هاتف بشبوش
تأخذه خفايا كوابيسه الى الشيخ و دكتور الرياضيات واكاذيبه وأختياره للشبيبة حين يجتمع بهم ويسمعهُ يردد عليهم ( بسم الله الرحمن الرحيم ..انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدىً ) . ثم يتكلم عن التضحية والجهاد وهو يقول لهم انّ الأمة التي لاتجاهد اعداء الله تعيش ضعيفة ذليلة ، بينما هو متزوج لكنه يسمح لنفسه أن يخون زوجته مع الفتاة ذات الشعر الأحمر والتي تصغره سنا .
يرى بطل الرواية في حلمه الكثير في المكان الذي يكتشفه وسماه “مطبخ الموت ، من تصنيع متفجرات الى خطب تحرض على القتل ومنها : ( يا إخوتي في الإيمان ، ليكن في معلومكم انّ الأمة التي تحسن صياغة الموت وتعرف كيف تموت الميتة الشريفة يهب لها الله عز وجل الحياةالعزيزة في الدنيا والنعيم الخالد في الجنة) ، مقدمة الخطبة هذه تذكرني في فيلم الرسالة وكيف دخل الحمزة عم النبي على معشر من الفقراء المؤمنين برسالة النبي وهم محتجزون من قبل قريش والكفار في قبو مظلم ويقول لهم ( يا إخوة الأيمان إخرجو ….) ، هكذا كان الإسلام في بداية مشواره وقد بني على الضعفاء والفقراء من عامة الناس من أمثال عمار بن ياسر ، وابا ذر الغفاري وبلال الحبشي .
بين الكوابيس والحقائق الواقعية تعمل حالة ( الفلاش باك) لدى بطل الرواية فيتذكر عام 1988 في 6 آذار و كيف صدام حسين قتل آلاف الأطفال الكرد والنساء والشيوخ وهو ينثر عليهم الموت بغاز السيانيد والخردل , فتكون الجريمة البشعة وسط صمت القوى الكبرى وعلى رأسها مؤسسة الإرهاب العالمي اميركا . ولذلك ينطلق بطل الرواية من فكرة كيف لأمريكا أن تبني لنا ديمقراطية مسلفنة قادمة لنا على ظهر دبابة ، وكيف لنا أن نصدقها وهي تؤيد قتل آلاف العراقيين من قبل صدام وتغض الطرف بذلك .
الأسلوب الذي إتبعه الروائي البديع يوسف له نكهته الخاصة ، فهو هنا يتخذ من الخيال لصنع فكرته الأساسية على غرار أفلام الخيال العلمي لجورج أوريل و دان براون في روائعه الخيالية والبوليسية ( شفرة دافنشي ، ملائكة وشياطين ) , تلك الأفلام التي تتكلم عن المستقبل وماسيحصل أو عن الماضي السحيق وذلك بطريقة السفر عبر الخيال العلمي الى عوالم الماضي وماوصلت اليه البشرية أنذاك ، أو على غرار المخرج الإيطالي الشهير (فيدركو فلليني) حين يقول : (تصورتُ أحفادنا في العام 4000 يعثرون على قبو مطمور يحتوي على فيلم من أفلام القرن العشرين مفقود من زمن طويل تحت عنوان ( ساتيركون فلليني) ، ثم يعرب أحد علماء الآثارأسفهُ ويقول أنّ الفيلم بلا بداية ولا وسط ولانهاية ، هذا أمر غريب ، اي رجل هذا فيدريكو فلليني ، ربما كان مجنونا . إذن روايتنا البديعة هذه ( كوابيس هلسنكي) هي مثل قصص علمية متخيلة ، بدلا أن نسلط الضوء على الماضي فقط والسفر له عبرالزمن بطريقة أو بأخرى، نسلط الضوء على المستقبل أيضا الذي ينتظر فنلندة من جراء الأعمال الإرهابية للمتطرفين المتأسلمين والذي يتخيله الروائي الجميل يوسف ابو الفوز في روايته المتميزة هذه ، والتي كتبها قبل ظهور داعش والحركات الإسلامية المتطرفة وهذه تحتسب له كروائي وصاحب نبوءة يشار له بالبنان ، فجاءت الرواية كجرس انذار مبكر ضد نشاطات الجماعات المتأسلمة في اوربا والتي مهدت لظهور عصابات داعش .
ومن خلال تسليط الضوء على الماضي يستطرد الروائي يوسف في الحديث عن المقابر الجماعية في العراق ، مثلما للفنلنديين ايضا لهم مقابرجماعية ، البيض والحمر في فنلندة تذابحوا طويلا مخلفين ورائهم خيوطا من الدم ، ثم يقول له صديقه الكاتب :
( في تاريخ الشعب الفنلندي ثمة محطات كثيرة قاسية مر بها لاحقا شعبنا العراقي وهذا يجعلهم يفهموننا بسرعة، عانوا الإحتلالات ، ذاقوا الحرب الأهلية ، وتشرد اطفالهم وعرفوا معنى كلمة اللجوء والأغتراب وعرفوا معنى العنف الأهوج ).
بين دوامة السرد عن العنف ينطلق فصل عنف وتسامح ، وكيف لأبنة بطل الرواية حيث تسأل ابيها عن تأريخ العنف وماهي أسبابه في كافة الأديان ، فيخبرها بمايعرفه عن إحراق 50 الف من النساء في أوربا وحدها عن طريق محاكم التفتيش الكهنوتية ، وكيف احرقت القديسة (جان دارك )، وكيف اجبر الفيلسوف الفيزيائي (غاليلو غاليلي) بالتراجع عن نظريته بدوران الأرض حول نفسها . ثم يحدثها عن مذابح الأسلاميين و الحجاج بن يوسف الثقفي وماحصل في كربلاء . وما حل بالقرامطة والزنوج .الآّ أنه بين هذه وتلك نجد الكثير من صفحات التسامح الديني وتقبّل الآخر . واليوم نحن نشهد الديمقراطية الأوربية التي إستغلها المتأسلمون في سبيل تمرير إرهابهم المشكوك بأمره ، ومن خلال هذا تتصاعد تتصاعد الاصوات العنصرية في وسائل الأعلام وتقول: ( يجب الحذر من التعدد الثقافي ، فهو يؤدي الى تعدد المجرمين ، عندها تجد نفسك تتساءل بألم 🙁 الأ يساعد هذا على ظهور آلاف النماذج مثل الشيطان دكتور الرياضيات وجماعته ) ، (هؤلاء القتلة هم الذين شجعوا رسام كاريكتير مغمور ان يكون مشهورا بعد ان رسم عمامة النبي محمد على شكل قنبلة يشتعل فتيلها وزينها بشعارات اسلامية).
كل هذه تجعل من بطل الرواية في كوابيسه المستمرة حيث يقول 🙁 صرت أتخيل عبوات ناسفة تنفجر في وضح النهار في كل مكان من هلسنكي ، عند الكنائس والأسواق ومحطات المترو والمراقص والمقاهي ).
فصول السرد البوليســـي ………..
تبدا الرواية منحىَ آخراً في السرد ، وهي مرحلة السرد البوليسي على غرار روايات أجاثا كريستي والمستر ( بوارو) المحقق الفطحل الذي لاتخفى عنه خافية . فهنا وفي هذه الفصول من الرواية لم يعد يحتمل بطل الرواية السكوت عن الإجرام ومايخطط له الإرهابيون ، فيذهب الى مركز الشرطة ليبلغهم عن مسالة في غاية الخطورة تتعلق بامن فنلندة ، لكنهم بدلا من أن يستمعوا اليه يوجهون التهمة له بكونه واحدا منهم وقد اختلف معهم وجاء هنا للايقاع بهم ، فتلومه زوجته على مساعدة الآخرين التي لاتجلب له غير فقدان راحة البال والطمأنينة. المفتش بواروا يشير اليه بالأتهام ، وكثير من المحققين ومنهم الملقلب نابليون بونابرت ذو العقلية الأوربية البيروقراطية ، عدا محقق كان متفهما معه يشبه الممثل العالمي روبرت دي نيرو، إذ أنه يمثل صوت العقل الأوربي المنفتح ، في هكذا تحقيقات إجرامية فيها من الألغاز العصية على الفهم سريعا .
الجنرال النابليوني يقول له : ( كيف تستطيع أقناعي بأنك توصلت الى كل هذه المعلومات عن طريق الأحلام والكوابيس ) . ولذلك بطل الرواية يجد نفسه في ورطة لكونه غريب الأطوار وهذا مانصحه به أخوه الأكبر بأن لايقدم على شئ قبل أن يفكر بعواقبه ، لكنه حسب إعتقاده أنّ الأختلاف عن الآخرين هو شئ غير سئ ، المرء لايريد ان يكون مع القطيع مثلما كان صدام حسين يعمل بالناس ، ولذلك كان الرفض وإختلاف الرأي هو الذي جعل أخيه يترك العراق ثم لحقه هو الآخر مثلما آلاف العراقيون غادروا البلاد لأختلاف آرائهم عن آراء الطغاة ، هكذا كان يفكر بطل الرواية ، وحتى اليوم ماتزال الهجرة العراقية والسورية نراها على شاشات التلفزيون العالمية وماحصل لهم من إهمال من قبل الصحافة ، حيث شاهد العالم بأجمعه كيف كانت الصحافية الهنغارية تركل أحد اللاجئين وهو حاملا طفله . إضافة الى ذلك إستغلالهم من قبل مافيات التهريب في رومانيا وتركيا وتركهم يموتون غرقا ، مثلما شاهدنا طفل الشواطئ الذي مات غرقا في السواحل التركية قبل أشهرٍ معدودات .
الروائي يوسف أراد أن يعطي لبطل الرواية صفة الثورية الصادقة والتي لاتخاف حتى لو وجهتْ التهمة اليه أثناء التحقيق وهو في غمرة صراعه مع الشر ، فكان يعمل وفق مقولة محرر الهند ( المهاتما غاندي) والذي يقول 🙁 يستطيع الأعداء أن يوجهوا لي مائة تهمة ، ولكنهم لايستطيعون أن يثبتوا عليّ واحدة) ، كما وأنّ الروائي جورج أوريل أفادنا بحكمته ( قول الصدق في زمن الخديعة عمل ثوري).
الروائي يريد ان يوصل لنا رساله مفادها من خلال هذا المحقق النابليوني الذي ذكّره بنابليون بونابرت وقولته حول الأديان ( الإسلام كالمسيحية تفسدهما السياسة ويلعب القائمون عليها بالنار إذا تخطوا حدود أماكن العبادة لأنهم يتركون مملكة الله ويدخلون مملكة الشيطان) .
هذه الحوارية الممتعة بين المحقق والمتهم تعطي جواً إستثنائيا خالصا لأفلام الجنايات والبوليسية الرصينة ، حيث أبدع فيها يوسف ابو الفوز ، مثلما تلك الحوارية المذهلة في الفيلم الأمريكي البوليسي الممتع ( خطر) للعملاقين ( آل باشينو) و( روبرت دي نيرو) الذي تحدثنا عنه أعلاه في هذه الرواية , الحوارية في فيلم (خطر) تستمر في مشهدها أكثر من ربع ساعة وهي كثيرة جدا بالنسبة لفلم فترته أقصاها ساعة ونصف ، حيث يجلس الأثنان كل منهما على كرسي في مقهى لأحتساء القهوة ، ثم يبدأ المحقق بحديثه مع المتهم ولكن الحديث في غاية الأدب لمايحمله المحقق من إحترام لهذا المتهم الذي يتسم في غاية الذكاء لما لديه من سجل حافل بسرقات البنوك دون أن يتم القبض عليه ، لم أجد مشهدا مشوقاً يثير الأحترام بين محقق ومتهم على الأطلاق مثلما رأيته في هذا الفيلم ، لما يحمله المتهم من النبل والحرفية في عمله دون الخيانة وخذلان الصديق الشريك ، المتهم يوجه رسالة الى المحقق بأنه لايمكن أن يدخل السجن في اي حال من الأحوال , اي لايمكنه التسليم ، فيقول المحقق للمتهم ، وإذا تمت مطاردتي لك ماهو الخيار ؟ وبالفعل في النهاية تتم المواجهة بين ألأثنين اللذين لايمكن لأحدهم الأنتصار على الآخر الاّ بضربة حظ ، فكان الحظ مع القانون ، وهذه هي النهاية الحتمية لإنتصار الخير على الشر في أغلب الروايات البوليسية .
يتحدث الروائي يوسف من خلال مايراه في احلامه ، ثم يتصور كيف يكون التحقيق معه من قبل الجنرال النابليوني ، فيقول للجنرال في أحد جلسات التحقيق انّ الارهاب سببه انتم حيث انكم :
(رحتم تمنحون المساعدات والمنح والأجازات لفتح مدارس دينية وجوامع وجمعيات اسلامية بحيث صار عددها لايحصى ، الأترون انها ستكون اماكن للتقوقع بشكل يهدد عملية الأندماج ، وسيكون منها حواضن لظهور جماهات دينية ناقمة على سياساتكم المتعثرة في تحقيق الأندماج الحقيقي).
ثم يتطرق بطل الرواية في حديثه اثناءالتحقيق: ( ماهي الضمانات في المستقبل ان لاتكون هناك تنظيمات ارهابية دينية من المسيحيين بل من الممكن انه سيكون بينهم حتى يهود ) ، وهذا التصريح لبطل الرواية يتطابق مع ماقاله المستشرق الآيرلندي (فريد هاليدي) إذ يقول ( أنّ جميع الأديان فيها نصوص تدعوا الى العنف وإلغاء الآخر) . ثم يستطرد بطل الرواية عن عنف الأطفال على غرار ماحصل في أمريكا وكندا ومن الممكن أن يحصل في فنلندا ، حيث يقوم أحد الطلبة برمي أصدقاؤه بالبندقية رميا عشوائيا فيقتل منهم مايقتل ثم يرمي نفسه هو الآخر فيخر صريعا منتحرا هازءاً بالحياة ومن فيها .
في النهاية يعطينا الروائي حبكة بوليسية مثل التي نراها في الكثير من هكذا نوع من الأفلام التحقيقية والبوليسية التي تنتهي بصحة اقوال البطل الذي يمثل جانب الخير ، وسط فرحة المحقق النابليوني الشديد الذي لايجامل ولايداهن لكنه يريد الوصول الى الحقيقة بالقانون ولاغير، ولذلك يتلو بطل الرواية في النهاية علينا وهو في المستشفى: ( كانت مفاجأة من الجنرال النابليوني اذ زارني ومعه روبرت دي نيرو وبصحبتهما صديقي الطبيب .. الذي جائني بهدية ) ، وحال خروجهما كرر على مسمع الجنرال النابليوني ( لاتنس أنهم بيننا) ، فكانت هذه آخر ثلاث كلمات في الرواية الشيقة والتي تعطينا إنطباع أنّ بطل الرواية من النوع المثابر والذي لايلين ولايكل في البحث عن الحقائق في سبيل نصرة الحق وإنشاد الحرية ، حتى لو كلّفه الأمر نفسه وراحة باله التي هي اعظم شئ في الوجود الإنساني .
نستنتج من الرواية العديد من الرسائل ومنها ( يمكنك الذهاب الى مدى بعيد بإبتسامة ، ويمكنك الذهاب أبعد بكثير بإبتسامة ومسدس …رجل العصابات الأمريكي آل كاوبوني) … لكن هؤلاء السفاحين والأرهابيين ذهبوا أبعد بكثير وكثير بجهامةٍ وديناميت .
كما وأن أهم رسالة أراد أن يعطيها لنا الروائي البديع يوسف من خلال بطل الرواية الذي لاقى الأمرّين من رجال الشرطة وأخيه وزوجته وصديقه الكاتب في القاء اللائمة عليه في أغلب تصرفاته ، والتي كان يسير عليها كنهج وطني خالص ، ونابعة من جراء حرصه على التغيير وبناء الذات الإنسانية على أكمل وجه وفضح الإرهابيين وخططهم الجهنمية في المستقبل ، هذه الرسالة التي أراد إيصالها الروائي يوسف ، نراها مجسدة في ماقاله الفيلسوف في قواعد العشق الأربعين ( شمس الدين التبريزي) مفادها : ( ليس من المتأخر مطلقاً أن تسأل نفسك ، هل أنا مستعد لتغيير الحياة التي أحياها ، هل أنا مستعد لتغيير نفسي من الداخل ).
أخيرا أستطيع القول أنّ الخيال الذي جاء به الروائي البديع يوسف ابو الفوز في أغلب الأحيان له ظل من الواقع ، كما وأنّ (المنتج الإنساني الإبداعي الذي تنتجه المخيلة هو المهيمن في النهاية… الناقد السعودي الليبرالي ….سعد البازعي ) ، ولذلك فأنّ الطبيعة بدون ذلك المنتج ليست سوى كيان أصم لامعنى له .
مقال ذو صلة :
يوسف أبو الفوز وكوابيس هلسنكي(1)