السيمر / فيينا / الاثنين 01 . 04 . 2019
صالح الطائي
قبل التغيير في 2003، كان الحصار الجائر قد حلق رؤوس أهلنا، وكانت مدننا مقبرة فارغة من كل شيء ينفع الإنسان، لا شيء فيها يفتح النفس، تكللها غمامة سوداء بفعل انتشار صور الرئيس؛ التي لم تترك ساحة ولا شارعا ولا زقاقا ولا حائطا، دون أن تلوثه بطلتها القبيحة القميئة، وفي منحنيات المدن، كانت مقرات الفرق الحزبية تزرع في قلوبهم رعبا وخوفا، والكثير من الأسئلة الحائرة، التي تتلخص كلها بسؤال مركزي واحد: متى نتخلص من هذه الصور القبيحة وهذه المقرات الحقيرة وأهلها. هذه الصور والمقرات التي سرقت رفاهنا وسعادة عيشنا، ومثل خيرات بلدنا المسروقة المغيبة، كان شبابنا المغيب، قد تم خطفهم من بيننا وسلب أرواحهم، ودفنهم في مقابر جماعية، طرزت وجه الوطن الحبيب، مقابر كلها بدون علامات دلالة، سوى آهة وجع، يُسمع صداها من بعيد، وعطر زكي لا يشمه سوى الأنقياء، وهي كلها تشكو جور الزمان وظلم الطغاة. وكنا نعيش حلما يراود خيالنا يعده بأمل مشرق وبغد سعيد، ننام على أمل أن نصحو صباحا فنجد الحال قد تغير، ونحن قبل غيرنا نعرف أن الأحلام لا تغير الأحوال، وأن التغيير يحتاج إلى ثورة، ثورة لم نكن نعرف كيف نخطط لها، ولا نملك العدة التي ننفذها بها. وحينما شعرنا أن هناك غبش صبح يبدو قريبا منا، قد يطل علينا من دياجي القهر، نامت عيوننا حذرة مترقبة، لنصحو مرعوبين على أصوات مجنزرات دبابات العدو الأمريكي الغاشم وهي تدنس مدننا، والخيبة تملأ نفوسنا، وكأننا أردنا أن نغسل غائط طفل لوث أرض بلدنا، بنهر من المياه الثقيلة المحملة بالقاذورات، فنشرنا القذر والرائحة الكريهة في كل مكان! ولسوء حظنا العاثر، تجدنا حتى بعد مرور أكثر من عقد ونصف من الزمان، لا زلنا مخدرين بفعل تلك الرائحة العفنة النتنة، التي أزكمت أنوفنا، ولا زالت خيباتنا المريرة تتكرر، وفشلنا التاريخي في اختيار من يمثلنا مستمرا بلا انقطاع. والأنكى من ذلك كله أننا نشعر وبيقين تام أن هناك من ضحك علينا فعلا خلال هذه المدة، واستغفلنا حقيقة، مرة باسم الوطنية، ومرة باسم الدين، ومرة باسم المذهب، ومرة باسم الأرومة والقومية، ومرة باسم المعتقد والحزب. والمصيبة الأكبر أننا بتنا على يقين أن الذين خدعونا بالأمس، قادرون على خداعنا اليوم وغدا وبعد غد، بل طالما هم موجودون بين ظهرانينا، وكأننا أدمنا المخادعة، ولا نستطيع العيش بدونها، ونحتاج لمن يخدعنا باستمرار، لكي نشعر بوطنيتنا المهلهلة، الآيلة للسقوط، تدغدغ وجودنا الزائد عن حده!. وكان كل الذي حصلنا عليه من التغيير، أننا اتخذنا يوم السادس عشر من أيار ذكرى سنوية لإحياء يوم المقابر الجماعية، وقد اختير هذا اليوم ليكون يوم شهداء المقابر الجماعية على خلفية عثور أهالي المغدورين على أول وأكبر مقبرة جماعية في المحاويل جنوبي بغداد عام 2003 بعد سقوط النظام العفلقي المقبور. كل هذه المقابر الجماعية على كثرة عددها لم تنجح في رسم صورة حقيقية لنا، ونحن لا زلنا ننتظر من يكمل رسم الصورة، هذه الصورة التي ستكتمل حينما يكتشف أولادنا وأحفادنا الكم الكبير للمقابر الجماعية الجديدة الموجودة في عراقنا المبتلى، تلك المقابر التي خلفها النظام الجديد، ولم لا؟ فتاريخ عراقنا مبني أصلا على سجل حافل للمقابر الجماعية، ولجرائم الرفاق في كل زمان!.