السيمر / الاثنين 16 . 04 . 2018 — «الجنط (الشنط) فُتحت»، أي أن الانتخابات قد اقتربت. الحديث عن الموسم الذي يتكرّر كل أربع سنوات في أكثر بلدان العالم فساداً يعني الحديث عن مبالغ مالية ضخمة. «ضخمةٌ تصل إلى حدّ الجنون» بوصف البعض. الدعاية الانتخابية في «بلاد الرافدين» لا تقتصر في «زواريبها» على الحملات الإعلامية فقط، بل تدخل فيها الرشى لزعماء القوائم ومحاولة «تأمين» المقعد النيابي، عدا عن سمسرات أعضاء «اللجان الانتخابية» الخاصّة بالسّاسة الباحثين عن تكديس ثرواتهم.
رسمياً، وبعد طول انتظار، تُطلق «المفوضية العليا المستقلة للانتخابات» في العراق ماراثون الدعاية الانتخابية. 27 يوماً من المنافسة الإعلانية تشهدها «بلاد الرافدين» قبل أن تدخل البلاد في صمتٍ انتخابي في 11 أيّار المقبل، على أن تُجرى الانتخابات في اليوم الذي يليه. نظرياً، هناك موعدٌ «رسمي»؛ عملياً ليست سوى «حبرٍ على ورق»، وخاصّةً أن مختلف الأحزاب والقوى السياسية أطلقت ماكيناتها الدعائية لخوض الغمار الانتخابي منذ أشهرٍ خلت، سُبِق ذلك بتحضيرات بدأت منذ الصيف الماضي، باستجلاب عروضات و«أفكارٍ عصرية» من شركاتٍ إقليمية تُعنى بهذا الشأن. فالموسم الانتخابي يعتبر مزيجاً من السخرية من جهة، والبذخ والإسراف في الإنفاق من جهةٍ أخرى. وبالرغم من ذلك، فإن النتائج عادةً لا تأتي بما هو مرجو نظراً الى خيارات الناخب المسبقة، إضافةً إلى «عجز» الماكينات الانتخابية المختلفة عن معرفة توجّه الشارع المتقلّب، والمتأثّر بأي «حملة تسقيط» أو شائعةٍ مغرضة. بذخ المال الانتخابي «وصل إلى حدّ الجنون» يصف مصدر سياسي في حديثه إلى «الأخبار»، ذلك أن الأزمة المالية «مستمرة» منذ سقوط مدينة الموصل (حزيران 2014)، بتعبير عددٍ من الكوادر الحزبية العراقية المختلفة. فالحملات الانتخابية لم تتأثر وحجم الإنفاق ومستوى الصرف لم يتضرر، الأمر الذي يثير جملة تساؤلاتٍ وشكوكٍ حول مصادر تمويل معظم الأحزاب والقوى.
وبمعزلٍ عن المال الانتخابي وحجمه وكيفية صرفه، يقود شكل الدعاية الانتخابية ومضمونها ــ بناءً على مقترحات اللجان الانتخابية للأحزاب والقوى ــ إلى ملاحظة بعض الأساليب الجديدة للدعاية، والتي دخلت أخيراً، بعدما اعتاد العراقيون توزيع الفرش والأغطية (ما يصطلح عليه محليّاً «البطانيات») في الدورات الماضية. هذه المرّة، باب الساسة العراقيين بالتقرّب إلى الناخبين هو «السبيس»، وهي مادة من أجود أنواع التراب، تطمر بها الشوارع والطرقات التي تعاني من تشققات وتصدّعات. أحد المرشحين المنتمين إلى «ائتلاف دولة القانون» (بزعامة نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي)، أعرب عن «تفاجئه» عندما زار إحدى المناطق، لافتاً في حديثه إلى «الأخبار» الى أن الأهالي طالبوه بإحضار «السبيس»، والمباشرة بـ«تبليط» (تعبيد) الطرقات هناك. وأضاف المرشّح أن «نسبة كبيرة من المرشحين والقوائم الانتخابية عاجزة عن تلبية مطلب (السبيس)، كونها باهظة الثمن»، عدا عن تكاليف نقلها و«فرشها» على الأرض. ولأن «السبيس» مادة «دسمة» للبرامج التلفزيونية الساخرة، كان لافتاً اقتطاع بعض المقاطع ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر حاجة الناخبين المفرطة لهذه المادة، فهي «ضمانة لأصواتهم»، إلا أنها ــ في حقيقة الأمر ــ تعكس عجز الدولة عن تأمين أبسط مقومات البنى التحتية، فيحلّ الساسة مكانها على مدى شهرين، ليعودوا إلى سباتهم و«صفقاتهم المشبوهة» طوال السنوات الأربع المقبلة.
وهناك مرشحون من نوعٍ آخر، «المرشحون الأغنياء» الذين يدفعون مبالغ طائلة لـ«حجز» مقاعد لهم البرلمان. إذ ينقل مقرّبٌ من بعض منهم أن زعيم «ائتلاف الوطنية» إياد علّاوي، رتّب قوائمه الانتخابية في بعض المحافظات على أساس «من يدفع أكثر». فالأخير يُعرف برجل الأعمال الذي يمتهن العمل السياسي والساعي إلى العودة إلى سدّة رئاسة الوزراء، وهو حريصٌ على خوض الغمار الانتخابي بأقل كلفة مالية ممكنة (حاله حال بعض الساسة الكبار الذين يعتمدون في حملاتهم الدعائية على عمليات تمويل رجال الأعمال المقربين منهم، باعتبارهم منتفعين من نفوذهم). ويضيف مصدر في حديثه إلى «الأخبار» أن أحد المرشحين دفع لعلّاوي مبلغاً قدره مليون دولار أميركي، ليحجز لنفسه «تسلسل رقم 1» في إحدى المحافظات الشرقية ليرفع حظوظه بدخول البرلمان، «على أن تكون السنوات الأربع المقبلة كفيلة باسترداد المبلغ أضعافاً» يقول.
أما الناشطون في المجال الانتخابي، والذين عرفوا كيف «يبتزون» بعض المرشحين، من خلال بيعهم لصفحات ناشطة على شبكة «فيسبوك» بمبالغ باهظة (بلغ سعر بعض الصفحات الناشطة، والتي اشتراها عددٌ من المرشحين حوالى 15 ألف دولار أميركي)، فيرفضون الحديث عن «الشحّ» المالي لمرشحي القوائم الكبيرة. ويشير أحد هؤلاء، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «حديث المرشح عن عدم حصوله على دعم من ائتلافه أمرٌ مجافٍ للواقع»، مؤكّداً أن «دولة القانون وتيّار الحكمة (بزعامة عمّار الحكيم) يأتيان في مقدمة الكيانات السياسية لجهة إنفاقهم على الدعاية الانتخابية». ويضيف إن «الحكمة» و«دولة القانون» هما أكبر ائتلافين انتخابيين في بغداد بدعمهما لمرشحيهم بمبالغ مالية تتراوح بين 50 إلى 90 ألف دولار أميركي لمرشحيهم المغمورين، مبيناً أن «إنفاق دولة القانون يفوق إنفاق الحكمة بأضعاف، غير أن الأخيرة تأتي في المرتبة الثانية على هذا الصعيد». ويلفت ناشطٌ آخر، والذي يعمل في إحدى المنظمات المعنيّة بمراقبة الانتخابات ورصد الخروقات، إلى أن «ائتلاف النصر» بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي، «يكاد يكون الائتلاف الوحيد الذي لا يموّل مرشحيه»، ذلك أن العبادي أبلغهم أنه «يعتمد على ما حقّقه من نصر ضد تنظيم داعش، وأنه لا يحتاج إلى حملةٍ انتخابية»، بالرغم من أن صور ائتلافه تنتشر بشكلٍ لافتٍ في الكثير من مناطق بغداد، ونقاط إعلانها «الحيويّة»، منذ الإعلان عن تأسيس تحالفه.
لكن السياسي العراقي المثير للجدل صادق الموسوي، كتب على صفحته على «فايسبوك» في 27 شباط الماضي، أن «مالك شركة (ربّان السفينة) سعدي وهيب، تكفّل بالحملة الانتخابية لقائمة رئيس الوزراء، والبالغة تكلفتها 28 مليون دولار»، كاشفاً في منشورٍ لاحق عن قيام نائبٍ بصرف مبلغ 3.5 ملايين دولار على حملته الانتخابية في منطقته الصغيرة، بحيث يدفع لكل صوتٍ 100 دولارٍ أميركي. وتتقاطع منشورات الموسوي مع معلومات «الأخبار» حول تكاليف حملة «النصر»، التي تكفّل بها عددٌ من رجال الأعمال المنتفعين من وجود العبادي في منصبه والداعمين لبقائه لولايةٍ ثانية. وتضيف المعلومات أن بعض أعضاء «اللجنة الانتخابية» الخاصّة برئيس الوزراء قاموا بدور «سماسرة» من خلال تلزيم بعض شركات الإنتاج (لبنانية وبريطانية) لقاء عمولات (كوميشن) ضخمة، على قاعدة أن «شركات الإنتاج العراقية لا تفقه من العمل الدعائي الانتخابي شيئاً»، بتعبير مصدرٍ حكومي.
ولا تختلف حال «اللجنة الانتخابية» الخاصّة بالعبادي عن تلك التابعة للمالكي أو تحالف «الفتح» (بزعامة الأمين العام لـ«منظمة بدر» هادي العامري)، بالاعتماد على الخبرات «الأجنبية» (إلى جانب الحديث عن العمولات الضخمة) في سبيل إيصال «رسالة إعلامية عصرية»، تترجم برامجهم الانتخابية، والتي تفتقر إلى الواقعية، بل تحاكي طوباويّةً يحلم بها الناخب العراقي.
الاخبار اللبنانية