السيمر / الاثنين 18 . 01 . 2016
د. نضير الخزرجي
من نعم الله على العبد نسيانه لصفحات من الماضي القريب والبعيد من سجل حياته اليومية، فالإنسان في مسيرته اليومية كالحدثين الليل والنهار، هناك نور وظلام، هناك بقعة ضوء ومساحة عتمة، دورة من الحياة ينتظم في سلكها كل الناس بلا فرق في المقامات والشأنيات، فكما تشرق الشمس على الأخضر واليابس والجبال والبحار والحضري والبدوي، فإن الظلام يحل على الجمادات والنباتات والحيوانات وكل دابة تتنفس على وجه الأرض وهكذا هي الحال في دورة الحياة مع الإنسان الذي يتنقل بين الضحكة والدمعة، بين الفرح والترح، بين الغنى والفقر، يتذكر شيئاً وينسى اشياءً، يستذكر بعضا من التاريخ ويتناسى أبعاضا منها، يستغرق في الماضي الوردي مستحضراً ما يسر نفسه ليشغل فراغها ويسد عليها منافذ الريح السوداء القادمة من ثنايا حاضر مؤلم، ويشرد من ماضيه الرمادي أو الأسود مستحضراً كل أدوات التبرير ليشغل النفس اللوامة عن فتح ملفاته بما يعكر عليه صفو يومه وحياته.
قد يعتقد البعض أن كتابة السيرة الذاتية أمر سهل وهين، فما على الإنسان إلا أن يسرد تفاصيل حياته ويسطرها على الورق لتجد طريقها الى المطابع ومن ثم الى رفوف المكتبات ليدفع القارئ من حر ماله حتى يقرأ تجارب الآخر في حقول الحياة المختلفة، فلو كان الأمر كذلك لما مشى أكثرهم الى أصحاب قلم لكتابة سيرتهم أو عرضها على كاتب بارع او محرر خبير ليعيد صياغة السيرة الذاتية بما يتوافق مع اللغة الأدبية الاحترافية التي تكتب بها، لأن السيرة الذاتية هو فن بذاته وإن كانت الأدوات هي نفسها التي يستخدمها صاحب مقالة سياسية أو ثقافية، ولا يجيد هذا الفن الا نزر قليل، وإلا لأصبح كل صاحب قلم راوية وقصصي (سيناريست).
ومن الطبيعي أن يعمد صاحب السيرة الى شطب الكثير من الذكريات المؤلمة على نفسه أو التي تصيب شظياتها المؤلمة نفوس صحب آخرين، وقد يعمد البعض وخلافا للأمانة التاريخية الى اختلاق صور جميلة لنفسه أو يلبس آخرين أثواباً غير حقيقية، زاعماً لنفسه ما ليس له وسالبا عن غيره ما هو حقيق به، على طريقة معظم الأفلام والمسلسلات التاريخية التي ليس لها نصيب من الواقع الا عشرة او عشرين بالمائة والبقية من خيالات المؤلف والمخرج، حتى يظن المشاهد ما رأه حقيقة وليس هو بكذلك.
وفي المقابل، فإنه ليس من السهولة الكتابة عن شخص وتدوين سيرته الذاتية حياّ كان أو ميتاً، ولهذا اختلفت كتب المعاجم والسير التي اشتهرت بها المكتبات العربية، من كاتب لآخر، ولهذا اختلف تقييمنا للمعاجم ومؤلفيها، فربما لصقنا بمؤلف صفة الصدق لتقصيه الحقيقة، وآخر الكذب لتعمده ذلك، وثالث المبالغة لأنه يسبغ على المترجم له ما زاد عن الواقع تعظيما، ورابع التحامل ببخس الناس حقهم وحجب ما لهم أو الحاقه ما ليس من حقهم.
فالكتابة عن الآخرين وبيان سيرتهم الذاتية ربما دخلت في منطوق قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا)، النساء: 58، فلا مبالغة ولا تحامل، ولا إفراط ولا تفريط، وهذا المعادلة السليمة لمستها في تعامل المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي مع الأشخاص الذين يترجمهم في مطاوي دائرة المعارف الحسينية التي يعكف على التأليف والتحقيق فيها منذ عام 1987م حتى بلغ المطبوع منها أكثر من مائة من مجموع نحو 900 مجلد.
ولما كانت المعاجم مختلفة المشارب، فإن كل قسم منها اعطى المؤلف حقه حسب المشرب الذي ورد إليه صاحب السيرة، وبين أيدينا الجزء الرابع من (معجم الشعراء الناظمين في الحسين) الصادر مطلع العام الجاري 2016م (1437هـ) في 582 صفحة من القطع الوزيري عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، تناول فيها المحقق الكرباسي الجانب الأدبي والنظمي في سيرة الشاعر الحسيني دون الجوانب الأخرى، متتبعاً الجانب الأدبي من حياة الشاعر دون الولوج الى تفاصيل حياته اليومية.
ما وراء التقصي!!
ربما يعتقد أكثرنا أن كتب المعاجم والسير من المجالات التي يسهل التأليف فيها، وهو أمر يتوهم فيه هذا البعض، لأن الإقتراب منه يكشف العقبات والمصاعب، وهي حقيقة عجنت طينتها وعانيت منها ولازلت منذ أن صار التنقيب عن السير الذاتية جزءاً من عملي التحقيقي في دائرة المعارف الحسينية، وهذه الحقيقة يؤكدها المحقق الكرباسي في أكثر من موضع، حيث يفصح عنها في نهاية الجزء فيؤكد بحسرة: (في نهاية المطاف أود الإشارة الى أن تحصيل المعلومة من الشعراء كما هو الحال في غيرهم يجهدنا كثيراً بل كل العاملين معنا، أما الأموات فإن الكتب ضنينة جداً بالذين نريد بيان سيرتهم الأدبية، وبالكاد يمكن الحصول على المعلومة وفي بعض الأحيان بحاجة الى الرمل والاسطرلاب –كما يقال- حتى يمكن الوصول إلى النزر القليل إن لم يكن هناك تضارب في سيرتهم ممن ترجموه ولو باختصار). ولا يذهبن الظن بأحد بأنَّ الصعوبة لصيقة بالأموات، بل ربما الأحياء في بعض الأحياء اكثر صعوبة، حيث يؤكد الكرباسي: (وأما الأحياء منهم فإن الاتصال بهم هو الآخر متعب ويحتاج في بعض الأحيان الى الالتماس والتمني بل يصل الى حالة التسوّل بعد التوسّل، وكم اتصلنا هاتفيا أو أرسلنا مرسلين الى الأحياء منهم وبعد اللتيا والتي –كما يُقال- لم نحصل إلا على ما لا يقابل تلك المساعي حتى بات الضجر بادياً على محيا العاملين معي، ولولا أنهم يعتبرون أنفسهم خداماً للإمام أبي عبد الله الحسين- روحي وأرواح العالمين له الفدا- لما كانوا يستمرون في اتصالاتهم رغم كثرة وسائل التواصل في عصرنا الحاضر).
كان بإمكان المؤلف أن يكتفي، بخصوص الراحلين منهم، بما مذكور في المصادر والمراجع، وبالنسبة للأحياء ما تناثر من سيرهم الذاتية في المصادر والشبكة العنكبوتية (الانترنيت)، ولكن إذا انتهج هذا المنحى ما عادت الموسوعة الحسينية دائرة معارف بحق وحقيقة، وصار حالها كحال أي كتاب يعمد مؤلفها الى تسجيل حضوره في عالم التأليف.
ولطالما عبر الكرباسي، خلال سبر السيرة الذاتية للشعراء، عن أسفه الشديد لما حلّ بنتاجات الشعراء من ضياع وفقدان، كان للعامل السياسي دوره الكبير في حرمان الأمة من أدب شعرائها، وبخاصة الأدب الحسيني الناهض الذي تعرض أصحابه للمطاردة والإبادة من أجل قمع صوت الحق الذي تمثل في قوافي الشعراء، ولما كان صوت القافية أكثر وقعا من قرقعة السيوف، فإنَّ النهاية المأساوية هي حليف كل صاحب قافية متحررة من ربقة الجبت والطاغوت، ومن هنا وعلى سبيل المثال فإن المؤلف عندما يتابع سيرة الشاعر البحريني أحمد بن محمد بن منصور الدرازي الشاخوري البحراني المتوفى عام 1815م، يقول فيه: (وقد فُقد شعره الحسيني بل ربما كل شعره، وبذلك خسرت المكتبة الإسلامية من جراء الإضطهادات المتتالية التي وقعت على أتباع مدرسة أهل البيت(ع) الكثير من أعماله الأدبية وغيرها). ومن هؤلاء الشاعر اللبناني أحمد بن منير الرّفا المتوفى عام 1153م، فقد كان ولاؤه لأهل البيت وشعره فيهم وهجاؤه لناصبيهم العداء سببا من أسباب ضياع ديوانه الذي كان موجوداً حتى النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وحسب استقراء الشيخ الكرباسي: (من المحتمل أن فقدان ديوانه كان بسبب تشيعه ولاحتوائه على الكثير من الهجاء والقذع لناصبي أهل البيت(ع) العداء ولمبغضيهم والذي دفع بهم لإخفاء ديوانه وإتلافه)، وقد تعرض الشاعر الرّفا خلال مسيرته الأدبية للسجن في قلعة دمشق وبعد إطلاق سراحه بفتره عزموا على صلبه فهرب منهم.
ولقد كان لتبحر الشيخ الكرباسي في العلوم المختلفة وتمكنه منها، بمقام القارب الذي يسعف كل من خانته المعرفة، ولهذا فإن درج السيرة الأدبية للشعراء لا يخلو من ملفات تظهر تدخل المؤلف لتصحيح ما يراه خطأ، فمن ذلك قول أحد الشعراء في تأريخ ولادة الشاعر العراقي أحمد بن محمد الموسوي المؤمن المتوفى سنة 1990م، من بحر الرمل:
قلتُ للصحب هلمّوا أرّخوا: … غيهبُ الأفق ميلاد أحمدْ
ولوقوف المؤلف على شعر التأريخ (الجمّل) فإنه يقرر: (ولا يخفى أن هذا لا يصح مع ما ذكره مترجمه لأن مجموع المفردات الأربع تقدر بـ (1367) ويختلف عما ذكره في تأريخه 1321هـ بفارق 46 رقماً، وبالقطع فإن الخطأ جاء في البيت لا في تاريخ الولادة حيث لا يناسب تاريخ الترجمة، ولو أبدل “غيهب” إلى “خارق” لصح التاريخ والمعنى).
ومن ذلك ينفي المحقق الكرباسي وجود إمرأة شاعرة باسم أدمى بنت علي بن أبي طالب الهاشمية حيث ورد اسمها لأول مرة في كتاب “أنوار الشهادة” للشيخ محمد حسين اليزدي المتوفى سنة 1297هـ (1880م) وهي ترثي أخاها الإمام الحسين(ع) حيث تقول من بحر الطويل، وهي تخاطب الزمان:
أسأت بقومٍ أسسوا كلَّ رحمة … وأسررتَ قوماً أبدعوا كلَّ بدعةِ
وأبكيت عمداً عين آلِ محمدٍ … وأضحكت جهلاً سِنَّ آل أميَّةِ
فهذا البيتان من مقطوعة من خمسة أبيات، أوردها الكرباسي بوصفه شعراً حسينياً، وبعد رد النسبة لعدم وجود ابنة للإمام علي(ع) باسم أدمى، يتابع مصدر النسبة من منظار الأدب فيؤكد: (إن ضعف الأبيات يدلنا على عدم صحة النسبة، بل هي من نظم من ليس بعربي أنشأها على لسان حال إحدى قريبات الإمام الحسين(ع) والمناسبة المذكورة أنها أنشأتها على جسد الإمام الحسين (ع) غير صحيحة).
عالمية القضية
لم تكن كربلاء، بقعة أرض فقط، تطل من غربها وجنوبها على صحراء الجزيرة العربية ومن شرقها وشمالها على عمق العراق أرض السواد الخصب، وإنما تقدست بثاويها القادم من المدينة المنورة والذي سبق أن سكن الكوفة لخمس سنوات، ولأنه رفع راية تحرير الإنسان من نير السلطان، دار اسمه في البلدان، وأشار اليه كل بنان، فانطلقت الحناجر تصدح بنظم البيان بكل الألحان، فكان لكل قطر شعراؤه الذين قرظوا النهضة الحسينية وإمامها وسيدها رثاءً ومدحاً.
ولكثرتهم وتنوعهم وتوزعهم في البلدان فإن الجزء الرابع من معجم الناظمين لا يزال يراوح عند حرف الألف، فبدأ بأحمد وانتهى بأسعد، وقافلة الشعراء بلا عد، وهم بازدياد بلا حد.
وكان للجزيرة العربية السبق من حيث العدد يليها العراق ثم لبنان ومصر واليمن وإيران والمغرب
وسوريا والبحرين والأندلس وتركيا، فمن السعودية حظي المعجم بأحد عشر شاعراً وهم من حيث تاريخ الوفاة أو الولادة: أحمد حمزة الماجد (1402هـ)، أحمد عباس الرويعي (1415هـ)، أحمد محمد الأحسائي (1247هـ)، أحمد محمد السبعي (860هـ)، أحمد محمد الصفار (1270هـ)، أحمد محمد النمر (1380هـ)، أحمد معتوق العيثان (1387هـ)، أحمد منصور القطان (480هـ)، أحمد منصور خميس (1352هـ)، إدريس عبد الباقي آل قمبر (1399هـ)، وأديب عبد القادر أبو المكارم (1397هـ).
وحظي العراق بتسعة شعراء هم: إحسان كريم الحكيمي (1408هـ)، أحمد الحلي (ق 13هـ)، أحمد محمد الرمّل (1380هـ)، أحمد محمد العطار (1215هـ)، أحمد محمد المؤمن (1412هـ)، أحمد محمد رضا القزويني (ق 15هـ)، أركان حسين التميمي (1387هـ)، أسعد الغريري (1373هـ).
وحظي لبنان بسبعة شعراء هم: أحمد خليل حجازي (1391هـ)، أحمد محمد سعد (1436هـ)، أحمد محمود الدر العاملي (1397هـ)، أحمد منصور الكاخي (1361هـ)، أحمد منير الرفا (548هـ)، اسحاق شاكر العشي (1345هـ)، أسد الله محمد رؤوف مرتضى العاملي (ق 15هـ).
وحظيت كل من مصر واليمن بستة شعراء، والمصريون هم: أحمد حسن محرم (1364هـ)، أحمد محمد الفيومي (770هـ)، أحمد محمد الكناني (1353هـ)، أحمد محمد فهمي (1391هـ)، أحمد موسى عفيفي (1411هـ)، أسعد عبد الغني العدوي (639هـ). ومن اليمن: أحمد محمد السقاف (1431هـ)، أحمد محمد الشامي (1429هـ)، أحمد محمد أحسن العجري (1386هـ)، إدريس حسن القرشي (872هـ)، إسحاق مالك الأشتر (61هـ)، أحوص شداد الهمداني (ب67هـ).
وحظيت إيران بثلاثة شعراء هم: أحمد مطلب المشعشعي (1168هـ)، إسحاق مظهر الإصبهاني (678هـ)، أسعد علي الزوزني (492هـ). فيما حظيت البحرين بشاعرين هما: أحمد محمد العصفور (1230هـ)، وأحمد مهدي الخطي (1306هـ)، ومثلها سوريا وهما: إدوار نقولا مرقص (1368هـ)، وأسعد أحمد علي (1356هـ)، ومثلهما في المغرب وهما: أحمد محمد الدَّباغ (1355هـ)، وأحمد مسعود الحسني (1041هـ). فيما حظيت الأندلس بشاعر واحد هو: أحمد محمد القسطلي (421هـ)، ومثلها تركيا وهو: أحمد محمد الصنوبري (334هـ). وضم المعجم ثلاثة شعراء غير معروفين أو لم يتم التعرف عليهم وهم: أحمد محمد السقا (ق 15هـ)، أحمد محمد الهاشمي (61هـ)، وأدمى بنت علي الهاشمية (ق 1هـ).
أغراض حيوية
تابع الكرباسي في حياة الشعراء الأدبية، الأغراض الأخرى من قصائدهم دون الحسينية التي أخذت محلها في دواوين القرون، وهو ما يعطي للكتاب غنى وتنوعاً ورغبة في قراءته وتحسس قوافيه بأنامل القلب والتغني معها على أوتار الروح، ومن ذلك قول الشاعر المصري أحمد محمد الكناني الأبياري المتوفى عام 1934م، من الخفيف وهو يعارض العذال:
بهجةُ الروح للوصال دعاني … يا خليليَّ في غرامي دعاني
يا خليليَّ لستُ للنصح أُصغي … خلِّيا النصحَ واتركاني وشاني
كيف أصغي لعذلِ لاحٍ تخلَّى … لا يُعاني في حبِّه ما أُعاني
وهي حقيقة لا غبار عليه، فالمحب غارق في بحر حبيبه لا يلوي على شيء إلا القرب والوصال وإن ساقه الزمن من حال الى أسوأ حال، ولا يهم نوع الحبيب ما دام الهيام هو الهيام، كأنه يكون غزالة في الحارة أو ظبية مرت بجانبه، أو زوجة اندك حبها في قلبه اندكاكا، ومحبوب المتصوف في أكثر الأحيان رب الأحباب ورب الأرباب.
وعن الشيب فحدث ولا حرج، فأصعب شيء على المرء بعد عوادي الزمان أن يرى الشيب يخط صدغه أو يحتل مساحة كبيرة من رأسه ومحاسن وجهه، فهذا الشاعر اليمني أحمد بن محمد السقاف المتوفى عام 2010م يبكي شباباً ذهب مع ريح الزمان، فينعى نفسه من الوافر:
بكيت على الشباب بدمع عيني … فلم يُغن البكاءُ ولا النَّحيبُ
فيا أسفا أسفتُ على شبابٍ … نعاهُ الشيبُ والرأسُ الخضيبُ
عريتُ من الشباب وكان غُصناً … كما يَعرى من الورق القضيبُ
وإذا كان البعض يشكو المشيب، فإن البعض الآخر يناجي الديار التي حلّ بها أو طاف عليها، يناشد القريب والبعيد، الجماد والإنسان، يدعوه أن يوصل سلامه الى الساكن بها، فهذا الشاعر العراق أحمد بن محمد العطار المتوفى عام 1800م يحدوه شوقه الى الديار المقدسة في الحجاز فيخاطب البرق من بحر الطويل:
أيا برقُ إن جزتَ المنازلَ فآبلغَنْ … سلامَ مقيمٍ لا يزالُ على العهدِ
إذا مرَّ لي ذكرُ العُذيبِ وبانِهِ … تذكرتُ في أيام قُربكُم وِردي
سقى منزلاً بالسفح سفحُ مدامعي … وحَيّا الحَيَا رَبعاً خصيباً على نجدِ
وبعض يخاطب الدهر يرجوه لم شمل الرفاق من بعد طول فراق، فهذا الشاعر المغربي أحمد بن مسعود الحسني المتوفى عام 1633م، يتحسّر على حبيبه الذي باعدته الديار وأبعدته الأيام، ينتظر الظرف الذي يجمعه ولو بسماع صوته، فينظم من الطويل:
ألا ليت شعري هل أُلاقيك مرّة … وصوتُك قبل الموت ها أنا سامعُ
فيا دهرنا للشتّ هل أنت جامعُ … ويا دهرنا بالوصل هل أنت راجعُ
وتجارب الحياة كثيرة، في الإيجاب دافعة وفي السلب مانعة، والحياة الهانئة لمن يلزم سبيل الرشاد، ولما كانت الشرور تقف متوثبة على أبواب فم المرء تحت عضلة اللسان، فإن الشاعر القطيفي أحمد بن منصور آل خميس المولود عام 1933م، يدعونا الى أخذ الحيطة والحذر من زلات اللسان، فينظم من الكامل:
احفظْ لسانك ما حَيَيْتَ فرُبَّما… ماتَ الفتى من عثرةٍ بلسانِهِ
ولا تطلُقنَّ عَنانَهُ في فتنةٍ … فالفتنة الضراءُ رأسُ سنانه
وانطق به في ذكر ربِّكَ حامداً … كيما تفوزَ غداً بَغَرسِ جِنانِهِ
وأخيراً وليس آخراً فإن الشاعر المصري أحمد بن حسن محرّم الدمنهوري المتوفى عام 1945م، أراه كأنه ينشد بيننا اليوم وهو يرى ضعفنا وخوارنا والقوى العظمى تأخذ بتلابيب مقدراتنا توقع بيننا البغضاء والحروب على وقع القومية تارة وتارة على وقع الطائفية، تبيعنا السلاح لنتحارب وتبتاع نفطنا بأبخس الأثمان، فيدعو الشرق، من بحر البسيط:
هبّوا بني الشرق لا نومٌ ولا لعبُ …حتى تُعدَّ القوى أو تُؤخَذَ الأُهُبُ
كونوا بها أمَّةً في الجهر واحدةً … لا ينظرُ الغربُ يوماً كيف نحتربُ
ماذا تظنون إلا أن يُحاطَ بكُمْ … فلا يكونُ لكم مَنجًى ولا هَرَبُ
وهذا هو واقع الحال اليوم، ويكاد الغرب أن يعيد استعباد المسلمين كما فعل في القرنين التاسع عشر والعشرين، لولا بقايا أمل وقوة عربية ناهضة هنا وقوة إسلامية فاعلة هناك تحول دون عودة الماضي الأليم.
ولا يخفى أن المؤلف وضع لنفسه لازمة في أجزاء دائرة المعارف الحسينية المطبوعة، وذلك في أن يلحق بكل إصدار جديد مقدمة أجنبية تتناول فحوى الكتاب، وفي هذه الجزء قدمت الإعلامية الاستونية الدكتورة جليزافيتا كاتلين كورنيليا (Jelizävetä Cätlyn Korneeliä)، الممثل الأعلى لمنظمة الصحفيين الدولية (IJO) في الأمم المتحدة رؤيتها عن النهضة الحسينية والأدب الحسيني والناظمين فيه، وبعد قراءة لواقعة الطف كتبت: (باعتقادي أن تقدم الاسلام وانتشاره لم يعتمد على استخدام السيف من قبل المؤمنين به، وإنما جاء نتجية للتضحية العليا للحسين .. للنهضة الحسينية صدى عالميا، لقد ضحى الحسين بكل شيء رافضا الاستسلام لسلطة مستبدة، لم يعبأ في حركته للقوة المادية والعدة والعدد التي عليها السلطة الحاكمة، فكان إيمانه أقوى من كل قوة مادية، ولذلك أصبحت تضحياته الجسيمة منارة لكل مجتمع وكل أمة بغض النظر عن المعتقد والدين).
وعبرت المستشارة الإعلامية السابقة لرئيس وزراء استونيا يوهان بارتس (Juhan Parts) في تقديمها لمعجم الناظمين عن قناعتها: (إن الكلمات لا يمكنها أن تغطي حقيقة شخصية الإمام الحسين، فهو تجسيد للمحبة، تجسيد للبسالة والتضحية والتفاني، كل إنسان ينبغي أن يتعلم الدرس من حياة الحسين ويهتدي بهداه، وهو مثال الحركة في الطريق السليم).
وحول الأدب الحسيني ودور الموسوعة الحسينية أكد الدكتورة جليزافيتا كاتلين كورنيليا: (إن الشعراء في كل أنحاء العالم لم يتوقفوا عن النظم المدهش في النهضة الحسينية، استمر منذ قرون، وسيستمر الى أن تموت البشرية كلها، وإن الموسوعة الحسينية هي واحدة من الإصدارت المتميزة أبداً، تتابع شخصية الحسين من ألفها إلى يائها، وهي في واقعها مشروع كبير حبّر كلماتها وسطرها عالم متعدد المواهب والقدرات هو الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي يُمثل واحداً من العقول المفكرة المبدعة في عالم التأليف).
في اعتقادي أنَّ باب السير والمعاجم من هذه الدائرة هو في واقعه مدرسة معرفية يقدمها المحقق الكرباسي للقارئ والباحث في كيفية كتابة السيرة الذاتية حسب الغرض الذي تقتضيه، كأن تكون سيرة الشخص المعني من جانبه الأدبي أو العلمي أو السياسي أو التربوي أو الرجالي، أو عموم السيرة الذاتية في الجوانب كلها.
الرأي الآخر للدراسات- لندن