السيمر / الأحد 06 . 08 . 2017
رواء الجصاني
دعونا نتساءل، مشتركين، قبل البدء، هل نحن في مناسبة رثاء؟ .. ام انها استذكار لخالد لم يرحل؟… هل رحل ، حقاً، محمد مهدي الجواهري (1898-1997) ؟! وهو القائل:
أكبرت ُ يومكَ ان يكونَ رثاءَ، الخالدون عرفتهم احياءَ؟
– وإذا ما كانت ملحمة – اسطورة كلكامش، السومرية الغارقة في العراقة، وحتى اربعة الاف عام، قد تحدثت عن الخلود والموت، ذلكم هو الجواهري يجسد الامر حداثياً، وواقعياً، فراح يَخلـدُ، وإن رحلَ، وعن طريق اخرى، هي الفكر والشعر والابداع..
– أما صدحَ – ويصدحُ شعره – كل يوم في قلوب وأذهان كل المتنورين، العارفين دروبهم ومسالك حياتهم ؟.
– أما برحت الاطاريح الاكاديمية، فضلا عن الدراسات والكتابات، والفعاليات الثقافية والفكرية تترى للغور في عوالم شاعر الامتين، ومنجزه الثري؟! .
– الظلاميون ومؤسساتهم، وأفرادهم، وتوابعهم، المتطوعون منهم أو المكلفون ، وحدهم – لا غيرهم – ما فتئوا يسعون، لأطباق صمت مريب عن الجواهري، وحوله، ولا عتاب بشأن ذلك، فلهم كل الحق في ما يفعلون، فالضدان لا يجتمعان : تنوير ومواقف الشاعر الخالد، ودواكن الافكار والمفاهيم …
… في التالي مجموعة مساهمات – ننشرها على حلقات – جاد بها لـ “مركز الجواهري الثقافي” مبدعون ومثقفون وكتاب وأكاديميون، وسياسيون، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لرحيل الجواهري الخالد، في 2017.7.27… وهنا الحلقة الثانية عشرة ، مما كتبه الذوات الأجلاء، مع حفظ الالقاب والمواقع: فيصل لعيبي وكاوا محمود وليث الحمداني.. وعلى ان تصدر جميعها في كتاب عن “مركز الجواهري” في الاسبوع القادم:-
————————————————-
30/ الجواهري في ذكرى رحيله / فيصل لعيبي صاحي*
لم يتفق معظم الشعراء العراقيون على شاعر كما إتفقواعلى الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ودوره المؤثر في الحياة الأدبية والسياسية في العراق والوطن العربي. كما ان عضويته في مجلس السلم العالمي وفي سكرتاريته يضيف بعداً آخر لهذا الدور، حيث تم تزكيته من قبل كل القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية في العراق لهذا الموقع.
عندما بدأ نجم ” أبو فرات ” يعلو كان طه حسين قد تنبه له وقبله أطلق عليه الرصافي لقب : ” ربُ الشعر”، لكن الجواهري في بروزه هذا وجد امامه عقبات و قامات شعرية راسخة،اهمها أمير الشعراء أحمد شوقي و جماعة المهجر اللبنانيين والشاميين وفي العراق كان الزهاوي والرصافي، إضافة الى أن القصيدة العمودية، قد تعرضت لهزّات منذ عشرينات القرن الماضي على يد العديد من الشعراء العرب الذين تأثروا في موجة الحداثة لحركة الشعر في الغرب الأوربي، والذي تمثلت في العديد من التجارب التي لاتتماشى مع إيقاع القصيدة العربية التقليدية، مثل تجربة رفائيل بطي في العراق وعلي محمود طه وجماعة الديوان وغيرهم في مصر، إضافة الى بروز قصيدة التفعيلة او ما يسمى بــ ( الشعر الحر)، في منتصف الأربعينات من القرن الماضي وفي العراق بالتحديد على يد السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري و عبد الوهاب البياتي.
لكن برغم كل هذا كان الجواهري يختلف عنهم في خاصية نادرة لم يكن يملكها معظم الذين يمكن ان يكونوا عقبة كأداء في طرق صعودة المدوي وتربعه على ريادة القصيدة العمودية على إمتداد أكثر من نصف القرن الماضي، ألا وهي قصيدته الموجهة الى الجماهير مباشرةً . فحتى شوقي لم يكن يملك حضوراً كحضور الجواهري الطاغي امام الجمهور، ولا كذلك طريقة إلقائه أوحركات جسدة التي تعطي للكلمات وقعاً عميقاً في نفوس سامعيه. لهذا كان الجواهري وبسبب تربيته الدينية والمنبرية بالذات، يمتلك موهبة الممثل والخطيب والمرشد معاً.
ومن ميزاته التي بزّ بها غيره أيضاً، مواكبته للأحداث التي مرّ بها العراق والعالم العربي وحتي احداث العالم، وهو هنا يقترب من شوقي في هذا المجال وقد يتساوون في شدة ملاحقتهم للأحداث عموماً. لكنه كان يضفي على قصيدته تلك المسحة التراجيدية والعاطفية ،التي تهيج الجمور وتجعله يتعاطف مع القصيدة والشاعر معاً.
كان أبو تمام والمتنبي أهم الشعراء الذين تأثر بهم الجواهري، وهو بسبب من تناوله للأحداث السياسية والإجتماعية الهامة في عصره، قد ساهم في مد عمر القصيدة العمودية وأعطى لها موضوعاً مميزاً و نكهةً مختلفة، فأكد على إمكانية عيشها حتى بعد ان تخلى عنها معظم الشعراء العرب المعاصرين.
والجواهري كما هو شوقي يملك قاموس كلمات وصور ودلالات جعلته يحوز على إحترام حتى المعارضيـــن لنهجه وطريقة كتابته للقصيدة. ولاحاجة لنا اليوم في إعطاء امثلة على شاعريتـــه ومواضيعــــه المميزة، ودرجة دقتها وحرارته العاطفيـــة والفكرية وموقعها الإنساني الرفيع.
* فنان تشكيلي، وكاتب
31/ شرف كبير أن يتحدث كردي عن الجواهري/ كاوه محمود*
عندما اتصل بي مركز الجواهري في براغ، وشرفني بالمشاركة في الكتابة عن الذكرى العشرين لرحيل الحاضر دوما في محراب الادب العربي، الذي تسلم الراية من المتنبي ولم يستطع أحد حتى الآن أن يستلم منه تلك الراية، الجواهري الكبير، الحاضر دوما في ضمير الشعب الكردستاني، وافقت بدون تردد.. ولكن عندما هممت بالكتابة ترددت لأنني وافقت على أداء مهمة صعبة.
حقا ان الكتابة ولو كانت لبضعة أسطر عن شاعر كبير شاغل الدنيا في التاريخ المعاصر للعراق، وأحد الاعمدة الرئيسة للأدب العربي، وللشعر العربي مهمة صعبة. وكيف لا وان الكثيرين من الاساتذة كتبوا اطروحات ورسائل دكتوراه، ناهيك عما كتبه ويكتبه النقاد والضالعون في الثقافة عن هذا الصرح الكبير. وحسمت ترددي بعد تشجيع “المركز” لي.
ويبدو ان ما يشغل ذهن المواطن الكردستاني والمخاض الملازم لنضال الشعب الكردستاني لإنجاز حق تقرير المصير، والحديث عن اجراء الاستفتاء موضوعة فرضت نفسها وانا المكلف بالكتابة عن الجواهري الكبير.
الشعوب المناضلة من أجل التحرر اضافة الى أهمية قدراتهم وامكاناتهم الذاتية بحاجة دوما الى أصدقاء حقيقيين يتضامنون مع كفاحهم، والجواهري كان صوتا واضحا في هذا المجال فطالب بحق الكرد وتضامن مع نضاله الدؤوب. اليس هو القائل:
سـلـَّـم على الجـبـل الأشــم وأهلـِـه، ولأنت تــعــرف عـن بــنـيه من هـُمُ
وتـقـصَّ كـل مـدبَّ رجلٍ عنده، هـو بالـرجــولـة والشـهـامة مُـفعَـمَ
والثم ثـرىً بـدم الــشـهـيد مخضبا عـبـقاً يـضـوع كـما يـضـوع الـبرعمُ
واليوم عندما يتوجه الشعب الكردستاني نحو حق تقرير المصير فان أساس هذا التوجه مبني على اقامة أفضل السبل لتعايش شعوب المنطقة، وتحقيق سلام دائم يضمن الامن والاستقرار.
الجواهري كان وسيبقى صوتا صادحا، ويبقى صرحه الكبير القائم في اكبر منتزهات “اربيل” شامخا، مشيرا الى صداقة أبدية وتضامن دائم من شاعر كبير لم يتراجع عن رأيه، وتضامنه، وقصيدته التضامنية، كما فعل البعض. وكان هذا الموقف متوقعا لان الجواهري قمة شامخة ما أحوج شعبنا الكردستاني الى قامات يخطون نهج الجواهري الكبير.
* اكاديمي وسياسي
32/ شاعر اخترقت قصائده اسوارالطغاة / ليث الحمداني*
على مدى سنوات عمره الحافل بالعطاء وحب العراق والمنفى كانت قصائد الجواهري الخالد تخترق كل الاسوار والقيود التي يصنعها الحكام لتستقر كلماته في عقول وقلوب العراقيين الذين احبوه فتحيي في مشاعرهم المصادرة الامل، الحب، والثورة ..
نهاية الاربعينات كان الجواهري خارجا من حصاره في الوطن بعد رائعته (ايه عميد الدار..) قاصدا دمشق ليشدو مؤبنا عدنان المالكي الذي اتهمت الحكومة العراقية يومها بالمشاركة في التخطيط لاغتياله ..
خلفت غاشية الخنوع ورائي، واتيت اقبس جمرة الشهداء
ومن خلف اسوار نظام الحكم الملكي الذي انصفه الجواهري فيما بعد (1) يلتقط احد ابرز محرري الصحافة العراقية يومها، ابراهيم علي، من اذاعة دمشق فتأخذ طريقها للنشر في جريدة (الزمان) البغدادية حيث يعمل لتتخاطفها الايادي ساعة الصدور وتنتشر القصيدة كالنار في الهشيم وتصبح على كل لسان ، ضربة صحفية لصحفي محترف يذكره كل من عرفه من صحفيي ذلك الزمان و(جرة اذن) لاغير لصاحب الجريدة النائب في برلمانات العهد الملكي توفيق السمعاني ، تخيلوا عهدا يكتفي فيه الحاكم (بجرة اذن) لنائب يمتلك جريدة نشرت قصيدة قال فيها الجواهري الكبير(2) :
اضحية الحلف الهجين بشارة، لك في تكشف سوءة الهجناءِ
اسطورة الاحلاف سوف يمجها، التاريخ مثل خرافة الحلفاء ..
قالوا تعاقدنا فقلت هنئتم، بقران فرط خنا بفرط غباء
في الستينات وفي مطلع العهد الذي مجده الجواهري الخالد بروائعه وتغنى بصانعه (جيش العراق) يرحل الجواهري مضطرا للمنفى، فالعسكر لايحتملون (الرأي الاخر) وفي الطريق يعبر الشاعر عن مرارته من الضيم الذي لحقه من (الثوار) فيشدو في حفل تكريم الاخطل الصغير :
ابشارة وبايما شكوى اهزك ياحبيبي
شكوى القريب الى القريب ام الغريب الى الغريب
هل صكّ سمعك انني، من رافدي بلا نصيب
وتنشر القصيدة في بغداد وتعيش كلمات الجواهري مع الناس رغم (العسكر) ..
بعد انقلاب الثامن من شباط الدموي في عام 1963 ورغم كل القمع وتقييد الحريات تصل قصيدة الجواهري التي اهداها للصحفي اللبناني امين الاعور، التي شتم فيها الحكام الدمويين مخترقة الاسوار وتوزع كمنشور سري حكمه الاعدام ، و يذكر الزميل الراحل محمود الجندي الذي رافق الجواهري محررا في جريدته (الرأي العام) : (كنت موقوفا يومها رغم انني لم اكن منتميا لاي حزب سياسي ،كان توقيفي لانني كنت قبل عقدين من الزمان شيوعيا ولانني اسميت ابني البكر (لينين) وفي الموقف وصلتنا القصيدة مكتوبة بقلم الرصاص رغم كل ذلك الارهاب والموت ، اي تعبير اكبر من هذا عن حب شعب لشاعره.
في الثمانينات وبعد سنوات من السعي المحموم لسلطة البعث للاساءة للشاعر وتاريخه الوطني ترافقها محاولات لترغيبه بالعودة ، تختفي دواوينه من المكتبات (منع غير رسمي) فتباع كما المحظورات بالسر وتخلو مناهج الدراسة من قصائده و…… و….. فيكتب رائعته (يابن الثمانين) وكان للجواهري في الوطن دوما (رواته) و(مريديه) الذين يحرصون على تلقي جديده على الدوام ،بعضهم كان يحتفظ بالجديد لنفسه خوفا (وليس الخوف سبة في ظل نظام لايعرف الرحمه ويحكم بالتقرير والوشاية) وحده الراحل الكبير صلاح خالص، تسلمها من الجواهري وبجرأته المعهودة دفعها للنشر في مجلته (الثقافة) وصدر العدد ونفذت نسخه خلال ساعات بل ان البعض باعها باضعاف ثمنها قال لي صديقي المكتبي حسن ضايع لم استطع ان احتفظ بنسخة لنفسي فقد بيعت النسخ بساعة واحدة حول صلاح خالص اصدار طبعة ثانية من العدد الا ان المطبعة الحكومية وضعت امامه العقبات، تلك القصيدة دقت مسمارا في نعش مجلة جريئة افنى الراحل ومن بعده شريكة عمره، سعاد محمد خضر ليجعلا منها (كوة) تنفذ منها بعض الاصوات الديمقراطية في ذلك السجن الكبير (الوطن) .
كان الجواهري في قلوب الجميع .. اذكر ان احد مستشاري السوء اقترح على نقيب الصحفيين العراقيين يومها، الراحل سعد قاسم حمودي، فصل الجواهري من النقابة من من فصل من الشيوعيين واليساريين الذين غادروا العراق بعد انهيار تجربة الجبهة يومها دخل الصحفي القديم وائل السعيدي، وكان مخمورا (والخمر تفتح عقدة اللسان) ووجه حديثه لسكرتير النقابة قائلا :ستجعلون من انفسكم مهزلة هل هناك نقابة في العالم تفصل مؤسسها ؟.
بعد كل تلك السنوات تصفحت قبل ايام موقع نقابة الصحفيين على النت علي اجد صفحة مكرسة للجواهري تحمل تاريخه الصحفي فلم اجد . يبدو ان اختزال التاريخ مازال يعشعش في العقول الصغيرة التي لاتدرك اهمية التاريخ !!.
* كاتب واعلامي
1/ الجواهري جدل الشعر والحياة د. عبدالحسين شعبان الصفحة (151)
2/ كما حدثنا زميل معاصر لتلك الحادثة..
——————————————–
* / يتبع / مع تحيات مركز الجواهري www.jawahiri.net