عبد الله الساورة
«ما تعلّمته من السينما لم تمنحه لي الروايات»، هكذا يردّد المفكر الإيطالي إمبرتو إيكو». و«ساعدني إخراج الأفلام الوثائقية في تكوين شخصيتي الإنسانية والسينمائية»، هكذا يردّد المخرج الياباني هيروكازو كوريدا. فما الذي يجمع بين الرجلين؟
للمرّة الثانية، يشارك المخرج الياباني هيروكازو كوريدا في مهرجان كان السينمائي بنسخته الثامنة والستين، من خلال فيلم «أختنا الصغرى» 128 دقيقة/ 2015/اليابان . وسبق للمخرج أن فاز سنة 2013 في المهرجان نفسه بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه «ذاك الإبن من ذاك الأب». ويعتبر المخرج من روّاد السينما العالمية المعاصرة ورائداً من روّاد السينما المستقلة في اليابان.
يتناول فيلم «أختنا الصغرى» حكاية ثلاث أخوات: «ساشي» 29 سنة/هاروكا أياسي ، «يوشينو» 22 سنة/ماسامي ناغاساوا ، و«تشيكا» 19 سنة/ كاهو ، عن حضورهن جنازة الوالد الذي توفي بعد فراق دام 15 سنة، ويقرّرن إقناع أختهن الصغرى «سوزا أسانو» 14 سنة/سوزو هيروسي اليتيمة، بالالتحاق بهنّ في مدينة كاماكورا الصغيرة والجميلة.
في مشهد أولي تتعدّد زوايا التقاط التصوير حيث تنتظر الأخوات القطار للسفر إلى مدينة كاماكورا، ويتبادلن حواراً قصيراً مع الصغيرة، وهن يصعدن العربة الأخيرة. كن يرغبن أن تفكر باللحاق بهن ما دامت لهن القدرة على رعاياتها وباستطاعتهن الاستقرار في منزل العائلة الكبير.
في هذا المشهد، تأخذ الكاميرا أربع وضعيات لتبرز العلاقة التي تجمع بين الأخوات بأختهن الصغرى. كاميرا خلف الأخت الصغرى تصوّر الأخوات الثلاث وهن يصعدن إلى القطار. وكاميرا في العربة تُبرز ملامح الأخت الصغرى أثناء الحديث القصير بينهن. وكاميرا من نافذة القطار تتابع جري الصغيرة ولهفتها وهي تلتحق بالقطار. وكاميرا تتابع رحيل القطار وخلفه الأخت الصغرى. هذا المشهد برمّته، وببراعة تصويره بلقطات قريبة ومتوسطة، يُبرز علاقة القرب التي تجمع بين الأخوات، والمسافة القريبة بينهن على رغم الرحيل والسفر والبُعد.
يصرّ المخرج على مفاتيحه السينمائية التي يتحكّم عبرها بشكل كبير بقصة عائلية بنيت انطلاقاً من الأوقات الميتة. فالمخرج يقيم أهمية قصوى للعلاقات العائلية، خصوصاً الأطفال المُتخلّى عنهم من طرف الآباء، وهو الموضوع المفضل لديه كما في أفلامه «لا أحد يعرف» و«يوم مع العائلة». في فيلم «أختنا الصغرى» أمر أساسيّ، ويتمثل في السكوت والتغاضي عن المشاكل مهما كانت حدّتها. وهذا أمر يصفه اليابانيون بأنه «لا يمكن الحديث عنه».
يركّز الفيلم على الحياة اليومية لكل الأخوات والتعايش بينهن في جزئه الكبير، على رغم بعض التعقيدات التي يتم تجاوزها بنوع من التناغم والاتحاد بينهن.
في إحدى لحظات الفيلم، نتذكر الفيلم الأرجنتيني «افتحوا الأبواب والنوافذ» للمخرج ميلاغروس مومنتيلر. فالأخت الكبرى ساشي تعيش قصة حب جارفة مع رجل متزوج، ويمكن تأطير هذه العلاقة في الحوار الذي يجمعها مع والدتها التي تصرّ أن الحمل من هذا الرجل المتزوج والإنجاب منه سيحرمها من الزواج ويقلل من احترامها من لدن الآخرين. فعلى رغم هذا التناغم الدائم بين أفراد الأسرة والأخوات، إلا أنّ قاعدته الصمت. فمن يستطيع تحطيم جدار الصمت؟ في أحيان كثيرة، يوازَن من أجل السير قدماً في هذه العلاقة الأخوية.
لا محورَ للفيلم، ولا صراعَ في الحكي، بقدر ما للمخرج من مقدرة فائقة على السرد بنظرة شاعرية. لذا، يسعى إلى الحفاظ على سينما المشاعر ضدّ سينما الصدّ والصدمات التي ورثها عن مخرجه المفضل. يتفنن المخرج في فتنة الحكي الصغير والمحتشم، فالعائلة، الكوميديا، التقاليد كل هذه الأنواع السينمائية اليابانية تتواجد في هذا الفيلم. هذا المخرج الذي لا يملك فقط حساسية ولا وذوقاً سيئاً، إنما أمراً آخر: إنه شاعر بقوالب سينمائية وإبداعية خلاقة. وله مقدرة فائقة في السرد بنظرة شاعرية كبيرة.
ثيمة مركزية في غالبية الأفلام اليابانية تجد مكاناً لها في سينما هيروكازو كوريدا: رصد جمالية الطبيعة، حيث يحضر البحر ورماله وأمواجه وشطآنه كمتنفس للأخوات، كذلك الأزهار الوردية وكذا السماء التي تتحول ظلمة ليلها إلى سماء برونق الشهب الحمراء احتفاء بفرح الأخوات. يحضر المكان بشدة بين الانتقال بين المنزل والمطعم والمدرسة ومحطة القطار، وكلّها أمكنة تشكل هندسة لمدينة كاماكورا الصغيرة والجميلة.
يعتبر المخرج هيروكازو كوريدا من مواليد 6 حزيران 1961 في طوكيو ، من أهم المخرجين في السينما العالمية المعاصرة ببصمته ورؤيته الإخراجيتين. تناقش أفلامه العائلة، الموت، والذاكرة. كانت رغبته الكبيرة أن يصبح روائياً وأسعفته الأيام والرغبة أن يصبح قاصّاً ومخرجاً بعد إخراجه سلسلة طويلة من الأفلام الروائية «ساعدني إخراج الأفلام الوثائقية كشخص وسينمائي». اشتغل لمدة في التلفزيون ونهل من تقنياته لينتقل إلى إخراج الأفلام الروائية الطويلة بدءاً بفيلم «مابوروسي» 1995 ، و«مسافة» 2001 ، و«لا أحد يعرف « 2004 الذي يتحدث عن براءة الطفولة وضياعها. وفيلم «هانا» 2006 ، يحكي هذا الفيلم عن انتقام الساموراي خلال القرن الثامن عشر، ولكن الفيلم الذي منحه شهرة ومكانة عالميتين، والذي اعتبر من أفضل أفلامه السينمائية بحسب النقاد، فهو «بعد الحياة» 2008 . في السنة نفسها أخرج فيلم «أمشي»، ثم فيلم « دمية الهواء» 2009 ، بنبرة أخرى وتجربة حياتية عن منح الحياة لدمية وعلاقة غرامية تجمعها مع شاب ورغبتها الأكيدة أن تنتقل من دمية إلى إنسانة، بعدها فيلم «أتمنى» أو «المعجزة» 2011 ، وفيلم «كيسيكي» 2011 الذي يحكي عن قصة أخوين يفرّق بينهما طلاق والديهما. لكن سنة 2013 كانت سنة التتويج بالنسبة إلى المخرج بفيلمه الشهير «ذاك الإبن من ذاك الأب» الذي حاز على جائزة التحكيم في مهرجان «كان» السينمائي وشارك به في عدد من المهرجانات الدولية. يمكن إبداء ملاحظة أساسية عن تشابه الثيمات بين فيلم «أختنا الصغرى» وفيلم «كيسيكي»، فكلاهما يتناولان موضوع العائلة والطلاق والعلاقة بين الاخوة والأخوات والتشنجات والتعقيدات العائلية. في أفلام هذا المخرج الياباني نكتشف من خلال شخصياته بانوراما السينما الحالية وذاك الوعد الإنساني الذي يلهِم أبطاله، يعلق المخرج «قبل أن أبلغ الأربعين من العمر أخرجت عدداً من الأفلام الوثائقية، الآن فقط، أنظر حولي وقربي ترسو أفلامي في مناطق صغيرة جداً، فقط حيث يمكنني أن أضع قدمي».
في فيلم «أختنا الصغرى» الذي كتبه المخرج أكيمي يوشيدا، تنتقل الكاميرا ببطء. ففي أحد المشاهد الجميلة، نوم الأخوات الأربع وسط المنزل ذا التقاليد اليابانية، تنتقل الكاميرا على ارتفاع بسيط من أجسادهن وتسير وتنزل ببطء على فتح عيون الأخت الكبرى وهي تهمّ بالاستيقاظ. في هذا الفيلم نكتشف البحث عن طفولة الأخوات من خلال طفولة الأخت الصغرى.
على المستوى التقني، زوايا التقاط التصوير تختلف بحسب حاجة المشاهد النفسية، فالكاميرا تنسلّ ببطء بين جلسة وضحكات الأخوات المتعالية ويركز المخرج على نظرتهن وإيماءتهن من دون أن يركّز على أعينهن.
يمثّل المخرج مدرسة قائمة بذاتها في الإخراج السينمائي بين التحكم في إدارة الممثل بشكل جيد، وزوايا التصوير الدقيقة وانفلات الكاميرا التي تشهد على ما يقع من أحداث. أمر آخر أبدعت الممثلات في رسم شخصياتهن الفيلمية على رغم أن الأخت الصغرى تجسّد للمرّة الاولى دوراً سينمائياً في حياتها الفنية. ما يجمع بين إمبرتو إيكو والمخرج الياباني هيروكازو كوريدا عشقهما للسينما والكتابة على رغم بعد المسافات.
كاتب وناقد سينمائي من المغرب