الرئيسية / ثقافة وادب / زيد الشهيد ، وميلودراما ، فراسخ لآهاتٍ تنتظر(3)

زيد الشهيد ، وميلودراما ، فراسخ لآهاتٍ تنتظر(3)

السبت 21 . 11 . 2015

هاتف بشبوش

لذلك ومن غمرة اليأس يبدأ مبدر في التفكير بالخروج مرة اخرى من عراق الجحيم الذي لم يطيقه خلال هذه الأشهر القليلة التي قضاها فيه بعد عودته من ليبيا فيردد مع النفس الهالكة :
(انبجس احتمال أن تعود إلى ليبيا أو تسلك درباً آخر يوصلك لبلد تكون فيه بعيداً عن الجحيم فتنسى العراق وتتخلى عن نجاة . وكان هذا احتمال الجبن الذي لم تحتمل تخيله فطردته من رأسكَ بطريقة الرفس). فيخرج مبدر برفقة صديقه كمال الى بغداد ثم توديعه المبكي له في الحافلة التي تقلّه الى عمان ، ولنرَ ماذا يقول لنا الروائي بخصوص ذلك :
(فالمغادرون ليس كالأعوام الخوالي ينطلقون قصد السياحة والارتياح ، إنما لأغراض دفينة في طوايا النفوس لا قدرة للبوح بها ، كلٌّ ينشد هدفاً وللجميع مآرب).
في الحافلة يتعرف على طالب تونسي يدرس في العراق جلس بالقرب منه والذي يبدو رجع غير راضٍ عن العراق الذي تكلم عنه عمه قبل سنين مضت ، فقرر الرجوع الى أهله وترك عراق صدام حسين .يصل المفرق الحدودي المرعب آنذاك فيقول :
( كانت العيون الذئبية تحتشد ، تطلق شررا يتابع المشاهدين إبتداءا من إنزال الحقائب وحملها الى قاعة التفتيش ، حتى اعادتها الى الحافلة مجدداً ، لأنّ الخارجين يحسبونهم أعداء يحملون اسرارا يجب أن لا تخرج ).
عيون ذئبية تطلق الشرر ولكن ليس كما في أفلام الماتريكس ، والخيال العلمي ، حيث نجد العيون الليزرية كيف تقتل حالماً يقع الشعاع والشرر على الجسد المراد قتله ، انها بمثابة الفرضة والشعيرة التي تعيّن الهدف ثم قنصه قبل قتله ، لكنّ هؤلاء جلاوزة البعث كانوا يتفنون في إثارة الرعب بين الناس ، بحيث يظل المرء مرعوباً على طول الخط ومقتولاً آلاف المرات . وفي عمّان منتصف الغربة القاتلة يبدأ المرء عادة يتذكَّر من يحبه من الأصدقاء والأهل والأم الحنون فنرى مبدر منتشياً تحت رذاذ الماء ويردد :
(تحت رذاذ الماء البارد المنهمر على يافوخي الساخن استرجع كلمات العم شهاب وحواري معه ، لن تجدها . نجاة تشظت وضاعت ، لا يا عم لن تضيع سأجدها).
دش الماء هو أفضل الأماكن للرجل إذا ما أراد إراحة النفس وإزاحة الهم الجاثم في صدره ، ثم البكاء خلسةً وغسل الدمع كي تبلعهُ البالوعات ويخرج دون مرأى الناس له فيكون قويا صلبا ذا إرادة لا تلين. يتذكر وهو في غمرة اللواعج العم عباس وقتله وهو ذو السحنة الخمسينية ، ذلك العم الحالم بغذ أفضل للبشرية ثم يردد مع النفس الهليكة :
(بوشكين ولوركا قضيا من أجل الحب والأرض ومعهما عمك عباس وطوابير لاتعد من المفكرين والمثقفين حاملي مشاعل الورد).
وبين كل هذا الإرهاص القاتل يتمنطق مبدر بمقولة همنغواي ( قد يتحطم المرء لكنه لا يهزم ).
في عمان يشرد الى حديث الأم عنه فهو لا يشبه أبيه في تعاليم الدين والتقوى والورع انه لا يعيش على جلباب أبيه فتقول:
(وانت كبرت ولم اجد فيك الرغبة لذلك ، أخذتك ّالاشعاعات وسيطرت عليك هذه الكتب المكدسة التي يقينا لا تحوي تعاليم الدين وفحوى التقوى ) . فماذا يفعل مبدر مع قدره وحظه في هذه الحياة التي جعلت منه مثقفا وذو عقل نيرٍ بينما الدين والملالي يتبعهم البسطاء والأغبياء من عامة الناس ويرفضهم أولو الألباب . هذه الحياة تحتاج الى التمرد كي تفلت بجلدك من غضب الطغاة أو تصرخ فيهم صرختك المدوية التي تجعل منهم كلاباً مذعورة على الدوام(إذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد سيفقد إنسانيته شيئا فشيئاً .. جيفارا) .
في عمان يتذكر شعراً لنجاة وكأنها حورية البحر :
(مثل لآلئ تفيض بالنور / أريد لقلبي أن يتفصد/ مثل افق رائق اسعى لأحلامي ان تفيق /قل لي ايها القابع في بون الفنارات / متى تأتي سفني الراحلة ؟).
أحلام الفتيات التي ضاعت بين كل ذلك الدمار جرّاء الحروب والبوليسيات التي عمت أرجاء الوطن السليب ، فتظل تنتظر مثل حورية البحر في الدنمارك التي فارقت حبيبها وهو يبحر بشراعه ولم يعد ، فظلت تنتظره وعيناها باتجاه بوصلة رحيله. ومن يستطيع زيارة كوبنهاكن يراها هناك بتمثالها الجميل( امرأة بذيلٍ سمكي) على أحد المراسي الدنماركية ، هي اليوم مزار لملايين الناس من كافة ارجاء العالم تخليدا لذكرى ذلك الحب الخالد للكاتب الدنماركي الشهير ( يوهانس كريستيان أندرسن) والذي ترجمت أعماله الى كافة لغات العالم.
ثم تبدأ رحلة البحث عن نجاة في عمان :يبحث في عمان عنها :
(أبحثُ في الطوايا عن أنفاسها ….. يا جبل الحسين يا احياء عمان وحواريها ، هل لي من يدلني على جوهرتي الضائعة .. انها هنا وليست في متاهة أخرى.، من هذه الدنيا المتاهة) . تتماثل لي هذه الثيمة بأغنية فيروز ( يا جبل اللي بعيد ، خلفك حبايبنا ، بتموج مثل العيد ، وهمّك مزاعلنا , يا جبل اللي بعيد …. خلفك حبايبنا) ، ولذلك وأنا أكتب هذا السطر شرعتُ الى الآيفون واستمعت جيدا الى فيروز في هذه الأغنية كي أصدق ما أقرأ وأكتب فكنتُ في غاية الراحة والزهو النفسي الذي انتشلني ولو لدقائق معدودة .
وفي غمرة البحث عن نجاة يرى أهوال ما يصيب العوائل العراقية المحطمة بنسائها ورجالها في عمان ( تحطمنا الأيام حتى كأننا/ زجاج لكن لا يعاد له سبك).
ولذلك يهرب المرء الى الخمرة لكي يخفف ما في الصدر من ألم جاثم , حيث يصف الروائي جلسة سكر بين مجموعة من العرب الأصدقاء الذين جمعهم القدر , صورة رائعة يصفها الروائي القدير في وصف الأمة العربية وعدائها لأبنائها في هذه الجلسة ،حيث يبدأ الحديث المشوق والسمر بين الشاربين وكل يغني على ليلاه , ذلك التونسي (العارف) الذي قال ( الى الجحيم ايها المولودون من رحم العمالة ولتحيا تونس الخضراء . ينتفض الحساوي شاعر سعودي ليبرالي ليقول ( خدعوك ايها المثقف , وجعلوك تظن انهم افضل من قاتليك ,/غسلوا الكعبة المشرفة بسلوك الخدم أمام الكاميرات وتسللوا بوئيد خطى الذئاب يعانقون المغفلين من المسلمين .
ما الذي يتذكره مبدر من الآلام وهو يسمع من وسوسةٍ حذرة لسائق تكسي عن الجلاوزة الذين أعدموا خمسة طلاب بأسم (صباح) في الكلية ، لكونهم يبحثون عن مطلوب لديهم بإسم (صباح) ولم يعثروا عليه بالتحديد فراحوا يعدمون خمسة بهذا الإسم . الروائي زيد بارعُّ في اختيار شخوصه ، اتخذ الإسم( صباح) دون غيره ، كإشارة منه الى أنّ الطغاة قد دمروا وأعدموا غدنا ، مستقبلنا ، باعتبار أنّ دلالة الصباح هي الغد الجديد ، القادم من الأيام ، المستقبل المشرق الذي أصبح ظلاماً بفعل هؤلاء الطغاة .

مهمة الكاتب .. رسائل المؤلف
في ساعات الطحن وتدمير الذات بماذا يفكر الكاتب والأديب ، حتما يكون التفكير مخالفا لكل ما يصيب الآخرين من ملمات ، لو أصاب الثري ملمة راح يفكر في ماله وجشعه الذي انقضى ، لو أصاب الفقير ملمة رفع رأسه الى السماء ، أما الأديب كحال مبدر إذا ما أصابته الملمة فأنه يسير وبه شعور أنّ بودلير والمتنبي يمشيان معه : ( ومعهم كان رامبو وبوشكين . وبجانبهم السياب واوكتافيو باث . يمسُّ أكتافَهم سان جون بيرس والماغوط . يخطو لوركا متبختراً بنبوءته التي تقر باندحار القتلة :” كنتُ موقناً أنهم سينهزمون ، وسيتوارون أولئك عُشاق الدم) .
ولذلك تنقلنا الرواية الى رسالة مفادها ، هي أننا حينما نرى جلوازا وقد أخذ منه الدهر مأخذا عظيما فنشمت به ونقول ( على الباغي تدور الدوائر) ، ولذلك تدخل البهجة أحيانا الى النفس المحطمة لمبدر وهو يردد منتشياً :

هم يندحرون ونحنُ نبزُغ
ينسلُّ منّا الألم فيما يندفع إليهم الخذلان .
ولفرط اقتراب العافية منّا
تتسلل مخالبُ العلل إليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في عمان ؛ وسط إهانة المرأة العراقية يختنق مبدر من التفكير بأن ( نجاة) هنا الآن مع فوج النساء العراقيات المنتهك شرفهن ، فأنقل ماذا يبوح الروائي الكبير زيد من موجعات الكلام والتعبير المذهل على لسان مبدر بطل روايته وهو هناك كسيراً منهكا مغلق الطرق والسبل وما من معين سوى النفس العليلة بحب( نجاة):

(نجاة ! حين أغيبُ عنكِ ليس لي إلا الحنين إليكِ .. نجاة أيتها العراق الذبيح ، المُنتَهَك ، المبتلى .. يا تاريخي البارق الباهر السرمدي … بكِ التمس حصيلتي …أراكِ اليوم يتيمةً فعلاً ! فقد ماتَ الذين سعوا لصون الشرف وحفظ العِرض ؛ وبقي الذين يتفرجون على ذبحِك وتقطيع أشلائك ) . كلمات مبكية حزينة تمزج بين حب الحبيب والوطن مثلما الكلمات الرائعة لأغنية ( بغداد) لكاظم الساهر .

الدكتاتور … النهاية ؛ الابطال .. المآل
تتوالى الأحداث في الرواية حتى قيام التحالف الدولي وسقوط الدكتاتورية ، فيجد مبدر نفسه وسط عالم آخر من عوالم الوطن الميت والذي يرسو على ميناء الخراب والدمار , كل شئ محطم وسائر نحو الهلاك . صديقه الأوحد الرسام الرهيف( كمال) يموت منتحراً في نهر الفرات ، وبقيت لوحات رسمها وبذل الكثير من الجهد في صنعها وإنجازها . هناك الكثير من الفنانين الذين سحقتهم ماكينة النظام على غرار كمال ، هناك المطربة الجميلة ( سهى البصري) التي شاهدناها على شاشة التلفزيون ، مرمية مجنونة في أزقة شوارع حيفا في بغداد نتيجة اغتصابها من أحد رجال المخابرات الصدامية آنذاك . ( كمال) هذا هو نفسه الشاعر السماوي الراحل ( جمال كَاني) ، للتشابه في الأسماء ومهنة الفن ، كمال رسام وجمال شاعر ، كلاهما قد تماهيا بين تلافيف الإنسانية حتى لاقوا حتفهم التراجيدي الموجع . فكلما أتذكر (جمال )أو ( كمال) أتيقن بأنّ الهوى كان بادٍ على جمال ، الهوى القاتل الذي جعله مثلما قالت زوجته في الرواية :
(كنت ألمس تذبذبه وأعزو ذلك لحياة الفنانين والمبدعين الكبار فأبرر له تقلباته ، يكثر من الشرود ويتوه في هذيانات لا تترك في نفسي غير شعور أنه لن يبق الزوج الذي عشت معه أعواماً ولا الأب الذي كان يضمُّ الصغار بين ذراعيه الحنونين).
فانقلب جمال رأساً على أعقاب الرحيل ، مما جعله يتخذ قراره الأخير في مغادرة أباطيل الحياة ، أراد أن يبصق في وجه حياةٍ لم تعد تُحتمل ، لكنّ البصاق كان مدافاً مع سيل الفرات الجارف .
عبد الرحمن الأديب الناقد لم تطأ قدمه أرض الوطن وظل في قائمة من ينتظرهم مبدر ( على جناح بهجة العودة لأعشاش طفولته المائية ) ، وعبد الرحمن هذا هو لربما أراد الروائي أن يجعله من أدباء الخارج أو المنفى وذلك السجال الدائر بينهم وبين أدباء الداخل . أما صديق مبدر ، الهادي التونسي ! فكان رمزا للأمة العربية التي لابد لها أن تفهم ما يدور في العراق ، فيضع مبدر روايته عبر الأثير علّها تصل الى ( الهادي التونسي) فيكون قد أوفى بوعدٍ قطعه له في كتابة ذلك البوح في حافلة الأردن وها هو اكتمل الآن ، لكنه بجزئه الأول فالأجزاء التالية على ذمة الأيام القادمة ، إذ أنّ العراق على بعد( فراسخ) من حربٍ أخرى تستهدف رأس النظام هذه المرة ( 2003) ، على بعد فراسخ لقرع طبول الألم القادم ، على بعد فراسخ لقبورٍ أخرى ويتامى وثكالى نادباتٍ لاطمات . وينتهي إبداع زيد الشهيد بصفحته الأخيرة ، حيث الليلة الأخيرة :

الليلةَ
وطني يذهبُ إلى السرير .
يرمي رأسَهُ المتعبَ على وسادةِ القلقِ ؛
فلا ينام !
غداً تبدأ الحرب
ــــــــــــــــــ
ثم نهايته الدلالية في هامش الصفحة بين زلّة ( ليبيا) والسماوة 2002ــ 2006 ، التي تشير الى ن الرواية كتبت بين ليبيا والسماوة .

خاتمة
في النهاية لا يسعني سوى أن أتذكر من خلال هذه الميلودراما المفعمة بالحزن ، الأغنية السورية الشهيرة للشاعر السوري محمد سلمان والتي كتبها أيام حرب الجولان 1973والتي تقول ( بكتب إسمك يبلادي /عل الشمس الما بتغيب / لامالي ولا أولادي على حبّك مافي حبيب) . لكن بلدي يبدو عليه قد كتب على أقراصٍ من الظلام بدلا من الشمس .

* زيد الشهيد ، وميلودراما (فراسخ لآهاتٍ تنتظر) (1)

http://http://http://saymar.org/2015/11/3752.html

*زيد الشهيد ، وميلودراما فراسخ لآهاتٍ تنتظر(2)

http://http://saymar.org/2015/11/4036.html

zaie_235678