محمود شريح
عباس شبلاق في «هجرة أو تهجير: ظروف وملابسات هجرة يهود العراق» الصادر عن «مؤسّسة الدراسات الفلسطينية»، يسبر غور الأوضاع التي أحاطت بتهجير يهود العراق إلى «إسرائيل» بعد قيام الدولة العبرية، وما لابسها من أدوار أدّتها أساساً الحركة الصهيونية، وساندتها قوى أجنبية ومحلية متنفّذة، ساهمت في تعزيز الدولة العبرية وفي ولادة «مسألة يهودية» في الشرق.
هي دراسة لحالة يهود العراق وهجرتهم الجماعية إلى «إسرائيل» في الفترة 1950 1951، ينهض بها زميل باحث في جامعة «أوكسفورد»، معنيّ بدراسات الشتاث والهجرة القسرية للاجئين وعديمي الجنسية داخل بلادهم وخارجها، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط.
يبدأ شبلاق حيث توجب البداية. وجد نفسه خلال عمله في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت في مطلع السبعينات من القرن الماضي ضمن حلقة ضيقة تضمّ باحثين وناشطين سياسيين مهتمين بدراسة العلاقة بين الحركة الصهيونية ويهود الشرق. ويشكّل هؤلاء نصف السكان في «إسرائيل»، وجاء معظمهم من دول عربية. وكانت غالبية جيل النكبة من الفلسطينيين ممّن عايشوهم في فلسطين تسميهم «اليهود العرب». وأخذ مركز الأبحاث الفلسطيني ينشر بعض المقالات عن أحوالهم ونضالاتهم المطالِبة بالمساواة وعدم التمييز، ويتابع ما كان يصدر عنهم من بيانات ونشاطات احتجاج تقوم بها منظمات، مثل «الفهود السود»، إضافة إلى ما كانت تنشره منظمات وأحزاب يسارية، أبرزها «الحزب الشيوعي الإسرائيلي ـ راكح» الذي كان قد انضمّ إليه عدد من اليهود العراقيين الشيوعيين.
وأبدى بعض القياديين في منظمة التحرير اهتماماً بالموضوع آنذاك، وصدر قرار عن جامعة الدول العربية عام 1974، بطلب من المنظمة، يدعو مَن يرغب من اليهود العرب العودة إلى بلده العربي الأصلي.
وبعد انتقاله للعيش في لندن، جمعته أوضاع الدراسة والعمل بعدد من اليهود العرب. وفي معظم تلك اللقاءات كان يطرح على كل منهم أسئلة تتعلق بظروف هجرتهم وأوضاعهم وتطلعاتهم. وأتاحت له المصادر المتوفرة في المكتبات الجامعية في لندن، وفي مركز الوثائق البريطاني، إضافة إلى موجودات مركز الوثائق الوطني في بغداد، فرصة نادرة لإنجاز هذه الدراسة على رغم انشغاله بالعمل الصحافي في تلك الأثناء.
صدر هذا الكتاب بالإنكليزية عن «دار الساقي» في لندن، في طبعته الأولى عام 1985، وفي طبعة ثانية منقحة قليلاً عام 2005. وأبدت الأوساط الأكاديمية والإعلامية في الغرب اهتماماً به، وذلك لندرة ما كُتب عن الموضوع. كما قرّرن جامعات أميركية عدة، معنية بالدراسات الشرق الأوسطية اعتباره أحد المراجع المتعلقة بهذه الدراسات، خصوصاً ما له صلة بوضع الأقليات، والصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وتاريخ الحركة الصهيونية ودراسات ما بعد الكولونيالية. واعتُبر الكتاب عملاً ريادياً، أو طلائعياً في موضوعه.
يرى الباحث شبلاق أنّ السبب الأول في ذلك يعود إلى عدم ظهور كتب تتناول أوضاع يهود العراق بعد هجرتهم، خصوصاً رواية خروجهم نفسها وما رافقها من ملابسات. وربما كان ذلك بتأثير الفاجعة التي نزلت بهذه الطائفة المتجذرة بعد اقتلاعها من وطنها العراق وترحيلها الجماعي إلى «إسرائيل». وكان ثمة كتب باللغة العبرية ألّفها مبعوثون صهيونيون أوفدتهم الحركة الصهيونية إلى العراق، قد نُشرت في «إسرائيل». وقام مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد، وبالتعاون أحياناً مع مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير في بيروت، بترجمات محدودة التوزيع لهذه الكتب عكست طريقة تفكير المؤسسة الصهيونية الأشكنازية في فلسطين في تلك الفترة في التعامل مع يهود الشرق. ووضع هؤلاء المبعوثون، وهم أساساً أوروبيون، تقارير عملانية عن مهماتهم في العراق من وجهة نظر استشراقية، ومن منظور العلاقة ذاتها بين السلطات الاستعمارية وسكان المستعمرات، ومن دون فهم مجتمعات الشرق وثقافة الطوائف اليهودية فيها. وفي الواقع، لم يكن هناك دوافع كامنة، أو «مسألة يهودية»، لحمل اليهود العرب الأصليين على الهجرة.
وثمة سبب ثانٍ للاهتمام الذي حظي به هذا الكتاب، وهو أنه الكتاب الأول المستند إلى الوثائق العراقية والبريطانية التي أُفرج عنها والمتعلقة بهجرة هذه الطائفة على النحو الذي تمت فيه، إذ كانت هجرة من دون رغبتها، ومن وراء ظهرها، وساهم في تنفيذها أكثر من طرف محلي ودولي، وبتخطيط مُسبق من الحركة الصهيونية.
يعود بنا شبلاق إلى سرد رواية الهجرة منذ بدايتها: لم يكن يهود الشرق في الأساس جزءاً من المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين. إن دراسة حالة يهود العراق، وهجرتهم الجماعية إلى «إسرائيل» في الفترة 1950 1951، ربما تكون النموذج الأفضل لتحليل العلاقة بين الحركة الصهيونية ويهود الشرق وفهمها، والعرب منهم خصوصاً. ولعل أهم تلك الاعتبارات قِدَم يهود العراق، وتجذرهم فيه، وحفاظهم على هويتهم الثقافية عقوداً طويلة في إطار مجتمع متنوع الديانات والأعراق، في تجربة غنية وفريدة. فلم يحدث في العراق هجرة لليهود الأوروبيين الذين وفدوا إلى المنطقة العربية في فترة المد الكولونيالي الأوروبي، كما جرى ليهود كل من المغرب العربي ومصر، على سبيل المثال، إذ كان يهود العراق مندمجين، إلى حدّ بعيد، في تقاليدهم الاجتماعية ولغتهم، في المجتمع العراقي، ويرون أنفسهم، كما ينظر إليهم مجتمعهم، مواطنين عراقيين، ولم يعتبروا أنفسهم، على امتداد تاريخهم، أقلية قومية، إنما طائفة دينية. أمّا علاقتهم بفلسطين فبقيت محصورة في الإطار الديني وزيارة المقامات والمراكز الدينية اليهودية فيها. ولم تؤدّ عوامل الطرد، أو الإقصاء الاجتماعي الكامنة، أي دور في دفعهم إلى الهجرة، كما حدث في دول أخرى. إلّا إن مكانتهم الاقتصادية وقربهم من مركز السلطة إبان العهد الملكي الموالي للبريطانيين، جلبا لهم في بعض الأحيان قدراً من سخط عناصر قومية متطرّفة وغيرتها.
وعندما أعاد البريطانيون احتلال العراق في صيف 1941، وقعت أعمال عنف وقتل ونهب في بغداد، سُمّيت «الفرهود»، واستمرت لثلاثة أيام، وأصابت اليهود كغيرهم في غياب الدولة بعد إسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني التحريرية.
ومع ذلك، كانت الأحداث في فلسطين يتردّد صداها في الدول العربية، إذ تضامن الشعب العراقي، بأطيافه كافة، مع الفلسطينيين، مستنكراً المذابح ضدّهم في أواخر العشرينات وخلال الثورة الكبرى في الفترة 1936 1939، وشُكّلت هيئات ولجان للتضامن والدعم شارك فيها بعض اليهود. لكن فلسطين ظلت بالنسبة إلى اليهود العراقيين بعيدة وغير جذابة.
يرى شبلاق أنّ ذلك تزامن مع سعي الحركة الصهيونية إلى تجديد نشاطها في العراق مع عودة البريطانيين إليه خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، فأوفدت مبعوثين عملوا في البلد كجزء من القوة اليهودية التي دخلته مع البريطانيين لإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني، وكذلك في إطار العمل مع شركة «سوليل بونيه» اليهودية للإنشاءات، ومقرّها فلسطين، والتي نفذت، برعاية البريطانيين، عدداً من المشاريع في الدول العربية، ضمنها العراق. وقام هؤلاء المبعوثون، وهم من الأوروبيين الموفدين من فلسطين إلى العراق، بتخزين الأسلحة والسعي إلى تدريب عدد من الشبان اليهود العراقيين بحجة الدفاع عن يهود العراق، وباستغلال أحداث «الفرهود» التي تم تجاوزها، إلّا أنهم فوجئوا بعدم استجابة يهود العراق لدعواتهم، كما عكست ذلك تقاريرهم التي قدموها إلى قياداتهم في فلسطين. وبقيت فلسطين، ولاحقاً «الكيان العبري»، لا تشكّلان ليهود العراق مكاناً جاذباً، أيديولوجياً واقتصادياً.
وبعد الأحداث الكبرى التي شهدها العراق إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها، اتجه المثقفون اليهود إلى الخروج عن الموقف التقليدي الداعي إلى العزوف عن العمل السياسي. فقد كان موقف زعامة الطائفة، المتمثلة في رجال الدين وفئة رجال الأعمال، يرتكز إلى الحفاظ على علاقات قوية بالنخبة السياسية الحاكمة الموالية للبريطانيين. وجاء هذا الخروج بسبب شعور هؤلاء المثقفين بأنهم جزء من الشعب العراقي، وبضرورة الاندماج في الحراك السياسي المطالب بالتحرّر والإصلاح الديمقراطي والعدالة الاجتماعية. وهكذا التحق عدد من الشبان اليهود بالحزب الشيوعي المحظور من السلطات، وبعصبة مكافحة الصهيونية المنبثقة منه، كما شارك آخرون في الحزب الوطني الديمقراطي ممثلّاً في جماعة الأهالي. وكان هذا التيار أقرب إلى تطلعات هؤلاء المثقفين من التيار القومي العربي الممثّل أساساً في حزب الاستقلال كحال سائر الأقليات. وجذبت عصبة مكافحة الصهيونية عدداً كبيراً من الشبان اليهود إلى صفوفها، خلال عمرها القصير قبل أن تحلها السلطات، وعملت على تنبيه الجمهور إلى الطابع الاستعماري للحركة الصهيونية، وفنّدت دعايتها مؤكّدة أن الديانة اليهودية لا تشكل أساساً مجموعة قومية.
هنا، يرى المؤلف أنّ الحركة الصهيونية تبنّت المنظور الاستعماري الأوروبي وأساليبه بالكامل، وذلك عبر اقتلاع يهود الشرق بصورة قسرية، ونفي موروثهم الثقافي وروايتهم وتاريخهم الحافل الممتد قروناً طويلة في المجتمعات العربية والإسلامية وتشويهها. وإذا كانت الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية المساندة لها ترى أنها نجحت في حل المسألة اليهودية المستعصية في أوروبا، كما تدعي، وهو أمر يكتنفه الشك، فإنها زرعت بلا ريب مسألة يهودية في الشرق، لا عن طريق إقامة وطن لليهود على حساب الشعب الفلسطيني فحسب، إنّما أيضاً، وهو الأهم، بسبب الطبيعة التوسعية العدوانية لهذا الكيان.
كان لقيام الكيان الصهيوني تأثير كبير، بلا شك، في وضع اليهود في العراق. واتضح أن التداعيات الناجمة عن هذا التطور ربما الأخطر والأكثر مأسوية بالنسبة إلى يهود العراق مقارنة بغيرهم من الطوائف اليهودية الأُخرى في الدول العربية. إذ بدأ جهاز الاستخبارات «الإسرائيلي» يوفد مبعوثيه إلى العراق لبثّ القلاقل وتهيئة الأجواء لحمل اليهود على الهجرة إلى الكيان العبري.
يستفيد شبلاق من الوثائق البريطانية ويرى أن بريطانيا سعت في خريف 1949، حفاظاً على نفوذها المتراجع في المنطقة العربية، إلى إقامة حلف غربيّ يضمّها هي والولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» وعدداً من الدول العربية، بينها العراق والأردن، في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي الغربي. ورأت بريطانيا ضرورة التوصل إلى تسوية سياسية لإنهاء الصراع في فلسطين من أجل إمكان نجاح الحلف المقترح. وتقدّمت في هذا الإطار بمشروع لتبادل السكان بين يهود العراق واللاجئين الفلسطينيين ولتوطين الآلاف من هؤلاء اللاجئين في العراق، على أن يتم ذلك بصورة اتفاق رسمي توقّعه الحكومتان العراقية و«الإسرائيلية».
مؤلَّف عبّاس شبلاق هذا عن هجرة يهود العراق إلى الدولة العبرية عقب إنشائها، يعزّز فهمنا تاريخ يهود العراق المعقّد والمضطرب، وريادته.