السيمر / الأحد 07 . 05 . 2017
صالح الطائي
يروج بعض الناشطين المدنيين إلى أن الطائفية المقيتة التي تنخر المجتمع العراقي منذ الأيام الأولى للتغيير في 2003 ولحد الآن لم تكن موجودة ولا معروفة من قبل، وأن أعداء الأمة هم الذين زرعوها، وغذوها لتسهل وتيسر لهم السيطرة على العراق، وهذا برأيي تسطيح خطير للقضية، ولا يمت للواقع بصلة تذكر، فالطائفية كانت موجودة في المجتمع الإسلامي في العقود الأولى من القرن الهجري الأول، فكيف لا يكون موجودة في ظل نظام شمولي مقيت مثلا؟ فضلا عن ذلك كانت على مر التاريخ مرة تهب حينما تجد من يغذيها، وطورا تخبو حينما تجد من يلجمها، وقد وصلت في بعض المراحل إلى أشد وأقسى وأكثر تخريبا مما هي عليه الآن في العراق وسوريا واليمن والبحرين، ووصل الأمر إلى درجة مطاردة وقتل ذوي العقول الكبيرة النادرة ممن يروي حديثا نبويا واحدا لا ترضى عنه السلطات الحاكمة أو تتخوف منه وتحذر من انتشاره، وتعالوا لنأخذ الصولي بطل العالم في الشطرنج في عصرة وفي عموم التاريخ العربي، هذا العالم الذي توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة(1). وقال المرزباني: توفي أبو بكر بالبصرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة”(2)، تعالوا نجعله أنموذجا من المرحلة الوسطى للدلالة على وجود الطائفية قبل وبعد ذلك.
هو: محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول، أبو بكر الصولي، البغدادي، صاحب التصانيف(3). هو: “العلامة الأديب ذو الفنون، حدث عن: أبي داود السجستاني، ومحمد بن يونس الكديمي، وثعلب، والمبرد، وأبي العيناء، وخلق. روى عنه: ابن حيويه، وأبو بكر بن شاذان، والدارقطني، وأبو الحسن بن الجندي، وعلي بن القاسم، وابن جميع، وأبو أحمد الفرضي، والحسين الغضائري، وعدة. وله النظم والنثر وكثرة الاطلاع”(4). وعد ابن حجر ممن روى عنهم فضلا عمل ورد في نص الذهبي: الكديمي، العلائي، معاذ بن المثنى، وجماعة(5). ولم يجد ابن حجر ما يضعفه به سوى رواية عن أبي الحسين بن فارس، قال: “سمعت أبا أحمد بن أبي العشار، يقول: أبو أحمد العسكري يكذب على الصولي ، مثل ما كان الصولي يكذب على الغلابي، مثل ما كان الغلابي يكذب على سائر الناس”(6).
وصفوه بجملة من الأوصاف المادحة التي تشيد به شخصا وعلما ودراية، وصفه الصفدي بأنه: ” أحد الأدباء المتقدمين في الأدب والأخبار والشعر والتاريخ.. وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة مقبول القول، وحديثه بعلو عن أصحاب السلفي… وكان أوحد زمانه في لعب الشطرنج”(7). ووصفه الذهبي بأنه: “نادم جماعة من الخلفاء، وكان حلو الإيراد، مقبول القول، حسن المعتقد، خرج عن بغداد لإضاقة لحقته بأخرة، وله جزء سمعناه، وكان جدهم صول ملك جرجان(8). ووصفه الزركلي بأنه: “كان عالما بالفن والأدب وأخبار الملوك وطبقات الشعراء، وله شعر مدح وغزل،
وكتم للصولي بيت مملوء كتبا. من أكابر علماء الأدب(9). ووصفه المرزباني بأنه: “كان واسع الرواية، حسن الحفظ للآداب والافتنان بها حاذقا بتصنيف الكتب، وله أبوة حسنة، كان جده صول وأهله ملوك جرجان”(10). ووصفه الخطيب البغدادي بأنه: “كان أحد العلماء بفنون الأدب، حسن المعرفة بأخبار الملوك وأيام الخلفاء، ومآثر الأشراف، وطبقات الشعراء… وكان واسع الرواية، حسن الحفظ للآداب، حاذقا بتصنيف الكتب ووضع الأشياء منها مواضعها… ودوَّن أخبار من تقدم وتأخر من الشعراء… وكان حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، مقبول القول(11). وقال أبو بكر بن شاذان: رأيت للصولي بيتا عظيما مملوءً بالكتب… قال: وكان الصولي، يقول: هذه الكتب كلها سماعي”(12).
كتب الصولي مجموعة كبيرة من المؤلفات، منها: كتاب الأوراق في أخبار الخلفاء والشعراء ولم يتمه، ومن كتبه بعد ذلك كتاب الوزراء، كتاب العبادة، كتاب أدب الكاتب على الحقيقة، كتاب تفضيل السنان عمله لأبي الحسن علي بن الفرات، كتاب الأنواع ولم يتمه، كتاب سؤال وجواب رمضان لأبي النجم، كتاب رمضان، كتاب الشامل في علم القرآن ولم يتمه، وللعلماء في ذلك نوادر ليس هذا موضعها، كتاب مناقب علي بن الفرات، كتاب أخبار أبي تمام، كتاب أخبار الجبائي أبي سعيد، كتاب العباس بن الأحنف ومختار شعره، كتاب أخبار أبي عمرو بن العلاء، كتاب الغرر أمالي”(13). وقد أضاف الزركلي كتاب وقعة الجمل الذي لم يذكره ابن النديم.
أما الصفدي فعد له من كتبه: “أخبار الخلفاء، أخبار الشعراء، أخبار الوزراء، أخبار القرامطة، كتاب الورقة، كتاب الغُرر، أخبار أبي عمرو بن العلاء، كتاب العبادة، أخبار ابن هرمة، أخبار السيد الحميري، أخبار إسحاق بن إبراهيم، أدب الكاتب على الحقيقة، كتاب الشبان، كتاب الشامل في علم القرآن، مناقب ابن فرات، كتاب سؤال وجواب، كتاب رمضان، أخبار أبي نواس، أخبار أبي تمام، أخبار أبي سعيد الجنابي، كتاب في السعادة، كتاب الأمالي. وجمع شعر ابن الرومي، وجمع شعر أبي تمام، وشعر البحتري، وشعر العباس بن الأحنف، وشعر علي بن الجهم، وشعر ابن طباطبا، وشعر إبراهيم بن العباس الصولي، وشعر أبي عيينة المهلبي، وشعر أبي شراعة، وكتاب شعراء مضر”(14).
لكن ذلك الوصف والتعظيم، وتلك المؤلفات الرائعة لم تقف حائلا بين الطائفيين والمتعصبين وبينه، مما دفعهم إلى مطاردته للفتك به. ولكي نعرف درجة تأثير المتعصبين على باقي الناس تعالوا لنقرأ قول الزركلي: “فطلبته العامة والخاصة لتقتله، فاستتر منهم، وتوفي بالبصرة مستترا”(15). وهي الحادثة التي تستر عليها بعض المؤرخين، وتجاوز ذكرها بعضهم الآخر، إما بعدم ذكر سبب موته مستترا؛ مع ذكر الاستتار، كما في قول الزركلي: “مات بالبصرة مستترا”(16). أو بعدم ذكر موضوع الاستتار برمته، أو بمجرد ذكر سنة وفاته، وكأن موته كان طبيعيا، مثلما اهتم المرزباني بذكر سنة وفاته دون الإشارة إلى موضوع الإستتار(17). وفعلا توفي الصولي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة(18). وقال المرزباني: توفي أبو بكر بالبصرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة”(19).
إن ما حدث للصولي من تضييق ومطاردة وتهديد بالقتل، ثم موته مستترا خائفا وجلا، ليس بالأمر الهين، ولا يمكن المرور عليه مرور الكرام، فهو من الخطورة بمكان لأنه يوضح منهجية التعامل مع بعض أصدق الأحاديث النبوية، وكيف تم التعتيم والحجر عليها لكي لا تنتشر بين الناس، وإذا ما كان بعض من رووا مثل هذه الروايات قد سلموا من التهديد بالقتل لأسباب بعضها منطقي وبعضها الآخر غير معروف، فإن مركز الصولي ومكانته العلمية، وعجز المتعصبين والمتشددين عن توهينه، أو الطعن به، جعل رواياته في منتهى الخطورة، وبالتالي لا يمكن منعه من الكلام إلا من خلال التهديد الجاد، وألا ما كان ليستتر لو لم يكن تهديهم جادا.
إن مطاردة وقتل الذين يروون الأحاديث التي تخالف منهج السلطان، وتتقاطع من رؤى وعاظ السلاطين، تؤكد بما لا يقبل الشك أن الطائفية؛ التي يروج البعض إلى أنها كانت وليدة سقوط نظام البعث بعد التغيير في 2003، كانت على أشدها منذ القرن الهجري الأول، وأن ما يحدث اليوم في العراق إنما هو صور من صور تلك الطائفية القديمة التي حرمت الإسلام والمسلمين من روايات مهمة وعظيمة كان يمكن لها لو رأت النور، واتفقوا على مضمونها أن تغير وجه التاريخ، ولكن أسلوب المطاردة البوليسي الوحشي، منع الناس عن روايتها، وبالتالي بدت غريبة حينما واتت الظروف من يرويها في عصور لاحقة، ومن هنا جاء مصدر التشكيك بصحتها، فخلق حاجزا بين المكونات الإسلامية، دفعهم إلى التناحر والنزاع، فكانت طائفية ما بعد التغيير صورة من صور الطائفية التاريخية، وفرعا من النزاع التاريخي القديم. ونحن لن نرقى إلى مستوى البشر العقلاء الأسوياء إلا إذا ما نجحنا بتجاوز هذا الموروث القبيح، والبدء بتأسيس مدارس فكرية تتعامل مع الروايات بعين الحكمة والعقل لا بعين التمذهب والتحزب، ومتى ما وصلنا إلى هذه المرحلة، ستكون بعون الله خطوتنا الأولى نحو الاعتراف بإنسانيتنا بعد طول غياب.
الهوامش
الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج12/ص5.
معجم الشعراء، ص498.
الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج12/ص5، ترجمة:2989.
المصدر نفسه.
لسان الميزان، ج5/ص427، ترجمة: 1398.
المصدر نفسه، ج5/ص328.
الوافي بالوفيات، ج5/ص125، ترجمة: 2245.
سير أعلام النبلاء، ج12/ص5.
الأعلام، ج7/ص136.
معجم الشعراء، ص497.
تاريخ بغداد، ج4/ص675ـ 676، ترجمة: 1834.
المصدر نفسه، ج4/ص681.
ينظر: ابن النديم، الفهرست، ص215ـ216، والزركلي، الأعلام، ج7/ص136.
الوافي بالوفيات، ج5/ص125.
الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج12/ص5.
الأعلام، ج7/ص136.
ينظر: معجم الشعراء، ص498.
الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج12/ص5.
معجم الشعراء، ص498.