متابعة السيمر / الاثنين 29 . 08 . 2016 — طباقٌ إقليمي ـ دولي شبه كامل على المشهد “الجهادي” في سوريا. أهل الحل والعقد لا كلمةَ لهم أمام دوائر الاستخبارات. لكنّ اختلاف المصالح بين الدول الداعمة بدأ يطغى على نسبة التقاطع في ما بينها.
وقد يكون من أولى نتائج ذلك الفشل في إعلان التوحد بين الفصائل السورية المسلحة قبل اجتماع وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة سيرغي لافروف وجون كيري، يوم الجمعة الماضي، كما كانت تخطط بعض الدول، بغية إفشال الاجتماع ومنع التنسيق الأميركي ـ الروسي من الوصول إلى خواتيمه المتوقعة.
وقد كشفت لـ “السفير” مصادر “جهادية” مطلعة على كواليس المفاوضات الجارية بين الفصائل المسلحة حول عملية التوحد، أن بعض الدول، وعلى رأسها قطر، مارست ضغوطاً كبيرة على العديد من الفصائل من أجل تسريع الإعلان عن التوحد قبل يوم الجمعة الماضي، وذلك بهدف قطع الطريق أمام أي اتفاق بين واشنطن وموسكو على الاستفراد بـ “جبهة النصرة”. لكن على ما يبدو، فإن التباينات الجزئية بين قطر وبعض حلفائها كانت أقوى من الضغوط التي مارستها، لتكون النتيجة فشل إعلان التوحد في الموعد القطري.
وقد كان لاستخبارات الدوحة دورٌ كبير في إتمام عملية فك الارتباط بين “جبهة النصرة” و”القاعدة” من خلال الطلب من قيادة “طالبان” التي تجمعها بها علاقة جيدة، العمل على إقناع زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري بالموافقة على فكّ الارتباط، أو على الأقل عدم معارضته، وذلك مقابل وعود قطرية بأن موضوع التوحد بين الفصائل المسلحة في سوريا سيأتي تلقائياً وسيكون لقادة “النصرة” حصةٌ كبيرة في مناصب الكيان الجديد الناتج من عملية التوحد.
وثمة من يؤكد أن الاستخبارات القطرية لعبت دوراً سابقاً في عملية إخراج خمسة من قادة “القاعدة” معظمهم من الجنسية المصرية من المنطقة الحدودية بين إيران وأفغانستان إلى تركيا، حيث انتقلوا بعدها إلى سوريا ولعبوا دوراً بارزاً في تسهيل عملية فك الارتباط، وأبرزهم أبو الخير المصري الذي أصبح يتولى منصب نائب الظواهري.
ووفق مصدر في “جبهة النصرة”، فإن المساعي القطرية لإخراج القادة الخمسة لم تكن واضحة، وكانت ثمة مخاوف من أن يكون مصيرهم كمصير سليمان ابو الغيث (صهر اسامة بن لادن) الذي جرى تسليمه إلى الولايات المتحدة عقب وصوله إلى تركيا. ولكن تبين بعد ذلك عدم صحة هذه المخاوف، وأن إخراج القادة الخمسة كان محسوباً بدقة، مع الإشارة إلى أن العديد من ملابسات هذا الخروج لم تتضح بعد.
وشدد المصدر على أن هؤلاء القادة انهمكوا فور وصولهم إلى سوريا في آذار الماضي، في العمل على موضوع فك الارتباط، الأمر الذي أعطى ثماره بعد أشهر عدة فقط، وهي فترة قياسية بالنسبة إلى أهمية الموضوع المطروح. لكن هذا الانهماك الفوري للقادة المصريين في جهود فك الارتباط كان مؤشراً على أن العملية متفق عليها مسبقاً مع قيادة “القاعدة”.
إلا أن قطر فشلت حتى الآن في الإيفاء بالوعود التي قطعتها على قيادة “القاعدة”، فلا فك الارتباط استجلب الدعم والتأييد المرجوين من قبل أطراف إقليمية ودولية وحتى داخلية، ولا هو نجح في إسقاط العقبات التي كانت تحول دون عملية التوحد بين الفصائل المسلحة.
ويكمن المأزق الجوهري في أن السياق الذي رافق الإعلان عن فكّ الارتباط وما استتبعه من أحلام التوحد، تسبب بإظهار الأمر وكأنه صراع مصيري بين “أحرار الشام” و “جبهة النصرة”، لدرجة أن أوساط كل فصيل منهما بدأت تُلّوح بالاندماج المنفرد مع مجموعة مختلفة من الفصائل، الأمر الذي خلق حالة من التوتر والاحتقان تكاد تُذكّر بالتوتر والاحتقان اللذين نتجا من خلاف أبو محمد الجولاني وأبو بكر البغدادي في نيسان 2013.
وفي غمرة الاجتماعات لبحث موضوع التوحد، والتي تجاوز عددها عشر جلسات خلال الأسابيع الأخيرة، كان من الواضح من خلال ما تَسرب من مداولات جرت خلالها، أن هناك صراع إرادات بين “النصرة” و “الأحرار” حول من سيفرض رؤيته على الآخر.
وبطبيعة الحال، فإن فرض الرؤية يستلزم الإمساك بأدواتها، وأهمها حيازة المناصب الرئيسية في الكيان الجديد، فظهر الأمر وكأنه صراع على السلطة، في حين أنه في حقيقته صراع على الرؤية الاستراتيجية وعلى النهج السياسي والعسكري وطبيعة الارتباطات الاقليمية.
وما زاد من خطورة المأزق أن كلاً من “النصرة و”الأحرار” وجد نفسه أمام خيارات محدودة للغاية، وقد تترتب على تفضيل بعض هذه الخيارات على بعضها الآخر نتائجُ متناقضة على صعيد العلاقة مع الفصائل في الداخل السوري أو على صعيد العلاقة مع الدول الداعمة.
فبالنسبة إلى “أحرار الشام”، هناك تريّث تركي حيال موضوع التوحد، بل إن أنقرة بعد توغلها البرّي في جرابلس تحت ذريعة محاربة الارهاب المتمثل بـ “داعش” و”وحدات حماية الشعب” الكردية، أصبحت تفضل عدم التوحد لأن مشاركة “النصرة” بتصنيفها الإرهابي في أي كيانٍ مُوَحد سيؤثر على صورتها الجديدة كدولة تحارب الارهاب.
كما أن الولايات المتحدة ترفض توحد الفصائل المدعومة من قبلها أو من قبل “غرفة عمليات الموم” مع “جبهة النصرة”، وهو ما يمثل رسالة واضحة لمن يعنيه الأمر بأن الارتباط مع “النصرة” غير مأمون العواقب. لكن تنبغي الإشارة إلى أن ذلك لا يعني أن واشنطن ستنخرط في محاربة “النصرة” من دون فرض ثمن سياسي خلال المحادثات المتواصلة مع الطرف الروسي. وهو ما يؤكد أن “جبهة النصرة” تحولت إلى سلعة معروضة للبيع في السوق الأميركية بانتظار تبلور الشهية الروسية على شرائها.
وقد التقطت قيادة “أحرار الشام”، وخاصةً جناحها السياسي، هذه الرسائل التركية والأميركية، وفهمت أن التوحد مع “جبهة النصرة” برغم إيجابياته العسكرية على صعيد القتال ضد الجيش السوري، إلا أن تأثيره سيكون سلبياً للغاية من الناحية السياسية. لذلك عمدت “قيادة” الأحرار – غالباً بإيعاز تركي – إلى المماطلة في مفاوضات التوحد ومحاولة إطالتها قدر الإمكان، متذرعةً بشروط وحجج مختلفة، من دون أن تظهر رفضها الكامل لعملية التوحد.
وبناءً عليه، تساهلت “أحرار الشام” في التوصل إلى اتفاق مع “جبهة النصرة” حول مجموعة من المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تحكم عمل الكيان الموحد، لكنها من جهة أخرى عمدت إلى طرح مجموعة من الشروط والقيود على طاولة البحث لعرقلة التوصل إلى اتفاق نهائي. من هذه الشروط ما يتعلق بكيفية توزيع المناصب القيادية في الكيان الجديد، ومنها ما يتعلق بطبيعة العلاقة مع الدول الداعمة من جهة، وطبيعة العلاقة مع المجتمع الدولي من جهة أخرى، وهي شروط بالغة الحساسية بالنسبة إلى “جبهة النصرة” ولا يمكنها حسم موقفها تجاهها بسهولة.
ويمكن القول إنه أصبح في حكم المحسوم أن غالبية الفصائل المنضوية تحت جناح “غرفة عمليات الموم” أو تلك المدعومة أميركياً سواء من البنتاغون أو من “السي آي إيه” هي خارج مشروع التوحد الذي تجري مناقشته بين الفصائل حالياً. وهذا يشمل غالبية الفصائل الموجودة في إعزاز ومارع، وتلك التي تقاتل تحت إمرة الجيش التركي في جرابلس.
وبالتالي، فإن مفاوضات التوحد أصبحت محصورة في نطاق الفصائل التي تشكل “جيش الفتح” بالإضافة إلى بعض الفصائل الأخرى. وبالرغم من ذلك، فإن هذه المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود.
والحال أن ثمة مأزقا كبيرا يواجه هذه الفصائل، لا سيما “أحرار الشام” و “جبهة النصرة”. فمن جهة لا تستطيع “أحرار الشام” إعلان موقفها الحقيقي الرافض للتوحد مع “النصرة” مخافة تحميلها المسؤولية من قبل “تجمع أهل العلم” ومن قبل السعودي عبد الله المحيسني الذي هدد صراحة بأنه سيفضح الفصيل الذي يثبت أنه عرقل اجتماع الفصائل. وهي كذلك لا تستطيع تسهيل الانخراط في مشروع وحدوي مع “النصرة” لأنها ستخسر الكثير من الناحية السياسية، بالإضافة إلى التبعات العسكرية والأمنية التي يمكن أن تطالها في حال اتفاق الروس والأميركيين على محاربة “جبهة النصرة”.
ومن جهة ثانية، فإن “جبهة النصرة” ستجد نفسها في موقف محرج في حال فشل مفاوضات التوحد لأنها اتخذت خطوة فك الارتباط كتمهيد لهذا التوحد، وبالتالي سيبدو أنها تخلت مجاناً عن اسم “القاعدة” ومن دون أي مبرر منطقي أو عملي. لذلك فهي أيضاً في صراع بين موقفين، إما رفض التوحد بسبب الشروط المفروضة عليها وبالتالي إفراغ فك الارتباط من أي مضمون، أو الخضوع للشروط القاسية مع ما يعنيه ذلك من نتائج وخيمة، ليس على نفوذها داخل الكيان الجديد وحسب، بل على إمكان الحفاظ على مستقبلها في حال فشل التوحد في وقت لاحق لأن بنيتها الداخلية ستكون قد تشتتت ومن الصعب إعادة تجميعها.
وبكل الأحوال، فإن الهدف الاستراتيجي من التوحد قد أهدرته مماطلة “أحرار الشام”، كما أنه فقد جزءاً كبيراً من زخمه بسبب غياب مجموعة وازنة من الفصائل عنه. وبالتالي فإن أي توحد يجري بين هذه الفصائل سيكون تكتيكياً ولن يختلف كثيراً عن تجارب سابقة انتهت بالفشل مثل “الجبهة الإسلامية”.
عبد الله سليمان علي/ السفير