السيمر / فيينا / الأثنين 17 . 07 . 2023
معمر حبار / الجزائر
صباح اليوم وأنا أقوم بتشغيل السّيارة، وقفت لأوّل مرّة في حياتي على ملاحظة وكأنّي أراها لأوّل مرّة وأنا الذي أتعامل مع السّيارة منذ سنوات، وبشكل يومي، وعادي.
مفتاح السّيارة الذي تقلع به السّيارة، هو نفسه الذي يستعمل لفتح الصندوق ، وأبوابها.
مفتاح واحد يتحكّم في الحضارة. مايعني أنّ الحضارة تخضع لمنظومة واحدة متكاملة يعضد بعضها بعضا وإن بدت مختلفة في بعض الجزئيات، والتّفاصيل.
الأمّة التي تملك مفتاح الإقلاع الحضاري، وتتحكّم فيه هي نفسها التي تحمي جوانبها من أيّ تغلغل يصيب كيانها، وهي نفسها التي تصون مؤخّرتها من كلّ طعن يجذبها للقاع، وبنفس المفتاح، أي بنفس المنظومة.
الإقلاع الحضاري ظاهرة عالمية يسعى إليه الجميع، ويحافظ عليه، ويتفوّق به على غيره. لكن بذاتية تميّز الحضارات في ماضيها، وجذورها، ورموزها، وأهدافها، ووسائلها، وجزئياتها، وتفاصيلها.
لكلّ سيارة مفتاح، أي لكلّ حضارة مفتاح ومنظومة يناسب الإقلاع، والثّبات، والتّحكم. لكن لكلّ نوع من السّيارة مفتاح يناسبها، ويليق بقوّة الإقلاع المطلوبة، ونوعية السّيارة. والحضارة التي لها مفتاح الإقلاع، والثّبات، والتّحكم هي نفسها تملك مفتاحا خاصّا بها دون غيرها يناسب القوّة المطلوبة، ونوعية السّيارة، وخصائص ذاتية تتميّز بها عن غيرها من الحضارات.
لايمكن استيراد مفتاح السّيارة لتشغيل سيارة أخرى، وبالتّالي لايمكن فتح الصندوق، ولا الأبواب. ولا يمكن استيراد مفتاح حضارة لإقلاع حضارة أخرى، ولا حماية المؤخّرة، ولا الأطراف. فكان لزاما لكلّ حضارة مفتاح خاص بها يناسب ظروفها، وماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، ورموزها، وإمكاناتها، وأهدافها.
تغيير السّيارة يتطلّب تغيير المفتاح المناسب للسّيارة الجديدة. وتغيير الحضارة، وتقويتها، وترسيخها يتطلّب تغيير المفتاح المناسب للحضارة الجديدة. لكن متى يكون التغيير؟ وبأيّ مفتاح؟.
الاحتفاظ بالسّيارة يتطلّب الاحتفاظ بمفتاح السّيارة. وكلّ من احتفظ بحضارته، وتمسّك بها وجب عليه الاحتفظ بمفتاح الحضارة.
يتمّ إصلاح السّيارة أثناء أيّ خلل طارىء، مع الاحتفاظ بمفتاح السّيارة. ويتمّ إصلاح أيّ خلل أصاب الحضارة في مقدّمتها، أو أطرافها، أو مؤخّرتها لكن مع الإبقاء على مفتاح الحضارة.
لايمكن تحريك السّيارة دون مفتاح. مايستوجب إصلاحه فورا، وبما يعيد له ميزاته الأولى، والمناسبة له. والحضارة إذا أصيبت في عنصر من عناصرها، وجب إصلاح المفتاح الخاص بها، وبما يناسبها، وفي أسرع وقت، وبفاعلية.
قد يقول قائل: يمكن تحريك السّيارة دون مفتاح كالجمع بين الخيوط، ويستنتج منها أنّ مفتاح الحضارة لاقيمة له. والإجابة: هذا ترقيع مؤقّت، وخطير، ومهلك، ولا ينصح به. وكلّ عبث بمفتاح الحضارة هو عبث بالحضارة، وماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، ونسف لحضارة عمرها عمر الأرض، وحرق لمجهودات واجتهادات أجيال أفنت ليلها، ونهارها في سبيل الحضارة التي بين يديك.
لايمنح مفتاح السّيارة إلاّ لمن تعلّم قواعد السّياقة، وكان مسؤولا عن تصرفاته، ومدركا لعواقبها. وكذلك يمنح مفتاح الحضارة للعاقل، والمدرك، والمؤهّل، والواعي، والمميّز، والمبدع، والمنتج، والقوي، والعزيز، والذي يعتزّ ويفتخر بما يملك من حضارة فاعلة.
يحتاج مفتاح السّيارة لتأهيل، وتدريب، ووقت، وجهد، وعرق، وتحمّل. ومفتاح الحضارة يحتاج لوقت طويل، وجهد شاق، وعمل دائم، وسهر مستمر، وبذل العزيز من المال، والنفس، والوقت.
يحتاج مفتاح السّيارة لمدرّب صاحب خبرة، وصبر، ومهارة. ويحتاج مفتاح الحضارة لأمّة تتدرّب على أمّة أسبق منها في الحضارة، وأدرى في انتظار أن تطير بجناحيها، وتستقلّ بحضارتها، وتتميّز عن غيرها بما يميّزها، ويرفعها، ويثبّتها، ويحميها.
نتائج استعمال مفتاح السّيارة من حيث الوقت المطلوب، والتمكّن، والاستجابة حسب طبيعة الممرّن، وقدراته، وفاعليته. ونتائج الحضارة حسب الوقت المطلوب، والإمكانات المتاحة، والقائمين عليها، وفاعليتهم، وأهدافهم، وطبيعتهم، وحسن الأداء.
مفتاح السّيارة الذي بين يدي صاحبها لايؤهّل المرء لسياقة السّيارة، مالم يحسن علم السّياقة، وآدابها. والحضارة التي بين يدي أصحابها لايمكنها أن تثبت، وتنتشر، ويستفيد منها أصحابها، والحضارات الأخرى مالم يكن صاحب الحضارة مؤهّلا لحملها، ونشرها، ويحسن دروبها، ومخارجها. وقد انهزمت الحضارة الإسلامية وهي تملك أعظم مكتبة في العالم، بتعبير الأستاذ مالك بن نبي رحمة الله عليه.
الإثنين 29 ذو الحجة 1444 هـ، الموافق لـ 17 جويلية 2023