السيمر / فيينا / الاثنين 23 . 03 . 2020 — يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جون بولتون، إن “ديمقراطية” الاتحاد الأوروبي هي عندما تجبر الفلاحين على التصويت عدة مرات حتى يصوتوا بصورة “سليمة”. لكن هذا المبدأ لم ينجح سوى في زمن الازدهار والنمو، وقبل أن تدفع الأزمة بعد إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتطرف السياسي. اليوم، أصبحت الكتلة الحرجة من مواطني الدول الأوروبية، ممن تزعجهم عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي، كبيرة وأكثر راديكالية بكثير، وسوف تؤدي أي محاولات من النخب السياسية تجاهل إرادة الناخبين إلى أزمة سياسية داخلية طاحنة، كما رأينا في مثال البريكست.
وأجازف بالقول إن التهديد الأساسي لوجود الاتحاد الأوروبي يأتي من أولئك الذين أسسوه في البداية. فليست اليونان، أو أوروبا الشرقية من يهددون بقاء الاتحاد، وإنما أكثر الدول نجاحا واستقرارا، مثل مجموعة البنلوكس (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ) وألمانيا، والتي يمكن أن توقف نشاط أي من أو كل المؤسسات الأوروبية، أو أن تخرج منها في ظل ظروف معينة، إذا ما قضت المصلحة القومية لهذه البلدان بذلك.
فما هي هذه الظروف والنقاط الحرجة؟
إن حرية الحركة، وسوق العمل المشتركة، فيما أظن، هي المنحة الأكبر والأهم التي يمنحها الاتحاد الأوروبي لمواطنيه العاديين، وخاصة في الدول الأعضاء الأقل تطورا في الاتحاد الأوروبي. وفي عصر النمو الاقتصادي، كان تيار اليد العاملة الشابة المتدفقة من الأطراف الفقيرة لأوروبا نحو أوروبا الأساسية، التي تخطو نحو الشيخوخة، مفيدا للجميع. لكن تلك الميزة تحولت إلى عيب مع اندلاع الأزمة الأولى. وسبب تدفق اللاجئين السوريين هزة عنيفة لأساس أيديولوجية الاتحاد الأوروبي، وجاء إلى السلطة أو تسبب في نشوء تيارات يمينية، كثيرا ما تعارض عضوية الاتحاد الأوروبي. ثم بدأت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وضع الجدران (الافتراضية والواقعية) على الحدود بين بعضها البعض. وقامت إحدى الدول الأعضاء، بريطانيا، بالخروج من الاتحاد بسبب هذه الأزمة بشكل كبير.
وأنا لا أتحدث هنا عن إغلاق الحدود منعا لتفشي وباء فيروس كوفيد-19، فهذا أمر مؤقت سوف يزول مع مرور الوقت. لكنني أتحدث عن الانكماش الاقتصادي، الذي اعترف بحتميته الغرب، والذي سيؤدي إلى خفض كبير في أعداد الوظائف بجميع أنحاء أوروبا، سواء في الدول الغنية أو الفقيرة من الاتحاد على حد سواء. يعدون بأن تكون التداعيات الاقتصادية للحجر الصحي كارثية. وكما يبدو الوضع حتى الآن، أن تلك الصدمة يمكن أن تكون القشة الأخيرة التي تقصم ظهر العولمة الاقتصادية الهشة، المبنية على 250 تريليون من الدين العالمي، ولن تكون هناك فرصة لسداده. أي أنه بنهاية وباء فيروس كوفيد-19، لن تنتهي الأزمة الاقتصادية، بل ستنتعش وتعيش حياة خاصة بها.
وفي سياق النمو المضطرد لمعدلات البطالة، لا يمكن ألا تؤدي الموجات المتعاقبة من المهاجرين إلى مزيد من التحول في المزاج الألماني والنمساوي، وغيرهما من دول الاتحاد الأوروبي الغنية، نحو السياسات اليمينية. لقد توقف الاتحاد الأوروبي عن منح تأشيرات العمل إلى مواطني مولدافيا وأوكرانيا، قبل اندلاع أزمة وباء فيروس كوفيد-19، وبعد ظهور أزمة المهاجرين السوريين، ليدفن الاتحاد بذلك خططه للتمدد نحو الشرق. الآن سوف يكون الخيار أمام الحكومات في الدول “المؤسسة” للاتحاد الأوروبي بين فقدان السلطة في الانتخابات القادمة وإغلاق أسواق العمل حتى أمام الجيران في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي سيصبح الحد من الهجرة داخل الاتحاد الأوروبي أمرا لا مفر منه.
السؤال المطروح الآن: لم تخرج ألمانيا، ولا تخرج اليونان مثلا؟
في الاتحاد الأوروبي تمتلك البلدان الفقيرة غالبية الأصوات داخل الاتحاد. لذلك فإن القرارات التي يتم اتخاذها كثيرا ما لا تناسب الدول التي تمثل “النواة” الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، ويصبح الحل الوحيد أمام ألمانيا وغيرها هو مغادرة الاتحاد الأوروبي.
لعلنا نذكر في السنوات الأخيرة كيف اضطر ممثلو ألمانيا في البنك المركزي الأوروبي تباعا لتقديم استقالتهم اعتراضا على قرار البنك المركزي الأوروبي بتحفيز الاقتصاد من خلال إصدار أموال غير مغطاة. يبدو ذلك بالطبع منطقيا، حيث حافظت ألمانيا، حتى آخر عام 2019، على فائض في الميزانية، ونما اقتصادها بشكل أو بآخر، ولم يكن الألمان مستعدين لتدمير العملة الموحدة من أجل تحفيز الاقتصاد لصالح الدول الفقيرة في الاتحاد. أما في ظروف أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تبدأ أمام أعيننا، لم تعد القضية قضية اختيار بين كسور النسبة المئوية من الأنصبة، وإنما أصبح الاختيار ما بين قطبي نموذجين متعاكسين. فالنماذج الاقتصادية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي متناقضة، وتتطلب “علاجات” مختلفة. وليست القضية حتى في صعوبة التقسيم بين برامج الدعم بين الدول الأعضاء، على الرغم من أن ذلك أيضا هو تحد ضخم (حيث تحتاج إيطاليا، على سبيل المثال، إلى بضعة أضعاف ما تحتاجه ألمانيا من موارد لإنقاذها اقتصاديا، حتى مع أن حجم الاقتصاد الألماني يفوق نظيره الإيطالي)، وإنما القضية في اختلاف النماذج الاقتصادية بين الدول الأعضاء.
كيف كانت الآلية الوظيفية للأداء الاقتصادي للاتحاد الأوروبي؟
كانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تحصل من عضويتها في الاتحاد على منافع مختلفة، فكانت ألمانيا، و”الشمال الصناعي” تحصل على أسواق أوسع لتوزيع بضائعها في الجنوب والشرق، وتدمر في طريقها الصناعات في الدول الضعيفة من أعضاء الاتحاد، بينما تحصل من الأخيرة على تدفق الأيادي العاملة الشابة. في المقابل تحصل الدول الضعيفة على قروض ضخمة، ما سمح لها لبعض الوقت من رفع مستوى معيشة مواطنيها بشكل مؤقت، وخلق وهم بالنمو بسبب الانضمام للاتحاد الأوروبي. لكن تلك القروض، بطبيعة الحال وكما يحدث دائما، تنتهي، ونحن نذكر جيدا أزمات الديون لمجموعة PIIGS التي تضم البرتغال وإيطاليا وإيرلندا واليونان وإسبانيا أعوام 2010-2012، حينما أثبت النموذج الاقتصادي للاتحاد الأوروبي عدم قدرته على الاستمرار للمرة الأولى. أذكّر القارئ بأنه قد تم فرض سياسات تقشفية على اليونان حينها، وانخفض الناتج الإجمالي المحلي للبلاد، ما أدى إلى هروب الأيدي العاملة، وتخفيف البطالة في اليونان بحثا عن الوظائف في ألمانيا، لكن ذلك لن يصبح متاحا في المستقبل.
كان حل أزمة مجموعة PIIGS هو ضخ قروض جديدة وتأجيل انهيار النموذج الاقتصادي للاتحاد الأوروبي حينها، لكن ذلك أدى إلى تعقيد إمكانية الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة. والآن سوف تتخذ سلطات الاتحاد الأوروبي القرارات المفيدة للأغلبية الفقيرة من الدول الأعضاء على المدى القصير، لكنها سوف تكون قاتلة بالنسبة لليورو، وبالتالي لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد.
ولكن، إذا لم يكن هناك بد من هذه الإجراءات بالنسبة للدول الفقيرة من دول الاتحاد، فلا زالت دول الاقتصادات القوية في الاتحاد الأوروبي قادرة على تجنب الانتحار الاقتصادي- أولا وقبل أي شيء، لما تحمله الأيام القادمة من طباعة لأموال جديدة دون غطاء، وضخ لقروض جديدة لكل من اليونان وإيطاليا وغيرها. وثانيا، لحماية الصناعة المحلية حتى من الجيران في الاتحاد الأوروبي. وفي ظروف انخفاض الطلب، يصبح دعم الصناعة القومية أولوية قصوى، وأحد القضايا الرئيسية في الانتخابات، وفي العلاقة الثنائية بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. إن الحرب التجارية التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها ليست مبالغة من جانب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وإنما هي إملاءات الظرف الراهن، وهو ما ينتظر الاتحاد الأوروبي أيضا في المرحلة القادمة.
وبناء على ما تقدم، فإن الأزمة الاقتصادية سوف تدمر النموذج الاقتصادي نفسه، الذي بني عليه الاتحاد الأوروبي. فقد تسببت القرارات الشعبوية للأغلبية الفقيرة من دول الاتحاد في زعزعة استقرار الأنظمة المالية للدول التي تشكل “النواة” الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، إلى جانب ما تعانيه هذه الدول الغنية من حساسية زائدة في السياسة الداخلية، جراء تدفق العاطلين إلى سوق العمل بها. من جانبها تفقد الدول الفقيرة في الاتحاد إمكانية تصدير العاطلين عن العمل، وتحصد بذلك أزمة سياسية داخلية هي الأخرى، وتطالب بدعم وتضحيات من الدول الغنية لهذا السبب.
إن الأساس الأيديولوجي للاتحاد الأوروبي يقوم على الازدهار الاقتصادي، بعيدا عن شعارات الحرية والديمقراطية وغيرها، إنه الازدهار الاقتصادي وحده. يريد الجميع أن يعيشوا كما يعيش الألمان، وذلك مقابل الحرية والسيادة وكل شيء. وبفقدان الازدهار الاقتصادي، ينتهي المشروع الطوباوي المسمى بالاتحاد الأوروبي، والذي قام على التمدد الاقتصادي لألمانيا، مع تعويض مؤقت لخسائر الدول الفقيرة في الاتحاد. سوف يستغرق الانهيار وقتا بالطبع، لكن هذا النموذج يحتضر، وأتوقع أنه في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة التي تعصف بالعالم الآن، سوف تصدر شهادة الوفاة لهذا الاتحاد رسميا.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب