الرئيسية / مقالات / صفقة القرن : الخلفية والأساس (1)

صفقة القرن : الخلفية والأساس (1)

السيمر / الثلاثاء 26 . 06 . 2018

د . لبيب قمحاوي

الحديث عن صفقة القرن أبعد ما يكون عن الإشاعة إذ أنه برنامج عمل خطير دَخَلَ مطبخ السياسة الأمريكية بعد قليل من تولي ترمب رئاسة الولايات المتحدة وبالتنسيق مع بعض الحكام العرب . وخطورة هذه الصفقة بالنسبة للفلسطينيين والشعوب العربية تكمن في كونها تهدف إلى الإعلان عن حل القضية الفلسطينية من خلال إلغائها وتقليص أو شطب الحقوق الوطنية الفلسطينية مما يعني إغلاق ملف القضية الفلسطينية بشكل عام وكامل وإعتبارها قضية غير قائمة . وقد يتم ذلك ، على ما يبدو ، بدعم سياسي عربي وتمويل خليجي وتواطؤ من السلطة الفلسطينية من خلال توفير الأرضية الفلسطينية المناسبة لتنفيذ بنود “صفقة القرن” حتى لو إدَّعت تلك السلطة بعدم الموافقة عليها إبتداءً .
إن إزدياد الأخطار يتطلب من الجميع التخلي عن سياسة الصمت أو الهمس أو الإيحاء والبدء بسياسة الصراحة والمصارحة والعلنية ووضع النقاط على الحروف حتى لا يَدَّعي أحداً بأنه قد تفاجئ بمجرى الأحداث لتبرير تقصيره أو تواطئه أو خيانته .
ما هي الحقيقة وأين تكمن تفاصيلها وهل خطورة “صفقة القرن” تكمن في العناوين أم في التفاصيل أم في النتائج ؟ أم في هذا وذاك ؟
إن استنباط إصطلاحات غامضة لتسهيل أمور التنازل أو الإلتفاف على الحقوق الفلسطينية هو فن أتقنه الإسرائيليون والأمريكان وبعض العرب خصوصاً أولئك الراغبين في إغلاق ملف “القضية الفلسطينية” .
إن تمرير صفقة القرن يتطلب من وجهة النظر الأمريكية موافقة إسرائيل أولاً ثم موافقة عربية خصوصاً موافقة السعودية ومصر ، وأخيراً توفر الظروف الملائمة والإستقرار اللازم فلسطينياً وأردنياً لتمرير تلك الصفقة كون الأردن والفلسطينيين يشكلان الممر الرئيسي لعبور تلك الصفقة .
“صفقة القرن” ليست قـَدَراً محتوماً على الجميع القبول به والخنوع له ، بقدر ماهي مؤامرة جديدة تستند إلى ضعف عربي عام وإلى خيانة بعض الأنظمة العربية التي إختلطت عليها أولوياتها بشكل حَوَّل العدو الأكبر للعرب وهو إسرائيل إلى حليف محتمل في صراع إقليمي مذهبي بائس جعل من الجار عدواً ومن العدو جاراً بل وحليفاً . وهكذا، فإن من مَهَّدّ الأرضية لما هو قادم قد جاء من رحم العرب وما كان من الممكن لمثل هذا المخطط أن يكتسب أرضية لولا الإشارات الخفية بالموافقة والتشجيع والتي جاءت من بعض العواصم العربية وبعض القيادات الفلسطينية .
“صفقة القرن” إبتدأت كمجموعة أفكار جديدة في أسلوب وكيفية طرحها ولكنها قديمة في جوهرها لأنها تهدف في النهاية إلى فرض حل للقضية الفلسطينية ينطلق من رحم الإحتلال ومن واقع الشتات الفلسطيني والضعف العربي وإستسلام القيادة الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو وتبعيتها الأمنية لسلطات الاحتلال ، وتهدف إلى إعطاء إسرائيل أقل بقليل من “كل شئ” وإغلاق ملف القضية الفلسطينية إلى الأبد ، أو هكذا خُيِّلَ للقائمين على هذه “الصفقة” من إدارة ترمب . والجديد في الطرح يتمثل في الكيفية التي يتم بموجبها تقديم الأفكار الأمريكية والعناوين المرافقة لها وأسلـوب طرحهـا . إن اللعب بالكلمات هو أسلوب قديم في السياسة ، أمَّا ما نحن بصدده فهو اللعب بالمصطلحات بحيث يكون العنوان شئ والمحتوى شئ آخر . ومثالاً على ذلك تسمية إختفاء المظاهر العسكرية العلنية للإحتلال بالإنسحاب ، وتسمية الحكم الذاتي المُطَوَّر بالدولة …. إلخ .
غالباً ما تقع الشعوب أسيرة لإصطلاحات ومفاهيم يُجَسِّدهُا عنوان أو شعار ما دون تحديد المحتوى أو المعنى المقصود من ذلك فعلاً . فمثلاً ما طرحه بعض العرب مؤخراً في المطالبة بإقامة “دولة فلسطينية على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية” هو في سياق ذلك . ماذا يعني ذلك المطلب بالتحديد ؟ إنه يعني أولاً الموافقة الضمنية على التنازل عن مطلب الإنسحاب من كامل الأراضي المحتلة من خلال الإنتقال من المطالبة بدولة على مجمل الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الواقعة ضمن تلك الأراضي ، إلى المطالبة بدولة “على التراب الوطني الفلسطيني” وهو اصطلاح لا يعني جغرافياً أي شئ وقد يعني ذلك أية نسبة من تلك الأراضي ، أي قد تكون على 20% أو 30% أو 50% ….الخ من الأراضي المحتلة عام 1967 لأن أي من تلك النسب هي في النهاية تراب وطني فلسطيني أما بالنسبة لإصطلاح “وعاصمتها القدس الشرقية” فإن ذلك قد يعني أيضاً أشياء مختلفة . فإصطلاح ” القدس الشريف” أو إصطلاح “القدس الشرقية” أو إصطلاح “القدس” قد يعني من وجهة نظر كل طرف من أطراف الصراع المباشرين أو غير المباشرين شيئاً مختلفاً . فعندما طرح الرئيس الأمريكي مثلاً أفكاره عن القدس تمهيداً للإعتراف بها عاصمة لإسرائيل فإنه أوضح بجلاء ودون إلتباس بأن الاسرائيليين قد قامو ببناء مدينة لهم غربي القدس وأطلقو عليها إسم “القدس الغربية” ، وأن الفلسطينيين يستطيعون فعل نفس الشئ الآن من خلال بناء مدينة لهم في إحدى المناطق المحيطة بالقدس (أبو ديس مثلاً) وأن يطلقوا عليها إسم “القدس الشرقية” . إذاً القدس قد تعني شيئاً مختلفاً على أرض الواقع لكل طرف من الأطراف . وبناء جسر موصل بين ضاحية أبو ديس والمسجد الأقصى تحديداً يهدف إلى إضفاء بعض الشرعية التاريخية والدينية على تلك “القدس الشرقية” المصطنعة . وياسر عرفات عندما طرح شعار “القدس الشريف” لم يوضح معناه وما هو المقصود منه بإستثناء شئ واحد وهو أن عرفات كان يريد أن يرسل إشارة بأن التفاوض على القدس وتقديم بعض التنازلات هو أمر ممكن من خلال طرحه لشعار “القدس الشريف” الغامض والذي يحتمل بحكم غموضه تفسيرات ومعاني مختلفة .
إن إعطاء القدس للإسرائيليين والإعتراف بها كعاصمة لهم وإخراجها من نطاق المفاوضات والتوقف عن إعتبارها أرضاً محتلة خاضعة للمفاوضات كان بالنسبة لإدارة ترمب أمراً أساسياً لإنجاح “صفقة القرن” وذلك من خلال تقنين وضع مفروض على القدس بقوة الإحتلال ، الأمر الذي أثار حفيظة معظم دول العالم ورفضها العلني للإجراء الأمريكي ربما بإستثناء بعض الأنظمة العربية التي شاركت في تلك المؤامره إما من خلال صمتها أو من خلال دورها الخفي في تشجيع تلك المبادرة الأمريكية . إن الاقرار بذلك والإعتراف به هو أمر مستحيل بالنسبة للفلسطينيين والأردن كون القدس هي لب وجوهر القضية الفلسطينية وأية إقرار بتغيير وضعها أو التنازل عنها يعتبر إنتحاراً بالنسبة لمن يـَقـْبَل به سواء في فلسطين أو الأردن . وأية محاولة للإلتفاف على القدس من خلال مسميات جديدة سيؤدي بالنتيجة إلى مزيد من القلاقل والحروب والإقتتال الداخلي.
يحاول الكثيرون ربط ما جرى في الأردن مؤخراً بما هو قادم من التزامات نتيجة لصفقة القرن . ويعتبر البعض أن هنالك محاولة جدية ومستمرة لإفقار الشعب الأردني لإرغامه على القبول بتبعات ماهو قادم فيما لو تم تطبيق “صفقة القرن” . والإيحاء هنا تحديداً يتعلق بإعادة هيكلة الأردن كوطن بديل . والواقع أن هذا الربط قد لا يكون بالضرورة صحيحاً أو بالأهمية التي يعلقها البعض . “فالوطن البديل” سيكون “أوطاناً بديلة” لا تتعلق بالأردن فقط بل بمجمل الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 مروراً بعام 1967 وبباقي النكبات الأصغر . فصفقة القرن تهدف إلى إلغاء قضية اللاجئين وحق العودة من خلال التوطين وإلغاء صفة اللجوء وتحويلها إلى صفة المواطنة في الدول المضيفة ، وإلغاء وكالة الغوث (الأونروا) بإعتبارها تجسيداً للإعتراف الدولي بقضية اللاجئين الفلسطينيين . وفي هذا السياق فإن عدم الاستقرار ، كما جرى في الأردن ، هو أكثر خطورة وتهديداً لمسار “صفقة القرن” لأنه يُضْعِف من قدرة النظام على فرض تبعات تلك الصفقة على الشعب الأردني . ومن هنا كانت الفزعة النفطية لمساعدة الأردن على تجاوز الأزمة الاقتصادية والمالية من أجل إعادة تثبيت الاستقرار اللازم لتمرير تبعات صفقة القرن على الأردن .
الأردن أو أي دولة عربية لا تستطيع القبول العلني بصفقة القرن إذا ما أَصّرَ الفلسطينيون حقيقة على رفضها . ومن هنا فإن الرفض الفلسطيني هو الضمانة للرفض العربي المُعْلَن خصوصاً الأردن الذي لن يستطيع الموافقة بمعزل عن موافقة الفلسطينيين أولاً . وهكذا يصبح النضال على الجبهة الفلسطينية لمساعدة الفلسطينيين على رفض “صفقة القرن” هو نضال عام واستراتيجي يشمل في نتائجه كل الدول العربية لأنه سوف يضع تلك الدول، حتى الراغبة منها، في موقف مستحيل لا يستطيعون فيه القبول بما يرفضه الفلسطينيون .

* مفكر عربي
2018 / 06 / 26

اترك تعليقاً