السيمر / الأثنين 26 . 03 . 2018
د. رحيم الغرباوي
الشعر مملكة الروح وموطن الوجدان , يقوم الشاعر به على أساس التوازن النفسي , فحينما يكون بحاجة إلى قوة يحاول أن يستوحي رموزاً تتسم بالقوة والشجاعة , وإن كان عاشقاً يتقنع برموز الحب والعاشقين , أما إنْ كان حزيناً , فنجده يتلبَّد برموز العتمة والاكتئاب , وإذا شعر بالفرح , نراه يتوشح أردية الطبيعة الخلابة ورموزها المعبِّرة عن روح الجمال وخضرتها الوارفة , وقد وجدت تلك الرموز صدىً مدوياً في العلوم الإنسانية وفي الإبداع الأدبي , ولاسيما عالم الشعر , باعتبار الشعر ينطلق من رؤية عميقة للوجود , ويبدع تصوراً متجدداً له .
ولعل العالم اليومي كما يصفه كولن ولسن :بأنَّه يجرّنا معه مثل عبدٍ رقيق خلف عربةِ قائدٍ مُنتَصر , هكذا إحساس الشاعر أمام ضغوطات الحياة وتماهيات النفس مع أحداثها , ويبدو الشاعر وهو يتعامل مع موضوعاته يستقي لها لغة تعبيرية خاصة يكلل بها , وبمجرد ماتستحيل إلى أداة شعرية , فإنها تكسب قيمة في ذاتها كونه يمنحها شيئاً من المهابةِ والوقار .
وقصائد الأساطير منحتْ الشعر تجلياته التي من خلالها يمكن للشاعر أن يبوح بما يروم من معانٍ , وهو يحاكي الحياة من خلال ما يمنحها سر طرافتها , ويفصح عن مكنونات أسرارها . كما أنَّ النص الإبداعي هو من يستدعي قراءته على وفق منهج ملائم , ومن جميل ما يمكن أن يقرأه منهجنا في التلقي قصيدة الشاعرة باسمة المشهداني التي ألحَّت على الرمز الأسطوري ؛ لتمنح قصيدتها متخيلاً عميقا ينسجم وروح العصر الذي نعيشه ؛ فهي تقول في قصيدتها ( حينما يكون ساحو في مرمى الياسمين ) :
افتحي عينيك أيَّتُها الآسرة ,
لقِّني المحبِّين معنى الهيام
انطلقي أيَّتها الفرعونية
اسحري ساحو بعنف اللقاء
كان ومضاً وشرراً من تناد
انشدي قصيدة اللقاء
اطلقي سحر شَعرك الأسود بعتمته
أضيئي سواد الليل بإنوثتك
يا أنتِ يافرعونيةٌ ألمَّتْ بإهرام المدن الساهرات
على قوافي الطائفين بمعاريجهم .
وهي تعلنُ عن إلهٍ جديد
اسمهُ فاتنة النيل .
فالشاعرة تمازج بين صورٍ متعددة الألوان فـ ( ساحو ) إله كوكب جبار في الأساطير الفرعونية , شرُّه يلتهم الآلهة ثلاث مرات في اليوم , بينما شاعرتنا تعبر عن هوية القوة الأنثوية التي باستطاعتها أن تذيب أعتى قوة في العالم فالجمال الساحر والأنوثة الخلاقة كفيلة بأن تجعل من الصلد رخواً , ومن النار رماداً , ومن الموتِ حياة ، بيد أننا نجد رمز المرأة في القصيدة قوَّة جبارة تلتهم بنضارتها وحشية الشر , لتؤسس للحياة توازنه واستقراره بعدما حاقت به يد الطيش والهمجية , فهي تدعو إلى روح السلام من خلال صوت رقيق ليس فيه حِدَّة أو جفاء , ينعش الحياة سلاماً يرفل بالعذوبة والنماء .
أما في قصيدتها الأخرى ( رفيف من سحر بابل ) التي تقول فيها :
بعيونٍ كحلاء سومريهْ
بأناقة الروح الأكديهْ
بقوَّة المرأة السومريهْ
وبسحر المدائن اللكشيهْ
خرجتْ أميرةٌ عراقيهْ
تحدَّتْ الفينيق المبجَّل في روما القيصريهْ
إنَّها ولدتْ من روحِ حضارةٍ أزليهْ
في موكبٍ آشوري مدَّ يدهُ لآخر غروبِ الشمس
إنَّه كِبرُ المرأة العراقيه .
فالشاعرة تستجمع روح الحضارات التي انبثقت من أرض السواد على مدى تعاقب التواريخ ومسافات الزمن التي ما تزال معالمها شامخة إلى يومنا ، فتموت حضارة لتولد حضارة ؛ لذا عددت الشاعرة تلك الحضارات ، ونعتتها بالقوة والجمال باعثةً من تلك الحضارات العريقة امرأةً عراقية يتهيب منها الفينيق رمز الانبعاث عند الرومان واليونان كونها خُلقتْ من عمقٍ مثَّلَ روح الانبعاث , انبعاث الجمال والقوة من طريق ولادات الأجيال التي تتوارث العلم والمعرفة والثقافة والجمال .
وهكذا تؤسس الشاعرة باسمة المشهداني من روح الأساطير معاني القوة والتحدي والجمال , مومئةً إلى وفرة الخير ومصدر القوة والانبعاث بوصف المرأة الطاقة الخلاقة التي كانت تعتقدها معظم حضارات الإنسانية , أنها روحٌ مقدسة تمنح الحياة الخصب والنماء , كما تمنحها الاستقرار والأمان.