السيمر / السبت 20 . 01 . 2018
د . كاظم حبيب
اتمتع بقراءة مقالات الزميل الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح التي تجمع بين علم النفس والسياسة والمجتمع. والتمتع لا يعني الاتفاق التام مع الكاتب أو الموافقة على ما جاء في مقالاته. أحياناً أجد فيها الأحكام المطلقة التي لا تتناغم مع الرؤية النسبية للأمور، أو القناعة التامة بامتلاك الحقيقة كلها، والتي تتعارض مع العلم، ولكنها تتوافق مع كتابات العقدين الخامس والسادس وربما السابع أيضاً من القرن العشرين. ومقاله الأخير يشفع لي في مثل هذه استنتاجات عن مقالاته، مع إن فيها طعم التشويق والإثارة. لقد تعلمت في حياتي العلمية والسياسية أن أكون حذراً في أحكامي من جهة، وأن ابتعد عن القناعة بأني أمتلك الحقيقة أو الحق فيما أكتب من جهة أخرى. ولكن هذا لا يعني أني لم أرتكب أخطاءً في مثل هذه المسيرة السياسية والدراسية الطويلة نسبياُ حيث يقترب عمرها تدريجاً من سبعة عقود.
أخر مقال قرأته للزميل البروفيسور د. قاسم حسين صالح كان بعنوان “الانتخابات العراقية.. هوس وفوضى وتيئيس – تحليل سيكوبولتك”، نشر في موقع الحوار المتمدن، العدد 5759، بتاريخ 16/01/2018، كما نشر في مواقع عديدة أخرى، تطرق في هذا المقال عن الهوس السياسي والفوضى السائدة بالعراق قبيل الانتخابات العامة القادمة، مشيراً إلى عدد القوائم والتحالفات السياسية، إضافة إلى التحالف، ولأول مرة، بين حزب ماركسي، هو الحزب الشيوعي العراقي، وحزب سياسي ديني، هو حزب الاستقامة، الذي يقوده ويشرف عليه السيد مقتدى الصدر، ثم يشير إلى دور المحللين السياسيين إلى نشر عملية التيئيس الجارية في الساحة السياسية العراقية، ثم يتطرق إلى أثرها السيكولوجي الإحباطي على الناخبين. فقد ورد في المقال النص التالي:
“ان محللين سياسيين أخذوا يشعيون عبر الفضائيات (سيكولوجيا التيئيس) بأن نتائج الانتخابات ستاتي بنفس الفاسدين، دون ان يدركوا انهم بعملهم النفسي هذا يرتكبون خطيئة وطنية، ولا يدركون ان وسائل اغراء وخداع الناخب العراقي (قطعة ارض، بطانيات، موبايلات، فلوس..) ما عادت تجدي الفاسدين نفعا، مع علمنا بعدم عدالة قانون الانتخابات ومحاولة الفاسدين الدخول في قوائم بمساومات (تزكية).
ونصيحة من شخص قضى نصف عمره في (السيكولوجيا).. ان ارتباك المشهد السياسي الآن هو لصالح المواطن ان توقف المثقفون عن اشاعة ثقافة الأحباط واجاد الآكاديميون والكتّاب السياسيون فن اقناع الناخب بأن زمن سقوط السياسيين الفاسدين قد بدأ، وان 2018 ستشهد تشكيل محكمة لمقاضاة الفاسدين تنقل احداثها الفضائيات لتعيد احياء الضمير الاخلاقي الذي اماته قادة احزاب الاسلام السياسي الذين اعتبروا الوطن غنيمة لهم فنهبوه، وافقروا شعبه وأذلوه.. وليثبتوا من جديد بأن تاريخ العراقيين يؤكد بأنهم ما استسلموا لضيم وما رضخوا لظالم ولا انبطحوا لسلطة، وسترون بأن الاحداث ستثبت.. ان غدا لناظره قريب.”
يتضمن هذا النص مسائل عدة تستوجب المناقشة:
1.هل يحق لنا أن نتفاءل أو نتشاءم دون ممارسة استخدام المنهج العلمي في التحليل والاستناذ إلى الواقع العراقي المعاش فعلاً، وهل هناك تفاؤل مطلق أم تشاؤم مطلق؟
2.ويقول إن محللين سياسيين يشيعون عبر الفضائيات سيكولوجية التيئيس؛
3.ويؤكد بأن على المثقفين، ويقصد بهم كل المثقفين الديمقراطيين، دون استثناء، أن يكفوا عن المشاركة في الإحباط؛
4.ثم يقول بأن الإغراء المالي والعيني (قطعة ارض، بطانيات، موبايلات، فلوس..) لم يعد يينفع مع الناخبين وما عادت تجدي الفاسدين نفعا؛
5.ويؤكد: وإذا ما كف المثقفون عن إشاعة الإحباط، فأن تجربة نصف عمره ستثبت، بأن ارتباك المشهد السياسي الآن هو لصالح المواطن العراقي.
المقال الصحفي الذي كتبه ونشره الزميل قاسم لا يتضمن تحليلاً علمياً وواقعياً للوضع العراقي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي القائم، ولا لأوضاع الإقليم وسياسات الدول المجاورة، ولاسيما إيران، ولا للوضع الدولي، ولا لطبيعة تشكيلة مفوضية الانتخابات “المستقلة!”، ويشير فقط إلى “عدم عدالة قانون الانتخابات”، ولكن المقال والحق يقال يحمل نوايا حسنة، والطريق إلى جهنم، كما هو معروف، معبد بالنوايا الحسنة، ويجسد رغبة إنسانية صادقة صوب التغيير. ولكن هل يمكن لباحث وكاتب علمي مميز مثل الزميل قاسم، قضى نصف عمره في هذا المعمعان، حسب قوله، أن يخرج بمثل هذه الخلاصة والاستنتاجات السريعة؟ قناعتي الشخصية تقول: لا يجوز ذلك، إذ أن ما تضمنه المقال يعتبر ضمن الأحكام المسبقة التي لا تستند إلى تحليل علمي وخال من الأدلة المادية التي تسهم في إشاعة التفاؤل، بل هو تعبير عن رغبة ذاتية طيبة ولكنها مبسطة إلى ابعد الحدود، بحيث يصعب على إنسان اعتيادي تقبلها، فكيف بنا وهو يخاطب المثقفين الديمقراطيين العراقيين والعراقيات، يخاطب العلماء والمختصين بعلوم النفس والسياسة والاقتصاد والاجتماع. إن إشاعة التفاؤل على أرضية غير واقعية تضعف التوجه للعمل وتعطي الانطباع وكأن هذا الهوس وتلك الفوضى في الواقع السياسي والانتخابي العراقي هما لصالح القوى الديمقراطية والتقدمية وليس في صالح القوى الإسلامية السياسية الطائفية التي حكمت العراق منذ أكثر من 14 عاماً. والتفاؤل المفرط، على الطريقة التي طرحها الزميل قاسم، هو الرديف للتشاؤم المفرط في الواقع السياسي الجاري بالعراق. التحليل العلمي هو وحده القادر على تقديم صورة إلى حد ما واقعية على ما يمكن أن يحصل أثناء الانتخابات القادمة.
فالمؤشرات التي تحت تصرفي والتي طرحتها في مقالي الموسوم “لماذا ولمصلحة من يراد تكريس النظام السياسي الطائفي عبر الانتخابات العامة 2018؟” والمنشور في الحوار المتمدن ومواقع أخرى بتاريخ 17/01/2018، تشير إلى الواقع التالي:
** القوى السياسية الإسلامية الطائفية خسرت الكثير من سمعتها ورصيدها، ولكنها لم تفقد كل قواعدها، بل هي ما تزال تمتلك تأييداً شعبياً، ولاسيما ببغداد وبمحافظات الوسط والجنوب، وقادرة حتى الآن على استخدام الدين، لتغطي به مفاسدها وموبقاتها والسحت الحرام الذي يدخل جيوبها، والمال الذي ما يزال بمقدوره خداع الكثير من الناس، والجار، الذي يهيمن على السياسة العراقية حالياً ودور الجنرال قاسم سليماني ووصاية المرشد الإيراني، في كسب الناس إلى جانبها. ويمكن أن نتابع ما ينظمونه من مسيرات لزيارة الإمام الحسين وما يصرف من أموال في هذا المجال وما يطرح فيها من دعايات عدوانية ضد القوى الديمقراطية في المساجد والجوامع والحسينيات. وعلينا أن ننتبه إلى أن وكلاء المرجعية، ولاسيما عبد المهدي الكربلائي، بدأوا يروجون بوضوح كبير إلى ما يماثل ولاية الفقيه بالعراق، وإلى الالتزام بتوصيات المراجع العظمى التي تعني أولاً وقبل كل شيء تأييد القوائم التي تؤيدها المرجعية والتي ستطرح التأييد لا من خلال المرجعية مباشرة بل من خلال وكلاء المرجعية (اقرأ في هذا المجال مقال الدكتور رشيد الخيون بعنوان “ولاية فقيه.. فلماذا ينتخب العراقيون!”، المنشور في جريدة الاتحاد الإمارتية، يوم الأربعاء المصادف في 17 يناير 2018).
** نسبة عالية من الجماهير ما تزال تعاني من البطالة الموجعة والفقر وصل نسبته إلى أكثر من 40% من القوى القادرة على العمل، والذي يعني نسبة عالية من سكان العراق، وكذلك الأفراد ذوي الدخل المحدود جداً، الذين يمكن أن يلعب المال والمواد العينية دورهما في شراء ذمم الناس وهم تحت سياط البطالة والفقر والحرمان، إضافة إلى ضعف الوعي بعواقب ذلك. فلا يحق لنا أن (نذرع بالجنة”، ولا الأخذ بقاعدة “الهور مَرَگ والزور خواشيگ” كما يقول المثل العراق النابت! الفقر والحرمان والنوم بدون عشاء كان يفترض أن يدفع بالناس إلى الثورة. لنتذكر القول المنسوب لأبي ذر الغفاري “عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج للناس شاهرا ً سيفه”. ولكن هذا غير موجود ولا يكفي أن نشيّم الناس، فرغم التحسن النسبي في وعي الناس، ولكننا لم نستخدم قدراتنا أو لم تتوفر الظروف المناسبة لاستخدام قدراتنا في رفع مستوى الوعي عند الكثير من الناس الطيبين الذين على عيونهم ما تزال غشاوة شيوخ الدين غير المتنورين والغشاشين والرثين العاملين في الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية التي ما تزال تزيف وعي الناس! لقد صدق رفيقي الأستاذ رضا الظاهر حين كتب مرة يقول إن عملنا هو شبيه بـ “الحفر أو النقر في الصخر”.
** أعرف تماماً بأن إيران متغلغلة في العراق كله، ابتداءً من السليمانية ومروراً بكركوك وبغداد، وانتهاءً بمحافظات الوسط والجنوب، متغلغلة في السياسة وفي الأوساط الدينية والكثير من منظمات المجتمع المدني وفي الحشد الشعبي قيادة والكثير من القواعد التي كانت في السابق جزءاً من المليشيات الشيعية الطائفية المسلحة، وفي الاقتصاد العراقي وفي النسيج الاجتماعي الشيعي. وهذا التغلغل مقترن بالإعلام والمال والقادة السياسيين للأحزاب الإسلامية السياسية والمليشيات الشيعية المسلحة، عدا الصدريين، وبعض القوى القومية الكردية والعربية، إضافة إلى دور كل من تركيا والسعودية والخليج في هذا الصدد، ولاسيما على القوى والأحزاب السنية، إضافة إلى دور داعش الإجرامي في التخريب.
** إن القوى الديمقراطية، اليسارية واللبرالية والمستقلة والمتدينة المتنورة على مستوى العراق كله ومن العرب والكرد وبقية القوميات، ما تزال متفرقة وغير موحدة، وهذا الواقع يضعفها ولا يعزز قدارتها في مواجهة قوى الإسلام السياسي الطائفية والفاسدة الحاكمة. إن الاتفاق بين الشيوعيين والصدريين ربما يأتي بنتائج معينة إيجابية في صالح القوى الديمقراطية المشاركة في التحالف الجديد “سائرون”، ولكنه في الوقت ذاته جزأ القوى التي كانت موحدة في التيار الديمقراطي العراقي ومن ثم في “تقدم”، كما إنه لم ينجح الجميع في كسب الكرد إلى جانب القوى الديمقراطية، التي كان وما يزال يفترض أن تكون هذه القوى حلفاء لبعضهم في مواجهة الوضع الإسلامي، ولاسيما بعد كل الذي حصل بالإقليم والذي كان المفروض أن يفتح آفاقاً للتعاون لتجاوز النكسة التي تعرض لها الكرد بسبب سياسات الأحزاب الكردستانية والحكومة وبسبب سياسات الحكومة الاتحادية في آن واحد!
** وأخيراً وليس أخراً، فأن قانون الانتخابات السيء الصيت سيساهم في تزوير إرادة الناس وتصويتهم، إضافة إلى دور المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في التزوير المحتمل التي شكلت على أساس المحاصصة الطائفية، ورفضوا بإصرار وقح تغييره بصورة ديمقراطية لصالح الناخب العراقي ونزاهة المفوضية.
هذه الوقائع ينبغي أن تكون أمامنا ونحن نبحث في الوضع بالعراق وأن نقدر بدقة نسبية قدرة المجتمع على تجاوز المحنة الراهنة في وجود هذه القوى التي عرضت العراق لكل الكوارث والمآسي والموت والفقر والفساد والإرهاب حتى الآن على رأس السلطة التنفيذية وفي مجلس النواب والقضاء والادعاء العام. فالتفاؤل المفرط الخالي من مضمون مضر مثل التشاؤم المفرط، وعلى عاتق الباحثين والسياسيين والإعلاميين تقع مهمة تقدير الأمور بواقعية عقلانية، والدكتور قاسم وأنا ضمن من يشملهم ذلك.
هل يعتقد الزميل قاسم حقاً إن الحديث المتفائل في مقدوره وحده أن يحقق النصر المبين عل القوم الفاسدين؟ هل ما زلنا نؤمن دون أرضية مناسبة “تفاءلوا بالخير تجدوه”؟ أو كما كنا نهتف في العابنا الرياضية: گله .. گله .. گله فيسقط الفريق الذي لا نؤيده.
نحن أمام واقع يستوجب العمل الكثيف، العمل بخمسة اتجاهات هي:
1.تعزيز التحالفات الوطنية الديمقراطية وتمتينها من خلال بلورة مواقف مشتركة وبرنامج مشترك يضم القوى المدنية الديمقراطية، اليسارية منها واللبرالية، والقوى المستقلة والمتدينة التي تعتقد بضرورة فصل الدين عن الدولة والمناهضة للطائفية السياسية وتؤكد مبدأ المواطنة العراقية المتساوية والموحدة والمشتركة. أن تكون هذه الوحدة على مستوى العراق كله ومن كل القوميات.
2.تعزيز عملنا المشترك في صوف المجتمع العراقي، لاسيما بين الكادحين والمعوزين ومن ذوي الدخل المحدود الذين يعانون من البطالة والفقر والحرمان والعوز الدائم، في مقابل وجود قوى في الحكم وحواشيها تغتني يومياً على حساب الشعب وأمواله ومستوى معيشته المتدني ومستقبل الأجيال القادمة.
3.استخدام خطاب عقلاني جديد من جانب القوى التي يهمها التغيير ويمتلك القدرة التنويرية والحداثة المناسبة التي تتناغم وفهم الناس لهذا الخطاب الشعبي المناسب وتنشيط منظمات المجتمع المدني والنقابات في هذا المجال أيضاً.
4.فضح القوى والأحزاب السياسية الإسلامية الطائفية وليس مجاملتها بخطابنا السياسي، إذ إنها مرَّغت كرامة الإنسان العراقي بالتراب وتسببت في موت مئات الألاف من الناس الأبرياء.. الخ، وفضح من يقف خلفهم ويؤيدهم من شيوخ الدين غير المتنورين والساعين إلى إقامة حاكمية الله والولي الفقيه بالعراق والداعمين لقوى الإسلام السياسي الطائفية المقيتة.
5.فضح القوى والدول الأجنبية التي تتدخل يومياً في الشأن العراق وتساهم في صرف الملايين من المال لدعم قوى الإسلام السياسي وأحزابها وشخصياتها الطائفية التي تعبر عن أهدافها المريضة في السيطرة على العراق وعلى سياساته وموارده وحرمانه من الاستقلال والسيادة الوطنية.