السيمر / الجمعة 10 . 08 . 2018 — يحيد استهداف مجموعة من قوات «الحشد الشعبي» بغارة على الحدود المشتركة مع سوريا عن سياق الكباش السياسي والأمني الذي تخوضه هذه القوى وحلفاؤها في مواجهة واشنطن ومشاريعها في المنطقة. المعارك في مواجهة «داعش» تحيلنا إلى اختلاف «الأجندات» على نحو واضح لا يفكّه حتى أولوية درء الخطر عن الناس. في بعض المواجهات كانت قوات «الحشد» تقتنص بقوة الأمر الواقع فتح معركة هنا أو فرض المشاركة في أخرى، لأن الأميركي لديه حساباته السياسية قبل العسكرية (في معركة محيط الرمادي والسجارية مثلاً، توجّهت القوات الأمنية وقوة من «الحشد» إلى بيجي وفصائل المقاومة إلى الرمادي، حينها اعترض الأميركي على معركة الرمادي ومارس ضغطاً سياسياً وميدانياً يمنع فصائل المقاومة من بدء المعركة، إلا أنّ الأخيرة حَسمت المعركة بأقل من أسبوع وحاصرت مدينة الرمادي).
بعد القضاء على «داعش» وتحوّل عناصر التنظيم إلى فلول في الجبال والغوار وخلايا في مناطق أخرى، انقلب المشهد نحو «المواجهة المباشرة» بين قوات المقاومة العراقية والأميركيين. أصبحت واشنطن تغذّي فكرة عدم الحاجة لـ«الحشد» وتعمل على حلّه بكافة الطرق الممكنة. في المقابل، أحسن «الحشد» إدارة ظهوره السياسي عبر الانتخابات البرلمانية، ليظهر أن له حاضنة شعبية كبيرة تظهّرت في كتلة نيابية وازنة.
خلال مرحلة تحرير جزء أساسي من الحدود العراقية ــ السورية، أو ما عرف بتحرير البوكمال من الجهة السورية وناحية القائم من الجهة العراقية، كانت واشنطن تتوجّس من سيطرة «الحشد» والمقاومة العراقيين والجيش السوري وحلفائه على الحدود. العملية التي بدأت بالسيطرة على منطقة عكاشات في الجنوب الغربي للعراق عند مثلث الحدود العراقية السورية الأردنية، وفي مقابل قاعدة التنف الأميركية، عملت واشنطن حينها على الضغط على الجيش العراقي لمنع تقديم أي مساعدة في المعركة بحجة أن لا قرار من القائد العام للقوات المسلحة في تحرير هذه المناطق. في المقابل، شكّل إصرار فصائل المقاومة لتحرير هذه المنطقة عملية فتح الأبواب أمام تحرير القائم.
الرسالة للأميركي في عملية الحدود ليست في السيطرة على مدينة القائم بل بالسيطرة على الشريط الحدودي مع سوريا والأردن، وبالتالي عزل قاعدة التنف التي باعتقاد قوى المقاومة هي من تغذّي الإرهابيين. في الأثناء خرج تصريح علني من قوى المقاومة يهدّد الأميركيين في حال تدخّلهم. مضت فترة وجيزة، لتصل رسالة أميركية عبر العُمانيين إلى طهران قبيل استكمال تحرير «البوكمال ــ القائم». كان المطلوب أن تصل الرسالة إلى يد قائد «قوة القدس» اللواء قاسم سليماني. رفض الأخير تسلّمها. بعد فترة عُلم أنّ في الرسالة استفساراً حول «جدية تهديدات المقاومة العراقية بضرب المصالح الأميركية في المنطقة». تعامل «الحرس» مع الرسالة كأنها لم تصل. ثم تواصلت الرسائل المعلنة من قيادات في الجيش و«الحرس» الإيرانيين بسقف عالٍ يتخطى حدود «تهديد المصالح الأميركية في المنطقة». هذه الرسالة وغيرها لم تأتِ من فراغ. حاولت واشنطن بعد تحرير البوكمال والقائم أن تُفرغ هذا الانتصار من مضمونه. عملت أولاً عبر الضغط على الحكومة العراقية لتتسلّم شركة أمنية تابعة للأميركيين «الحفاظ على الأمن» على طول الطريق الواصل بين بغداد والبوكمال. لكن «الحشد» وحلفاءه استطاعوا إفشال الخطة الجديدة الممررة عبر طرق «رسمية». ثم استغنى الأميركيون عن الفكرة مقابل تطويع عراقيين لكن أيضاً أُفشل مسعاهم. كانوا يريدون الطريق بأي ثمن. في النتيجة، الطريق اليوم في عهدة الجيش العراقي و«الحشد».
إذاً، تحرير الحدود العراقية والسورية وفتح الحدود بين البلدين بما يناسب محور المقاومة وإفشال مخططات «كسر» هذا الطريق، أخذت الأميركي نحو مرحلة أخطر من التصعيد: غارة البوكمال في 17 حزيران الماضي.
وعلى رغم أن واشنطن عملت في العلن وعبر إعلامها على التهرّب من مسؤولية الضربة ولصقها بإسرائيل فإن القوى المناوئة لها تتهمها بالمسؤولية بوضوح. (تحرّك السفير الأميركي في بغداد ليروّج أن الضربة إسرائيلية، كذلك سرّبت قناة «الحرة» الأميركية، نقلاً عن «مسؤول حكومي أميركي» بأن الغارة نفذها سلاح الجو الإسرائيلي، وأن «هناك إصراراً إسرائيلياً على قطع الطريق التي يرغب الإيرانيون في فتحها من طهران إلى بيروت»).
بعد الغارة التي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى، انتقلت واشنطن لمحاولة قطف الثمار عملياً. غطّ مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون التحالف الدولي، بريت ماكغورك، في بغداد. كان في جعبته رسالة من بند واحد لرئيس الوزراء حيدر العبادي: يجب عزل أبو مهدي المهندس. لم يفاتح العبادي نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي بالمسألة، لكن المهندس علم بالطلب الأميركي، وأجاب على طريقته ضمن لقاء في بغداد: «نحن الذين حافظنا على الدولة… وأنتم لم تحافظوا على أسئلة الامتحانات لتحافظوا على دولة».
بعد فترة وجيزة، خلال تفقّده لموقع الغارة الأميركية وبعد اجتماع مع القيادات العسكرية والأمنية في «الحشد» والمقاومة في إحدى النقاط الحدودية، جرى الاتفاق على مضاعفة عدد القوات في المنطقة الحدودية، وإضافة نقاط جديدة وتعزيز الانتشار على الطريق بين بغداد والقائم. في هذا الاجتماع قال المهندس: «هنا هي المعركة». أما الأميركي فهو متيّقن من ردّ ما يقترب، كما زاد من عدد قواته في المنطقة الخضراء حيث سفارته، وقلّل التحركات والوجود في الحواجز المشتركة، وأصبح أكثر اعتماداً على التنقل الجوي بدل البري.
موفد «الانسحاب»
الرسالة الأميركية الأخيرة إلى القيادة العسكرية الإيرانية ليست جديدة في ملف التعاطي «الأمني» بين الطرفين. في العام 2010 أوصل مسؤول عراقي كبير رسالة من الأميركيين إلى الجانب الإيراني، يطالبون فيها بإيقاف عمليات المقاومة ضد الجنود الأميركيين. كانت واشنطن في مرحلة بحث الانسحاب من العراق، وكانت تقول لرئيس الوزراء حينها نوري المالكي إن «وقف العمليات مقابل مفاوضات الانسحاب». كان الجواب الإيراني أن هذه المسألة تخص الفصائل العراقية كما في الوقت نفسه كان المالكي يستفيد من هذه العمليات على طاولة المفاوضات في سبيل التسريع في الانسحاب.
المسؤول العراقي نفسه عاد إلى إيران برسالة ذات سقف منخفض، إذ طالبت فيها واشنطن الإيرانيين الضغط لإيقاف الصواريخ فقط من دون العبوات، مؤكدة في رسالتها أنها في نهاية المطاف ستسحب قواتها من العراق.
عملياً، في تلك الفترة كانت قوات الاحتلال الأميركي قد استطاعت «السيطرة على العبوات» والتعامل معها وتجنّبها، لكن المفاجأة أنّ المقاومة العراقية انتقلت بعدها لما تسمّيه «الجيل الرابع» من تطوير عمل العبوات، لتعود بوتيرة مرتفعة وأسلوب مختلف (400 عبوة في أيلول 2011 على سبيل المثال).
رسالة الحبانية
قبل انطلاق معركة السجارية (الرمادي) أرسل الأميركيون وفداً محمولاً جواً إلى قاعدة الحبانية حيث كان يوجد عدد من ضباط قيادة عمليات الأنبار بقيادة قاسم المحمدي. طلبوا من الأخير إيصال رسالة إلى «مسؤول المحور» بأنهم يريدون مقابلته. أوصل المحمدي الرسالة. مرّت دقائق لينتقل «المسؤول» عبر رتل عسكري تحرّك باتجاه المقر. فهم الأميركي الجواب، ليغادر الوفد سريعاً.
الاخبار اللبنانية