النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء.).
َوِلمَ يأخذ بعض المتقولين من المتحدثين عن جهل في الوقت الحاضر الفروق التاريخية والقومية بين شيعة العراق وهم اصل الإسلام الشيعي ونواته الأولى الذين كانت من أهم اتحادا تهم العشائرية متواجدة في جنوب العراق ووسطه خلال الفترة العثمانية (المنتفق والزبيد والدليم والعبيد والخزعل وبني لام والبو محمد وربيعة وكعب)، وبين الصفويون الترك الذين حكموا إيران مابين 1501 – 1722 م، مع تغير عواصمهم في إيران (تبريز: حتى 1548 م، قزوين: 1548-1598 م، أصفهان: منذ 1598 م) ؟؟!.
ويخلط البعض إما عن جهل أو متعمدين بين الصفويين وهم سلالة تركمانية من الشاهات حكمت في بلاد فارس (إيران)، وبين العرب الشيعة القادمين من لب الجزيرة العربية. وهو خلط وادعاء متعمد وجزء من صراع تاريخي أججته الدولة السنية العثمانية إثناء صراعها مع الدولة الصفوية في إيران التي تزامن ظهورها مع توطد أركان دولتهم وتوسعها على حساب البلدان العربية خاصة. فكان كل من السلطان العثماني والشاه الإيراني يدعي تمثيل المسلمين ويسمي نفسه (عاهل الإسلام)، َومثلَ هذا صراع سني – شيعي بين طرفين سياسيين استخدما الدين وسيلة للوصول إلى مآربهما دون أن تكون هناك أية علاقة لعرب العراق الشيعة بالصراع الحاصل آنذاك. وقد أثر ذلك الصراع السياسي الديني والاقتصادي على العراق كافة، بسبب من مطامع الدولتين المتصارعتين.
لذلك يحاول الجهلة بالتاريخ او المتجاهلين للتاريخ أن يخلطوا الشعوب الإيرانية المتواجدة في بلاد فارس كالفرس والترك والكورد والآذريين والبلوش واللر والعرب بشعب واحد عندما يطلقون عليهم بـ (الصفويين)، او (الفرس)، فالصفويين / آل صفويان:وهي سلالة تركمانية من الشاهات حكمت في بلاد فارس (إيران) سنوات 1501-1722. والصفويون أسرة تركمانية (لفظ التركمان يعني التركي المؤمن فهو مشتق من الكلمتين تورك وإيمان وأطلق على المسلمين الأوائل من أتراك الاوغوز-الغز- فى تركستان.) أسسوا الطريقة الصفوية في مدينة أردبيل في شمال شرق ايران (آذربيجان الجنوبية).وتشتق الاسرة اسمها من اسم جدها المتصوف السني الشافعي الشيخ صفي الدين أردبيللي (650 هـ -1334م). وقد نجح أحفاد الشيخ صفي الدين وخاصة الشيخ جنيد 1447-1460م وابنه الشيخ حيدر 1460-1448م في نشر المذهب الشيعي بعدما تشيعوا لأهداف سياسية وأصبحوا قادرين على المشاركة في الأحداث السياسية في آذربيجان وإيران وتحولوا من شيوخ طريقة إلى دعاة دولة لها أهدافها السياسية ومنذ ذلك الحين كان الإسلام الشيعي دين الدوله في إيران (باستثناء فتره قصيرة بعد الاحتلال الأفغاني السني لأصفهان في 1722). وكانت الأجواء في إيران بالربع الأخير من القرن العاشر الميلادي حيث التمزق والفوضى والاقتتال على السلطة بين أبناء أسرة آق قويونلو (والآق قويونلو، أوالآغ قويونلو، الخرفان البيض: من القبائل التركمانية التي حكمت في شرق الأناضول، أذربيجان، فارس وكان يحكم قبلهم القراقويونلو، القره قويونلو أو الخرفان السود: قبيلة من التركمان حكمت في شرق الأناضول، أذربيجان، القفقاس وبعض الأجزاء من إيران والعراق، سنوات 90/1380-1469 م. وكان الخروف شعارهم المقدس، ويعلقونه كتميمة)، فرصة مهمة استفاد منها الصفويون واستغلوها لكسب المزيد من الاتباع في عهد الشاه إسماعيل الاول الصفوي وكانت ايران سنية المذهب، ولم يكون فيها سوى أربع مدن شيعية هي: آوه، كاشان، سبزوار، قم. وعقب تتويج إسماعيل الصفوي ملكا على إيران أعلن فرض المذهب الشيعي مذهبا رسميا للدولة.
العامل السياسي في الخلط بين شيعة العراق والصفويين:
يتضح مما تقدم عبر ما تبين من نبذ تاريخية أظهرت بوضوح الكثير من الوقائع للفرق بين شيعة العراق العرب وشيعة إيران من القوميات المتعددة والموصومة بـ (الصفويين)، بإن لا رابط فيما بينهم سوى اعتناقهم للمذهب الشيعي فقط، لذا فكل المسالة التي أخذت تتصاعد بدرجة كبيرة وعالية هي مسألة سياسية بحتة، ضمن صراع سياسي جلي ولا علاقة للمذهب الشيعي بها مطلقا، وألا كيف تتم تسمية شيعة الوسط والجنوب بـ (صفويين) خاصة المعروفين بأصولهم العربية والمنحدرين من اتحادات عشائرية واحدة تجمعهم في الأصل والنسب بأولاد عمومتهم من السنة في العراق ومن نفس العشائر والعمومة، بينما يدعي العديد من المستعربين التمسك بالقومية العربية وهم بعيدين عنها كل البعد ؟؟!!. ولم َ لم ْ تطرح نفس التسمية على السنة الفلسطينيين من حركة حماس المتحالفين رسميا مع الدولة الشيعية في إيران، أو على حزب الله اللبناني الذي يستمد كل قوته المالية والمعنوية والسياسية من الدولة الشيعية الإيرانية ؟؟!. ولماذا لا تطلق هذه التسمية على الدولة السورية التي ترتبط بحلف سياسي قوي بينها وبين جمهورية إيران الإسلامية منذ تسلم صدام حسين للسلطة العام 1979، وتقوى هذا الحلف أيام الحرب العراقية – الإيرانية ؟؟!!.
فالصراع برمته إذا هو صراع سياسي بحت وقد انبثق هذا الصراع وتحول إلى مشكلة بين المسلمين منذ لحظة وفاة الرسول الكريم، وتحول من صراع سياسي على السلطة الدنيوية لصراع ديني اتخذ منحا طائفيا بحتا. ومن ثم وبعد الفتوحات الإسلامية ووصول الأسلاب اثر الغزوات من ذهب وفضة وجواري وغلمان، تحول الصراع إلى صراع سياسي – اقتصادي استخدمت فيه شتى الطرق الخبيثة ووجهت لأطراف المعارضة والتي كانت معظمها ذات توجه يساري شيعي أنواع من التهم بواسطة شيوخ السلاطين ووعاظهم الذين اجتذبتهم السياسة والمناصب ورنين الدنانير الذهبية، فاطلقت تهم على العديد من العلماء والمثقفين والكتاب والشعراء بحجة كونهم شعوبيين، أو زنادقة لا لشئ وإنما لمجرد كونهم من شيعة آل البيت، او من الثوار اليساريين القريبين من الشيعة. وقد عوقب إمام المذهب الحنفي (أبو حنيفة النعمان بن ثابت) – ت 150 هـ – من قبل الخليفة المنصور العباسي وجلده ثمانين سوطا لانه افتى بالخروج مع أبراهيم أخي محمد ذو النفس الزكية (محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بين علي ابن ابي طالب) – قتل 145 هـ – في ثورته على ظلم العباسيين. ووصل البعض نسب أبو حنيفة العراقي المولد لمدينة كابل الافغانية متعمدين رغم كونه من مواليد بابل في العراق وكان مذهبه يسمى مذهب (اهل العراق).
وقد توضح الصراع في العصر الحديث وخاصة بعد تعاظم دوري الدولتين العثمانية والفارسية في المنطقة، فأصبح مطمع كل منهما أن تكون له هوية تقوم على التمايز المذهبي لكي تميزه عن الآخر، وتجذب الرعية نحوه بحجة الدفاع عنهم. فسلاطين بني عثمان حاربوا التشيع بشخص الصفويين الذين كانوا أندادا سياسيين لهم عند تعاظم دولتهم الصفوية، ونشطت في تلك الفترة فتاوى (شيوخ الإسلام) في «الآستانة» وغيرها ضد الشيعة. وحتى عندما جاءت الدولة القاجارية التي خلفت الدولة الصفوية – وهي الأسرة التي حكمت إيران لمدة مائة وخمس وثلاثين سنة، ابتداءً من سنة 1209هـ، والقاجار أصلاً هي إحدى العشائر الفارسية التي كانت تقطن شمال غرب إيران، وكان لها (خان) – قائد – خاص بها يقودها، وكانت تعيش في شبه استقلال ذاتي، وقد دخلت لعبة الصراعات العشائرية التي ماجت بها الهضبة الإيرانية بعد سقوط الدولة الصفوية سنة 1148هـ، وقد استمرت الصراعات داخل إيران حتى استقرار الأوضاع بسيطرة القاجاريين على الوضع سنة 1209هـ بعد أن انتصروا على عشائر الأفشار والزنديين وكان اول ملوكهم ” آقا محمد ” وآخرهم ” احمد شاه ” – توفي في منفاه فرنسا العام 1930 – الذي تنازل عن العرش مجبرا لـ (رضا خان) او رضا بهلوي كما سمي نفسه بعد ذلك العام 1925 والذي حكم وابنه (محمد رضا بهلوي) حتى سقوط دولتهم بالثورة الايرانية عام 1979 م – بقي اسم الصفويين يطلق تعصبا او نكاية بالشيعة العرب، او جهلا من قبل البعض من المتعصبين القوميين وخاصة من المستعربين العرب الجدد. ولكن حدث تقارب شيعي سني في العصر الحديث منذ دعوة المصلح الاسلامي (جمال الدين الحسيني الافغاني) – ت 1896 م -، وعدد كبير من دعاة التقريب بين المذاهب، ومن جديد عادت الدعوة في زمن الشيخ محمود شلتوت عندما كان إماما للأزهر الشريف، ويوم لم يكن هناك تهديد سياسي شيعي مؤدلج زمن جمال عبد الناصر في بداية ستينيات القرن الماضي. ولكن الآية انقلبت عندما جاءت الحكومة الإسلامية في إيران بعد ثورتها الشعبية التي جيرت بعد ذلك للاطراف السياسية الدينية، وصعود نجم المرحوم السيد الخميني، وتحول الثورة لدولة تحتضن فكر شيعي مؤدلج ومسيس، يومها عادت سحب الماضي القاتمة من جديد وأصبح الإسلام الشيعي وخاصة في العراق (إسلاما صفويا) غذته بقوة وعنف أفكار البعث في قادسيته المشئومة، ووضعت أسس لمفاهيم جديدة ساهمت في تقسيم المجتمع العراقي المسلم (جمهرة المسلمين) بين سني عروبي، وشيعي صفوي، كي يسهل قيادهم ويكونوا رعية حقيقيين يسوسهم راع وفق صيغة مفهوم ملصوق بالرسول الكريم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، ولكي تسلب منهم إرادتهم ويسوقونهم سوق النعاج، ضمن نهج شوفيني دموي أسس له شخصية متخلفة وحاقدة ومنبوذة هو ميشيل عفلق المؤسس الثاني لحزب البعث بعد ان استلبه من مؤسسيه الحقيقيين زكي الارسوزي ورفاقه من العلويين السوريين الساكنين في انطاكية التي تتبع تركيا الآن.
لذلك فهناك ماض مسيس ومؤدلج ضمن مفاهيم سلطوية بحته تم عكسه على الحاضر للتشويش على مفاهيم العصر الديمقراطية الحديثة، ووضع العصي في عجلة التقدم الاجتماعي السياسي للمجتمع العراقي لأغراض ومآرب سياسية بحتة، هدفها في الأول والأخير السلطة وليس غيرها، وبالتالي السيطرة على خيرات وموارد بلد مثل العراق الذي حكم بالحديد والنار منذ ما يقارب من أربعة عشر قرنا أي منذ بدء دولة بني أمية في العام الأربعين للهجرة، ومن قبل أقلية عروبية تصنعت الدعوة للاسلام حتى مجيء الحكم العثماني الكارثي المغلف بغلاف اسلامي كاذب حتى سقوط حكم البعث الفاشي في 9 نيسان 2003.
العلاقة بين شيعةالعراق وإيران:
لم تكن العلاقة في يوم ما علاقة وديه بحتة بين شيعة العراق المنحدرين من الاتحادات العربية الكبيرة وأي من انظمة الحكم المتعاقبة في إيران سوى ما يتعلق بمراسم الزيارات المتبادلة بين جمهور المؤمنين من الشيعة من الطرفين لمراقد أئمة أهل البيت المشرفة في كلا البلدين. وزاد من تلك الروابط عملية نقل الموتى للنجف الاشرف من الشيعة الايرانيين ودفنهم في مقبرة الغري في النجف الاشرف، وحركة العلماء المتواصلة بين البلدين بسبب تواجد المدارس الدينية في كل من الحلة وكربلاء والنجف وسامراء في العراق وقم ومشهد في ايران. لكن ظل هناك صراعا خفيا بين الطرفين رغم إن معظم المجتهدين من رجال الشيعة كانوا من الإيرانيين – من الخطأ اطلاق لقب فرس ايضا عليهم كما يحصل كثيرا كونهم ينحدرون من قوميات ايرانية مختلفة كما فصل سابقا فالسيد الخامنئي تركي آذري وليس فارسيا وكذلك الشيخ رفسنجاني من رفسنجان التركية، وآية الله موسوي ادربيلي من اردبيل التركية، والمرحوم السيد الخوئي من خوي التركية في بلاد فارس وغيرهم الكثير –، واصل الصراع الذي ظل متواصلا لحد الآن والذي يظهر في التدخل الايراني لحرف النهج الديمقراطي في العراق الجديد في الوقت الحالي هو صراع سياسي – اقتصادي لا علاقة له بالمذهب الشيعي، لسبب واضح وبسيط يتمثل في الزعامة الروحية لجمهور المؤمنين من الشيعة في كافة بقاع العالم والذي ينوف عددهم على 300 مليون مسلم شيعي، إضافة لما يوفره عدد كبير من هذا الجمهور المؤمن من مبالغ مالية كبيرة تمثل خمس السادة الذي يؤوله الشيعة عملا بنص الآية الكريمة (واعلموا انما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا يوم الفرقان يومالتقى الجمعان والله على كل شيء قدير) – الأنفال 41 -، او ما يطلق عليه بـ (الحقوق الشرعية). وقد كان هناك تنافس كبير من هاتين الناحيتين بين حوزتي العراق وإيران ولا زال كذلك للآن، وقد كانت تلك الاموال الكبيرة من الضخامة بحيث اثارت الحكومة الايرانية ودعتها لتشجيع بقائها داخل ايران لاعمار المدن الايرانية المقدسة، وتطويرها. ففي عام 1918 م قدر تقرير بريطاني ما وصل من اموال للنجف من خمس وهبات خيرية واموال الوقف ما مقداره مليون جنيه استرليني. وهناك ثلاثة انواع من الاموال الخيرية التي تدفع للمجتهدين والسادة يمكن تصنيفها على الوجه التالي: وتتمثل الاولى بقسمين هما (سهم الامام) و (رد المظالم). أما النوع الثاني فيشتمل على ثلاثة اقسام (حق الوصية) و (الصوم والصلاة) و (النذور)، مع اموال الاماكن الموقوفه وهي ما يسمى بـ (وقف الحسين). وقد عزز الموقف المالي للمجتهدين الشيعة انتصار المدرسة الاصولية التي تغلبت على المدرسة الإخبارية التي كانت سائدة في العراق في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حيث عززت المدرسة الاصولية الرأي القائل بتحويل الاموال الشرعية العامة للمجتهدين راسا. ووصل للمجتهد الاكبر للشيعة في اواخر اربعينات القرن التاسع عشر الشيخ مرتضى الانصاري – ت 1864 م – الذي كان مقيما في مدينة النجف 200 ألف تومان سنويا وهو اجمالي الحقوق الشرعية من التجار والملاك الايرانيين والحكومة القاجارية. هذا غير ما يصل من اموال هندية، فقد حول حكام دولة (أوذة) الشيعية مابين الفترة الزمنية 1780 – 1844 م ما مقداره باكثر من مليون روبية هندية. لهذا فكر شاه ايران (رضا بهلوي 1925 – 1941 م) بايقاف تدفق الاموال الشرعية الايرانية للعراق والعمل على بقائها داخل ايران لتعمير العتبات المقدسة وتطويرها في مدينة مشهد الايرانية حيث مرقد ثامن أئمة اهل البيت (علي بن موسى الرضا – ت 203 هـ -)، وقد كان لهذه السياسة دورها في اضعاف الدور الاقتصادي للمدن الشيعية ككربلاء والنجف يوم كان هناك مجتهدا بقوة السيد أبو الحسن الاصفهاني – ت 1365 هـ – 1946 م -، ورغم ذلك فان الاموال التي وصلته قدرت بـ (550 – 600) الف دينار عراقي. وقد تطورت المدن الدينية الايرانية مثل قم ومشهد، وبرز دور المرجعية الايرانية بظهور المرجع السيد حسين البروجردي بعد وفاة السيد الاصفهاني – ت 1365 هـ – في مدينة قم على حساب المدن الدينية المقدسة في كربلاء والنجف الاشرف. لكن دور المرجعية الدينية عاد للنجف بعد وفاة السيد البروجردي العام 1380 هـ.
وظل الصراع السياسي الاقتصادي ظاهرا للعيان بين مد وجزر، وقد ظهر بوضوح محاولة الحوزة العلمية الدينية في مدينة قم بالبروز بعد وفاة السيد الخوئي عام 1992 م، وإثر الضربة التي وجهت لعموم الشيعة العراقيين من قبل النظام الفاشي الدكتاتوري المهزوم من الكويت، وخاصة في وسط وجنوب العراق اثر فشل انتفاضة الشعب العراقي في آذار / شعبان 1991، ومن قبلها استشهاد السيد محمد باقر الصدر – أستشهد 1980 م – حيث برزت المرجعية الايرانية آنذاك بقيادة السيد محمد رضا گولپايگانی – ت 1414 هـ / 9 ديسمبر 1993م – لذلك حاول النظام الايراني ترشيح السيد على الخامنه ئي – ولد 1358 هـ – يوم وفاة السيد الگولپايگانی عن طريق الاعتماد الكلي على قوة ونفوذ الحرس الثوري الايراني (الپاسداران)، الذين علقوا اللافتات على مقراتهم ومقرات الجيش والشرطة صبيحة يوم تشييع جثمان السيد الگولپايگانی قادما من طهران وهي تحمل عبارة (هم مرجعي هم رهبري خامه نئي)، أي (الخامنه ئي مرجع وقائد)، لكن جماعة العلماء في المدرسة الفيضية في قم التي تأسست في العهد الصفوي اختاروا آية الله الشيخ محمد علي الأراكي – ت 1415 هـ ـ والذي وافته المنية بعد اشهر قليلة من وفاة السيد الگولپايگانی، وعادت مناقشة قضية المرجعية من جديد، ولكنها حسمت بشكل نهائي بتعدد المراجع واختيار المؤمنين للمرجع الذي يقلدونه من بين المراجع الآيات العظام.
وكان ظهور دور المرجعية الدينية في النجف الاشرف من جديد بعد سقوط النظام الفاشي الدكتاتوري في 9 نيسان 2003، عاملا مهما في زيادة القلق الإيراني من تنامي دور المرجعية في الحوزة العلمية العراقية رغم وجود السيد علي السيستاني – ولد 1394 هـ / 1930 م – في مدينة مشهد الإيرانية، بعد أن تصدى بجدارة للدور القيادي لعموم الشيعة في العالم، وهو عامل مهم وكبير في الدور الإيراني المعروف في التدخل بالشأن العراقي ومحاولة وأد التجربة الديمقراطية في العراق الجديد الذي يمثل خطرا على كل الدول الإقليمية التي لا تتماشى سياساتها مع شعوبها مع ما يجري من تحول ديمقراطي في العراق الجديد ومن ضمنها إيران.
خاتمة المطاف:
من كل ما تقدم من سرد للوقائع التي تبين التناقض الواضح بين العرب الشيعة العراقيين، ومثيلهم في المذهب من الشيعة الايرانيين من مختلف القوميات التي يجمعها الوطن الايراني من بلاد فارس القديمة يتضح عدم صحة ما يطرح عن عمد او عن جهل بالعلاقة القائمة بين طرفي المعادلة من الشيعة العرب العراقيين، والشيعة الايرانيين، وخاصة ما اصطلح على اطلاق تسميتة بـ (صفويين) على الشيعة العرب الأقحاح الذين استوطنوا وسط وجنوب العراق ما قبل الفتح الاسلامي، ومن ثم تواصلت هجرتهم واستيطانهم في العراق بعد الفتح الاسلامي وحتى يومنا هذا.
والمثير للعجب والتساءل المر ان مدعي القومية من العروبيون وخاصة من المستعربين الجدد يمجدون العديد من أئمة الحديث، وعلماء العربية والقادة المسلمين من غير العرب والتاريخ حافل باسمائهم ولا داع للمرور على ما قاموا به، لكنه يقف مستنكرا عن الحديث عن خيرة رجال العرب من العرب الشيعة ويصمهم بالشعوبية، او الصفوية، او ما شابه ذلك من النعوت للحط من قدرهم وقيمتهم العلمية أو الادبية، ولصبغهم بصبغة نقيصة. لذا تراهم يمجدون بطريقة لا يتصورها العقل البشري شخصية مملوك من مماليك الفاطميين من غير العرب، ويضعونه في مصاف الملائكة بحجة تحرير القدس، ويصمون آذانهم عما اقترفه ذلك المملوك من مجازر دموية ترقى لدرجة مذابج الهولوكست التي جرت في العصر الحديث لليهود في أوربا، وللعراقيين اجمع وخاصة الشيعة والكورد في زمن العفالقة الفاشست من متبني الفكر الشوفيني العروبي، لا لشئ سوى إنه أباد الشيعة المصريين في دولة المعز الفاطمية، وحولها من دولة شيعية لدولة سنية. بينما لم يتحدث التاريخ عن الشيعة العرب في العراق الذين نزحوا من الجزيرة العربية ليصلحوا أراض بور، ويعمروها بدل ان كانت صحراء قاحلة مجدبة. وقد قال الله تعالى (هل جزاء الاحسان الا الاحسان) – الرحمن 60 – فأين جزاء من احسنوا لتربة العراق منذ اكثر من 14 قرنا من الزمن ؟؟!!.
*ناشط في مجال مكافحة الإرهاب
www.saymar.org
othman_omran44@yahoo.com
alsaymarnews@gmail.com