السيمر / الاحد 02 . 09 . 2018
د. مصطفى يوسف اللداوي / فلسطين
لا يوجد فترات هدوءٍ لدى الدول الاستعمارية الكبرى، فهي لا تستريح إلا لتنطلق من جديد، ولا تتوقف إلا لتستأنف بقوةٍ مرةً أخرى، وهي لا تضيع أوقاتها، ولا تفقد بوصلتها، ولا تضل طريقها، ولا تخطئ هدفها، وهي تعرف غاياتها، وتحدد بدقةٍ مسارها، ولكنها دوماً تغير في أسلوبها، وتشكل في طرقها، إلا أنها لا تتوقف عن سياستها الاستعمارية، ولا يموت عندها نهم التوسع وغريزة القوة والبقاء، وحب السيطرة وجنوح العظمة، والرغبة في الاحتواء والهيمنة، والسيطرة والتحكم، وإلا فإنها تنتهي وتتلاشى، وتصبح هدفاً للأقوياء، وعرضة لغزوات الكبار، الأمر الذي يجعلها دائماً في حالة ترقبٍ واستنفار، وجاهزة لاستهداف الخصوم ومهاجمة الأعداء، أو المبادرة لتحقيق المكاسب وتسجيل الانتصارات.
الدول الاستعمارية الطامعة في بلادنا وخيراتنا، والخائفة على الكيان الصهيوني والحريصة عليه، لم تعد مضطرةً إلى احتلال بلادنا وغزوها، وتدمير مؤسساتنا وإفشالها، وتحطيم قدراتنا العسكرية، وتخريب أنظمتنا الدفاعية، واستهداف منظوماتنا الهجومية والقتالية، وضرب منصات صواريخنا بعيدة ومتوسطة المدى، أو تدمير طائراتنا المقاتلة على مدارجها في المطارات، أو أثناء تحليقها الاستعراضي في الجو، وتفكيك جيوشنا الوطنية وتسريح جنودنا البواسل، والقضاء على روح الخدمة العسكرية والوطنية في بلادنا لدى أبنائنا وأجيالنا.
إن كل هذه الأهداف الكبيرة وغيرها مشروعة ومطلوبة، وملحة وعاجلة، ولا يمكن تجاهلها أو إهمالها، إلا أن الدول الاستعمارية لم تعد مضطرة لأن تنجز هذه المهام وتحقق كل هذه الأهداف بنفسها، ولم يعد يلزمها تسيير الجيوش وتحريك الأساطيل، والنزول على الأرض وفي الميدان لمواجهة الخصوم، أو اقتحام المواقع واجتياز خطوط النار، إذ فضلاً عن أن وكلاءها ينوبون عنها ويقومون مقامها، فهي لم تعد تستطيع تقديم ضحايا بشرية في سبيل مشاريعها القومية وأحلامها التوسعية.
فقد انتهى وفق نظرياتها زمن الحروب التقليدية المكلفة، والمعارك البرية القاسية، وعمليات المقاومة الموجعة، التي كبدتهم الكثير من الخسائر في الأرواح، وقد كانوا بفعل المقاومة يضطرون لبناء مقابر في أرض المعركة لجنودهم، أو نقل جثامين قتلاهم في توابيت طائرة، ملفوفة بأعلام بلادهم إلى عواصمهم، الأمر الذي كان سبباً في اندلاع الثورات ضدهم، وتحريك الشعوب ضد سياساتهم، وقد نجحت بعضها في إلزام حكومات بلادها بالانسحاب والتراجع، وإنهاء القتال والعودة إلى البلاد.
فهل وجدت الدول الاستعمارية ضالتها في الجيل الجديد من الحروب التي تسمى بالجيل الرابع، التي تدار بالوكالة، وتشغل بالمستخدمين، ويقوم بها العمال والأجراء، والدهماء والغوغاء، والعصابات المسلحة والمجموعات المنظمة، والقوى المحلية والشركات الأجنبية المستأجرة، ويسعر أوارها ويزيد من لهيبها الجهلة والسفهاء، والمجرمون والقتلة، وتحرك نارها العصبيات الدينية والقوى المذهبية، والطائفية السياسية والاثنية القومية، وغيرهم من القوى التي ضلت طريقها، وأخطأت مسارها، وسلمت للعدو قيادها، وقبلت أن يكون خطامها بيده، وأمرها منه، وقرارها الصادر عنه.
نجحت الدول الاستعمارية في زعزعة الاستقرار في بلادنا، وبث الخوف في أوطاننا، وتخويف أبنائنا وإرهاب شعوبنا، ومزقت مجتمعاتنا، وزرعت بيننا جماعاتٍ ليست منا، ولا تنتسب إلينا، بثت فينا الفرقة، وصنعت بيننا الفتنة، وأحدثت في صفوفنا مقتلةً عظيمة، لم يكونوا في حاجةٍ أبداً لأن يكونوا هم على الأرض، ويلعبوا بأنفسهم هذه الأدوار التخريبية، بل أوكلوها إلى بعضٍ من شعبنا، ممن قبلوا أن يلعبوا أدواراً قذرة، وأن يتموا ما بدأه الاستعمار قديماً، وما خطط له حديثاً.
إلا أن الوكلاء المارقين قد أجادوا الدور وأحسنوا المهمة، وقاموا بأكثر مما كان يحلم به الاستعمار ويتمنى، ومضوا بغباءٍ مقيتٍ وساديةٍ ملعونةٍ في تخريب البلاد وتقويض الأوطان، وهم يظنون أنهم بعد إتمام مهمتهم سينصبون عليها قادةً وحكاماً، وسيتوجون فيها ملوكاً ومراءً، وما علموا أن الاستعمار سيلفظهم، وسيتركهم ويتخلى عنهم، وأنه كما استخدمهم لتنفيذ أغراضه، فإنه سيستخدم غيرهم ليقضي عليهم ويتخلص منهم.
تريد الدول الاستعمارية بالقوى المحلية المتحاربة، إنهاك بلادنا، وتبديد ثرواتنا، وتشتيت جهودنا، وتشريد أبنائنا، وتآكل هياكلها وسقوط قيمها ومفاهيمها، وقد أصبح بإمكانها من خلال سياسات الحصار العام والعقوبات الاقتصادية المؤلمة، تدمير الاقتصاد، وانهيار العملة الوطنية، وتراجع القدرات الإنتاجية، والتسبب في حدوث انكماشٍ اقتصادي، وحالة من الركود والبطالة، تجعل المجتمع خرباً، والاقتصاد هشاً، والحياة العامة معطلة، وبات هدفها خلق دولٍ فاشلة، تعجز عن حماية أنفسها، ولا تقوى على تهديد غيرها، بل تطلب العون والنصرة من أعدائها، لظنها أن عدوها بات صديقاً لهم، لا يهدد أنظمتهم، ولا يزعزع الاستقرار في بلادهم، ولا يطمع في ثروات أوطانهم.
هذه النظريات الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدتها الدول الاستعمارية وفي المقدمة منها الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية وإلى جانبها ربيبتها بريطانيا، تكشف بوضوحٍ عن كثيرٍ من الألغاز والغموض التي رافقت واكتنفت السنوات السبع العجاف الماضية، التي أطلق عليها اسم “الربيع العربي”، فقد آتت ثورات الربيع العربي للغرب الثمار المرجوة والأُكل المطلوبة، التي كانوا يحلمون بها ويتمنونها، فقد فككوا دولنا العربية، وعمقوا الخلافات البينية بينها، وأسسوا لسياسات الحصار والعزل، والإقصاء والطرد، ودمروا أكبر الجيوش الوطنية العربية، وشغلوها عن القضايا الأساس التي تقوم عليها عقيدتها القتالية، وما زالوا يخططون لتدمير ما بقي أو سَلِمَ من الجيوش العربية، وتسببوا في حدوث أوسع موجات هجرةٍ عربيةٍ، عمادها الشباب والطاقات العلمية والفكرية، وزهرة أبناء الأمة العربية، الذين يشكلون عماد الجيوش وقلب أنظمتها الدفاعية.
لن يمضي وقت طويل قبل أن نكتشف أننا كنا جميعاً ضحايا لعبة دولية كبرى، وأننا كنا دمىً صغيرة وأدواتٍ رخيصة في أيدي اللاعبين الكبار، الذين عبثوا بنا وقامروا بأمننا، وتاجروا بدمائنا واستولوا على خيرات بلادنا، واستخدمونا في الجيل الرابع من الحروب كما باعوا لنا من قبل الجيل الرابع من الاتصالات التجسسية، فساقونا جميعاً إلى فوضى مدمرة، وحروبٍ عبثية، وأشعلوا في أوطاننا ثوراتٍ وهميةٍ، عصفت باستقرارنا، وأفسدت حياتنا، وحرفتنا عن مسارنا، وزينت لنا عدونا، وشوهت في عيوننا أصدقاءنا، لكننا لم نتعلم الدرس، ولم نأخذ العبرة، ولم نعِ من المحنة، ولم نوقف المجزرة، ولم ننه المهزلة، وما زالنا كالمواشي والأنعام، نساق كل صباحٍ إلى ذات المسلخ، ونذبح فيه كل يومٍ على يد ذات الجزار وبسكينه من جديد.
بيروت في 2/9/2018