الرئيسية / مقالات / شذرات فلسفية من تاريخ العراق الحديث والمعاصر

شذرات فلسفية من تاريخ العراق الحديث والمعاصر

السيمر / فيينا / السبت 03. 06 . 2023

د. عبد علي سفيح

لقد أولى الفلاسفة نصيبًا من جهودهم لفحص التاريخ والعناية به، والوقوف على طبيعة المعرفة التاريخية، وعد السرد التاريخي هو تفسير وإعطاء المعنى للحدث التاريخي الذي يعمل على إعادة تشكيله بوساطة السرد اللغوي، ويمكن قرائته من زوايا متعددة، منها التعصب عند ابن خلدون، والجدلية عند “هيجل” Hegel، والتحدي والاستجابة عند “توينبي”  Toynbee، والصراع الطبقي عند “ماركس” Marx، والتفكيك وإعادة البناء عند “دوريدا” Derrida، والحفر عند “فوكو” Foucault، وإعطاء المعنى عند “شوبنهاور” Schopenhauer و”نيتشة” Nietzsche و”هايدغر” Heidegger، و”سارتر” Sartre،وأخيرا “باديو” Badiou، ومن طريق علم الاجتماع “لعلي الوردي”.
ان المرمى من كتابة هذا المقال هو إمكانية التعلم من تاريخ العراق وتزويدنا بامكانية فهم الحاضر بنحو أفضل، عبر إدراك القوى والخيارات والمعطيات السابقة من تاريخ العراق الحديث التي اوصلتنا إلى وضعنا الراهن.
إن ما يميز المجتمع العراقي كونه مجتمعًا متنوعًا وساخن، يتعاقب الأحداث الدموية في غالبها، سواء تعلق الأمر بمرحلة الاستعمار او ما بعده؛ كذلك شهد المجتمع العراقي عبر التاريخ عدة تغيرات ومن أبرزها الناتجة من عوامل التدخل الخارجي، الأمر الذي جعل المجتمع يعيد عملية إنتاجه داخل أجسام متنوعة، منها السياسية والفكرية، بعمل تفكيك للقيم الماضية وتركيبها بطريقة تعطي معنى لوجودها الحديث، وعند البحث عن جذور هذه الفلسفة أي الأبوة الفكرية لها، نجد أن جذورها تمتد إلى آلاف السنين نتيجة الوضع الجغرافي لوادي الرافدين الذي كانت انهاره تفيض بين الحين والآخر، تدمر ما يقف أمامها، فاعتاد سكان وادي الرافدين بتفكيك ما دمرته الفيضانات وإعادة بناءه بطريقة تعطي معنى ملموس لوجودها.
بدأت رحلة التفكيك وإعادة البناء لإعطاء معنى للوجود في العراق على شكل أمواج متتالية بعضها عنيفة وأخرى هادئة؛ ولتفسير هذه الأحداث المتعاقبة من دون إنقطاع حدث عن الآخر، فقط التحليل الاجتماعي sociology داخل حقل الفلسفة ممكن أن يعطينا تفسير أكثر دقة، لأن هذا النهج يبرز لنا الجذور الفكرية للحدث أي الابوة الفكرية، وتعني مسألة الأصول الفكرية والثقافية بعدها أحداث لها جذور تاريخية والتي تعطينا الشرعية في إعادة تنشيط الصراعات الرمزية في سبيل إعطاء معنى ملموس للحدث؛ كذلك حقل الفلسفة هو عالمي لن يحده الزمان والمكان والشخوص.
أما أبرز الأحداث التاريخية التي أساسها فلسفة التفكيك وإعادة البناء من أجل إعطاء المعنى وبسبب العامل الخارجي هي:
1. دخول الإسلام من شبه جزيرة العرب إلى العراق: هذا التصادم استثمره سكان وادي الرافدين في تفكيك القيم القديمة السائدة وهي الديانة المسيحي واللغة السريانية والآرامية، وإعادة بنائها على شكل دين جديد هو الإسلام ولغة جديدة هي العربية، ومنها إعطاء معنى لهذا التفكيك في بناء صنع حضارة إسلامية عربية حديثة، وهم من وضع الى اللغة العربية نحوها وبلاغتها وتنقيطها وحركاتها وسكونها من خلال ميراث الحرف البابلي واللغة السريانية، ثم برزت في هذا المجال مدرستي الكوفة والبصرة، والمذاهب الدينية والفكرية.
2. دخول جيش ابا مسلم الخراساني العراق واسقاط الخلافة الأموية واعلان الخلافة العباسية: هذا التصادم استغله العراقيون في تفكيك القيم الأموية السائدة وإعادة بناءها مما سمح لبغداد أن تكون حاضرة العالم ومنارها كما كانت سابقًا سومر وبابل والكوفة؛ فأصبح التزاوج مع غير العربية شائع، نجد من بين سبعة وثلاثين خليفة عباسي لم يكن بينهم من هو عربي الأم الا ثلاثة هم،  “ابو العباس السفاح”، و”المهدي ابن المنصور”، و”محمد الأمين ابن هارون الرشيد”، وهذا خلاف ما جرى على العرف أيام الأمويين حيث كان لا يستخلفون أبناء الاماء؛ كذلك الجواري، تحول المجتمع العراقي إلى أكبر المجتمعات في التاريخ الذي يملك هذا العدد من الجواري والرقيق من جميع أنحاء العالم، ومن هؤلاء الرقيق أصبحوا سلاطين، ومن اشهرهم “كافور الاخشيدي” في مصر، كذلك زوجات الخلفاء ومن اشهرهن “الخيزران” أم هارون الرشيد.
3. الاحتلال البريطاني للعراق: هذا الاحتلال أدى إلى صدام عنيف على شكل ثورة عارمة بين جيوش الاحتلال مع المجتمع العراقي بمرجعياته الدينية والقبلية كافة وسميت بثورة العشرين. هذه الثورة كبدت الجيش البريطاني خسائر كبيرة مما اضطرت الحكومة البريطانية بعدها لعقد مؤتمر في عام 1921 في القاهرة، وبعد توصيات من شخصيات بريطانية مثل لورنس العرب، والمسس بيل، وقع الإختيار على فيصل بن الشريف حسين وتتويجه ملكًا على العراق. تقبل وجهاء الشعب العراقي الخبر بنحو جيد بسبب نسب فيصل العربي والإسلامي.
بدأ فصل جديد وضروري في تاريخ العراق الحديث، تحول العراق من تجمعات سكانية لكل منه لغته أو لهجته الخاصة به، وله دينه أو مذهبه، وله مرجعيته الدينية والقبلية الخاصة به، مثال على ذلك الكرد في كردستان،  والايزديون في سنجار، والمسيحيون في سهل نينوى وفي بغداد والبصرة، والتركمان في تلعفر وطوزخرماتو وداقو وكركوك، وعرب الجنوب يقيمون على شكل إمارات، ومنهم الأمير محمد الحبيب شيخ مشايخ قبيلة ربيعة، والأمير بلاسم الياسين في الحي؛ تحول العراق من تجمعات سكانية إلى دولة مركزية، فكك العراقيون القيم السابقة فاستبدلوا المضيف بالبرلمان، واستبدلوا الاعراف بالدستور، كذلك فكك العراقيون الشعر العمودي إلى شعر حر ومنهم “بدر شاكر السياب” و”نازك الملائكة”، والفن والرسم الكلاسيكي إلى حديث ومنهم “جواد سليم”، إما المرأة نزعت الحجاب، أول قاضية في الشرق الأوسط “زكية اسماعيل حقي”، واول وزيرة “نزيهة الدليمي”، واول قائدة طائرة “جوزيان حداد”، واول طبيبة “انا ستيان كريم”، وأول مغنية “منيرة الهوزوز”.
بدأت رحلة التفكيك وإعادة التركيب والبناء في بداية القرن العشرين على شكل أمواج متتالية، بعضها هادئة من 1921- 1940، استطاع المجتمع العراقي أن يعيد إنتاجه داخل أجسام متنوعة مثل البرلمان ومجلس الأعيان ورئاسة الوزراء، الا أن هذه الأجسام ضاقت على المجتمع لأنها تكونت من نفس المرجعيات القديمة، فحول المجتمع العراقي انتماءه إلى أجسام أكثر سعة ومساحة ومنها الأجسام السياسية ذات العقائد المختلفة. شهد المجتمع ولادة الحزب الشيوعي العراقي الذي أضعف الانتماء القبلي والديني وعزز الانتماء الوطني الا أن عيب هذا الجسد الجديد أنه لن يستند على الإرث العربي والإسلامي، فولد جسد آخر هو حزب البعث الذي عزز الانتماء القومي واضعف الإرث الاسلامي، كذلك ولد في نفس المدة حزب الدعوة والاحزاب الاسلامية الأخرى التي عززت الإرث الاسلامي الا انها اضعفت الإرث القومي.
4.ثورة 14تموز عام 1958: فكك الشعب العراقي خلال هذه الثورة الانتماء الديني والمذهبي والقبلي واقطاعية العائلة بحركة شعبية واسعة من فئات الشعب العراقي جميعها، وشرعت قانون الاحوال المدنية الذي ساوى الرجل بالمرأة وأنهى الاقطاع.
ثورة 14 تموز ثورة “شباب” لديهم رؤية خاصة للتاريخ يمزجون الخيال بالواقع، رافضة الطبقة السياسية التي تتبنى القيم القديمة مثل ” السن شرط الزعامة”، وهي انتصار اليسار الجديد ضد البنية التي تعيق الحداثة بكل اوجهها.
5. الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003: لم يستغل العراقيون هذا التصادم في عملية التفكيك للقيم السائدة، وإعادة التركيب والبناء للقيم الجديدة، ولحد اليوم لن يجد العراقيون المعنى لحاضرهم، قد يعود حسب تصوري بأن الاحتلال سبب الهدم بدل التفكيك للقيم القديمة، والفوضى الخلاقة التي دعى لها “ميخائيل لدين Mikael Ledeen “بدل التركيب والبناء، وهذا مما حدى بالعراق أن يكون من اكثر بلاد العالم في الفساد.

اترك تعليقاً