السيمر / فيينا / السبت 30 . 10 . 2021
وداد عبد الزهرة فاخر *
الا ليت الألى من ” آل حسان ” نسوني01
( صراحة فهذه الرواية ليست هذيان مريض اطبقت عليه جائحة كورونا ، ولا خيال شاعر او كلمات كاتب عضه المرض، وسلبه عافيته،وحاصره بقوة حتى اوصله لحافة الموت فمشى بكل سعادة ورضى نحو نهايته بعيدا عن ظلم البشرية ،وادرانها ، راضيا بكل ما وصل اليه من سعادة وخلاص من عذاب المرض اللعين، وشعر بالرضا لانه رأى ان الآخرة اكثر كثيرا رحمة وجمالا من دنياه التعيسة ، وتيقن بان كل من يموت على حب أمير الفقراء والمحتاجين علي المرتضى يعيش حتى اخرته سعيدا ويطفح وجهه بالبشر والعافية … هكذا رأيت امي !!.
حدث ذلك وانا اصارع سكرات الموت بحي دراغ بالمنصور ببغداد ، حيث عثر اقرباء واصدقاء لي على شقة للايجار لكي اعالج نفسي فيها ، دون علمي ، ولا معرفتي فقد كنت غائبا عن الوعي تقريبا لاكثر من شهر، وبعد حضور ابني الاكبر” براق ” للعناية بي ضاربا عرض الحائط كل التعاليم الطبية بخطورة التقرب من مريض كورونا مثل حالتي ، بعد ان استقر فكره فقط على نجاة ابية ، وانتشاله من وهدة الموت المحتوم .
وحيدا عشت وانا اصارع الموت برفقة ابني ومن دون ان يسأل عني حتى اقرب رفاقي الذين قضيت حياتي منذ يفاعتي في الاول متوسط بثانوية الوثبة بالبصرة لليوم معهم . واصبحت هذه البدعة في النكران سبة تصفع وجوههم ” الثورية” البائسة كقبضة حديدية ، لوجوه شاخت ).
************
كنت اجد السير في الطريق الرابط بين الاهواز وخرمشهر بسرعة وعزم للوصول الى حيث مثوى امي في مقبرة خرمشهر . وصوت خرير ماء نهر الكارون المنساب ببطء وهدوء يطرق اسماعي ، بينما لا ارى خلفي سوى خيالي الممتد بشكل يطمئنني برفيق يصاحبني بمسيري المتعجل نحو المقبرة .
وبدت في الافق نجمة بعيدة تضي لي طريقي المظلم ، وتشع في روحي أملا بقرب الوصول لهدفي البعيد ، كما اصطحبني يوما قبل تسعة اعوام اخي الاصغر الدكتور ” ثائر” ، بسيارته لزيارة قبر امنا بطريقنا للشلامجه الحدودية ،وانا عائد للبصرة بعد زيارة جميلة للاهواز .
وعدت انظر بحزن لنهر الكارون الذي اصبح كانه ساقية ضيقة ، بعد ان كان يفيض بالمياه قبل سنين عدة ، وكان يهدد الكثير من المناطق التي يمر بها في الاهواز بفيض مياهه نحوها.
ومن بعيد لاحت لي انوار مشعة خمنت انها للمقبرة التي كما يبدو اصبحت قريبا مني . فاسرعت بعزم نحو الاضواء التي اقتربت منها اكثر فاكثر ، وطافت بداخلي سعادة لقرب الوصول ، وبلوغ الامل الذي ارنو اليه.
ثم وبتقدمي بالسير الحثيث تناهت لسمعي اصوات مختلطة ، وهمسات عدة ، وشاهدت عن قرب رجال عدة وهو يتجمعون وينتشرون حول القبور ، كأي سمار يحاولون قضاء الليل باحاديث فيما بينهم .
وعندما اقتربت من احدى الحلقات نهض منها شخص تذكرت انني اعرفه من قبل ، وبادرني هو سائلا: انا اعرفك الست ابن حجي علي02 ؟
قلت له : نعم انا هو .
فتساءل قائلا : واخو مصطفى03 ؟
وعرفني على نفسه : اعتقد تتذكرني فانا كنت اعمل بمخبز ” حجي حسن ششتري 04” بالسيمر!
اجبته : الان تذكرتك .
واردفت انا ابحث عن قبر امي ،اشر لي تعال معي ثم قال : هو في الطرف الآخر .
تبعته للحظة ، ثم افتقدته ، وانا اجد نفس وجها لوجه لقبر امي التي كان الضوء الساطع يشع من حجر المرمر الابيض الذي يغطي سطح القبر ، وبدت امي جالسة تحت الحجر وبوجه صامت مضيء ، هي .. هي بنفسها وضفيرتيها الفضيتين تتدليان على صدرها . ولشدة دهشتي وفرحتي بلقائها تحركت سريعا من الجهة اليسرى للقبر مفتشا عن منفذ للدخول فجائني صوت غريب وهو يقول:
- لم يحن دورك بعد !!.
ومع الصوت الغريب القادم من حيث لا اعلم ، رددت قول السياب في قصيدة ” جيكور امي” :
تلك أمي و إن أجئها كسيحا
لاثماً أزهارها و الماء فيها والترابا
و نافضا بمقلتي أعشاشها و الغابا
تذكرت وانا ابحلق بوجه امي المضئ ابيات لشاعرة من شعراء ثورة العشرين ،الشاعرة (افطيمة) من عشيرة الظوالم واهزوجتها المشهورة حين عاد أخ لها من المعركة فسألته عن ابنها فقال لها (جن لاهزيتي ولوليتي) يعني ان ولدها قد استشهد ، فإجابته وهي تردس بعبائتها (هزيت ولوليت لهذا) .
وغاب مشهد امي تماما عن ناظري ، وبدت امراة تحمل طفلة صغيرة بطور الرضاعة نظرت إلي بحزن بالغ ووجه حزين ، وعرفتها فهي احدى بناتي في اوان طفولتها قبل ما يقارب عقود عدة ،واختفت لفترة قصيرة هي ومن يحملها وعادت من جديد لناظري وظل ابتسامة طمانينة يرتسم على شفتيها الصغيرتين ، ثم هوت علي تحتضنني بقوة وسعادة .
وعند اول تباشير الصباح صحى ابني على صوتي ، وانا اردد شعرا لمن اعشق لشاعري مظفر النواب ، بشكل غنائي ، وجائني مسرعا وهو يسألني حمد الله على سلامتك شنو صار ؟
اجبته لاشيء ، وكما ترى احس بالسعادة .
واردف قائلا كنت غاطا بالنوم لانني لم انم بالخصوص ليلة البارحة لانني كنت اتفقدك طوال الليل ، فقد اخبرني الطبيب المعالج الذي وصف لك الحقنة الخطرة كعلاج ليلة البارحة قائلا : ابوك يمكن ان لا يعيش لصباح اليوم التالي!!. لانك طوال ما يقارب الشهر لم تك واعيا لما يجري حولك.
النهاية :
بتاريخ 05 . 05 . 2021 ، وصلت فيينا العاصمة النمساوية على متن الخطوط الجوية القطرية مرورا بالدوحة العاصمة القطرية ، وانا اكاد الفظ انفاسي لاحتياجي للاوكسجين والرعاية الطبية ، وللبرد القارص وقتها مع هطول المطر ، فنقلت راسا لـ” مستشفى القيصر فرانس يوسف Kaiser Franz Josef Spital ” ، في الحي العاشر من فيينا ، وبدأت رحلة العلاج التي استمرت بثلاث مستشفيات تخصصية ، ولمدة 49 يوما ، ولا زالت حالتي لليوم تحت الرعاية الطبية .حيث كان السبب الرئيس بتفاقم حالتي لحالة الجشع والطمع ببغداد من قبل الاطباء المعالجين وقلة خبرتهم ايضا.
ولان ” لكل اجل كتاب فاذا جاء اجلهم لايستاخرون ساعة ولا يستقدمون” ، وفق قوله تعالى ، فلا زلت اقاوم المرض بما استطيع من قوة ارادة فقط ، مع الرعاية الصحية المستمرة لرئتي اللتين دمرتهما كورونا .
هوامش :
01 / كناية لعشيرة البوحسان من بني حجيم التي انتمي اليها ، وهم البو حسّان : عشيرة كبيرة ، أصلها من الأكرع من شمر، كانت تتوطن الدغارة مع الأكرع ثم تحولت إلى أراضي الرفيّع جنوب الديوانية ، ثم إلى موطنها الحالي في الرميثة، وتنتشر حتى البصرة .
وهناك مواطن لها بافريقيا حيث سكنت بعد الفتح الاسلامي في كل من موريتانيا والصحراء الغربية ولهم لهجة خاصة تشبه لهجة اهل جنوب العراق ، وقريبة جدا من لهجة اهل اليمن
، ويسمونها اللغة الحسانية كما تعرفت عليهم بالمغرب . وكان رئيس الجمهورية السابق محمد ولد عبد العزيز ، وهو خريج الكلية العسكرية ببغداد منهم ، وتعرفت عليه بمطار الدار البيضاء بالمغرب في طريقه ورفاقه انذاك لبغداد للدراسة بالكلية العسكرية على نفقة العراق .
02 / “حجي علي ” ،هو جدي لامي ولانني تربيت ببيته وانا طفل بعد وفاة والدي ، كان معظم اهل السيمر يسمونني ابن حجي علي ، لاعتقادهم انه والدي .
03 / ” مصطفى “، هو خالي اخو امي ، وللان البعض ممن يعيش بالسيمر والى وقت قريب كانوا يسالونني عن ” اخي ” مصطفى الذي توفي الى رحمة الله !! .
04 / ” حجي حسن ششتري “: كان لديه مخبز بالسيمر قبل تسفيرهم لايران ، ولم ينقطع عن زيارتي طوال وجودي بالكويت عند حضوره لزيارة ابنته ، رحمه الله تعالى .
*شروگی من بقايا القرامطة وحفدة ثورة الزنج ، وحامل مكعب الشين الشهير .
فيينا / 29 . 10 . 2021