الرئيسية / دراسات ادبية وعلمية / فوضى العالم وأثرها في رؤيا الشاعر , قراءة في مجموعة ( إننا معاً ) للشاعر زهير البدري

فوضى العالم وأثرها في رؤيا الشاعر , قراءة في مجموعة ( إننا معاً ) للشاعر زهير البدري

السيمر / الاثنين 06 . 11 . 2017

د. رحيم الغرباوي

الشاعر زهير البدري

يبدو أنَّ الفلسفة لها دور كبير في تحرير الذهن من الحواس على الرغم من أنها تضعف الخيال وتكبِّله ؛ كونها تتعامل مع المنطق بفرضيات العلة والمعلول , فالفيلسوف هو عقل العالم ومرآة رؤاه وأفكاره , فأحكامها قائمة على التفكير , ويختلف عن الشاعر , بوصف الشاعر الذي يعظِّم ويكمِّل بمقدار انحصاره في الخاص المُعيَّن , كما أنَّ الشعر يطربه أنْ يجسِّم العقل ؛ لأن أحكام الشعر مشتقة من الحواس والعواطف , أما الشاعر هو قلب العالم المُغرَق بالإحساس , والدافق بالعواطف ولا يمكن أن يتحقق هذا التمثيل للعالم من دون هذه الثنائية (عقل وقلب)(1) .
ويبدو أن ننظر إلى رؤيا الشاعر المعاصر في ظل التحديات الكبرى بعد سقوط السرديات الكبرى لعالم مابعد الحداثة , فقد أخذت ” تناقضات الواقع وجماليات الحياة تتعايش على سطح واحد : الليبرالية مع تفجّر الحروب المبعثَرة في العالم , والديمقراطية مع مظاهر الاستبداد , و حرية الانسان مع تجارة الرِّق والجنس والموت , والمجتمع المدني مع الجماعات الدينية المتطرِّفة , حتى صار العالم ينزع نحو التفكك والتشظي والانقسام على ذاته ” ( 2 ) , فنرى الشعر هو الآخر تزعزع أمام التغيرات الناجمة عن فوضى العالم وخراب الحياة في كلِّ مجالاتها ونواحيها .
وأدباؤنا لاسيما منهم الشعراء من نراه ينزع نزعةً وجودية , ومنهم من ألقى بنفسه في فضاءات الرومانسية الرحيبة , و بعضهم الآخر ظلَّ ينازع هموم الواقع ورومانسية الخيال , نجده يتذوق الحالتين وفي كليهما يجد العناء ؛ كونه يرى الأمل مفقوداً ؛ بوصف عالم الحلم هو الآخر لا يمنحة إلا تراجيدية الزمن المضاع .
وشاعرنا زهير البدري واحد ممن احتضرت روحه من ذلك الواقع , فانتابته نوبات من الشعر أجَّجتْ فيه صراعاً قاسياً , إذ نجده بين صدمتين : صدمة الشعور بالوطن المضاع , والأخرى إحساسه بزمنه الجميل الذي لم يدركه إلا في عالم المُتخيَّل , لكنه ليس بوسعه الإمساك به ؛ لخداع المخيلة التي تتأبى أن تأتي بحقيقة الأشياء كافتراق نظرة الفلسفة عن رؤية الشعر , فالشعر لديه عالمه الأثير الذي به صار ينقد غضاضات ولواعج أحداث الواقع , وفلوات العالم المجدب الذي يعيشه في الخيال كروضة غنَّاء يستشعر جمالها ويتنقَّه بفضاءاتها الطروبة التي تأخذه إلى مرافئ غناه المتخيَّل .
فنراه يقول :
دعيني
أرقد في ملكوتِ سحرِك ,
وبحر عطائك لاينضب
فأنا محرومٌ سيدتي
من فيض جنانكِ لا أشبع .
نجد الشاعر يؤول باهتمامه ويطلب حنان الفقد , فهو لايشبع وإن حصل على ذلك الحنان ممن يحب ؛ كونه يعيش غريباً لا حظوة يراها ولا قرار يجعله آمناً وهل غير الوطن أهلٌ تستريح تحت ظلاله النفوس ؟ , ولعلَّ الهموم اجتاحته ؛ ليعلن عما يستشعره تجاه الوطن السليب من روحه , فهو يقول في قصيدته ( رسالة موجَّهة ) :
إلى أبينا نوح
جهِّز سفينتكَ
وخذنا بعيداً عن هذه الدار
الطوفان قادمٌ لامحالةَ
يُغرق الأخضر واليابس
لاتنسنا
وارحمنا أيُّها الرسول !
فهو الذي يتنبَّأ بمستقبلِ ليس فيه غير الدمار والضياع بإشارة منه إلى سفينة نوح التي هرع بها من أراد النجاة من الطوفان ذلك الذي أهلك الأخضر واليابس , هي دعوة الشاعر إلى منقذ يخلِّص العالم ممن يحيك له الدسائس ويعرِّضه للمخاطر , فنجد النزعة التشاؤمية تشيع لدى شاعرنا , فنراه يتساءل :
هل يمكن العيش في عوز
أو العيش بلا حبّ ؟
هل يمكن العيش بلا سكن
لا أعلم فعلاً
لكنِّي
أجزم بلا وطن !
مستحيل العيش
بلا وطن … والباقي رهن الجدل !
فالشاعر يرى نفسه مكبَّلاً ؛ نتيجة ما يحيط به وبمستقبله لذلك , فالشعر لايقدر ” أنْ يتفتح ويزدهر إلا في مناخ الحرية الكاملة حيث الإنسان مصدر القيم لا الطبيعة , فالإنسان هو الكلي على الإطلاق والحقيقة كما يقول محيي الدين بن عربي ( 3) والشاعر العراقي اليوم يعيش صدمتين هما صدمة الغربة من داخله والأخرى من خارج ذاته , فيشعرنا أنَّه ضائع كما هم أبناء بلده بعدما غرَّتهم وغررت بهم لافتات التغيير , فنراه يعمه كلَّ شيء إلا عواطفه التي ما زالت تلهج بالحبيبة ( الوطن ) , فهو يقول :
كُلِّي عندكِ
وماذا بعد !
لقد منحتُكِ كلَّ شيء
لم أحتفظ بشيء لي
سوى روحي
هي أيضاً لكِ
أيكفيك ؟ !
ما عندي نفد
فارحلي
أو
امكثي لتهبيني حياة .
هكذا هي محنة الشعراء والمثقفين , فهم يرون أنَّ أحلامهم لن تتحقق وذهبت أدراج الرياح , فهم يعيشون في دنيا الخيال واللامعقول , وهو هروب من واقعٍ حكم عليهم بالضياع , وكما يقول كيتس أنَّ الشاعر ” هو المفتون الأكبر بالموت ” (4) وقد يعيش في الفجيعة ؛ مما جعل البياتي يقول : ” لو لم يكن هناك موت لما كان الشعر ضرورة فالشعر نزوع للأبدي , وهذا النزوع ارتداد مضاد لوقتية الحياة التي يحياها الشاعر ” (5) لهذا نجد شعراءنا يعيشون آفاق الصدمة بدقائق تفاصيلها ؛ مما يجعلهم يعيشون موتاتهم التي تحيا بها الكلمات , وهي تقارع حقيقة الواقع المأزوم .

(1) ينظر : دراسات في الشعر والفلسفة , د سلام الأوسي : 9
(2) سرد ما بعد الحداثة , عباس عبد جاسم : 83
(3) زمن الشعر , أدونيس : 43
(4) الزمن في الشعر العراقي المعاصر , د. سلام الأوسي
(5) دراسات نقدية في الأدب الحديث , عزيز السيد جاسم : 272

اترك تعليقاً