السيمر / السبت 27 . 10 . 2018 — مستشار صدام حسين في حملته الإيمانية بالعقد الأخير من القرن السابق، وموضع ثقته واصغاءه في الشؤون الدينية، يروي للمهتمين من محل اقامته في اسطنبول سلسلة من مذكراته في العراق عبر موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، سلط فيها الضوء على “طائفية” بعض الشخصيات ذات الثقل الكبير قبل وبعد 2003، متناولاً الموضوع من زاوية عقائدية، مستنداً على قضية شخصية وهي “اطروحة الوحدان”، والتي تعرض فيها الى ظلم كبير، بسبب اختلافه عن رجال السلفية والاخوان المسلمين في العراق، بحسب قوله.
عدّاب بن محمود الحمش، رجل الدين السوري، سني المذهب حسيني النسب، المختلف في اطروحاته ومثير الجدل في الوسط السني بسبب ذلك الاختلاف، ولد في سوريا، وقضى فترة من الزمن في السعودية، ولكن طُرد منها بسبب عدم قبوله بالفتوى الشهيرة لابن باز التي أجاز فيها إشراك قوات اجنبية لتحرير الكويت إبان حرب الخليج الثانية، وقد رفضها بدعوة ان اهل الكويت مسلمون واهل العراق مسلمون ولا يجوز ادخال المشركين بين المسلمين.
كان ذلك الرفض نقطة ايجابية بنظر صدام حسين تجاه الحمش، ستتطور فيما بعد وتصبح بداية لقصة مدتها 6 سنوات قضاها رجل الدين السوري في الأراضي العراقية.
بعد طرده من السعودية توجه الى الأردن، وتلقى فيها عدة دعوات استضافة من قبل صدام حسين، تجاهلها بالقول: “ماذا يريد منا هذا الطاغية، أيظنّ لدينا شيئاً نبيعه إياه؟”، ولكن أحد مقربيه وثقاته، أخبره بأن “صدام حسين رجل مسلم مؤمن، يحتاج فقط إلى مَن يرشّده، وهو قد تعلم من الحرب العراقية الإيرانية، أنّ عدوّنا الحقيقيّ هو الغرب، الذي أطال تلك الحرب ثماني سنين، وتوجهاته الجديدة، توجهاتٌ إسلامية”.
عندها قرر الحمش الانتقال الى العراق والسكن فيه، حيث يقول: “كنتُ أفكّر بأنّ وجودي في العراق ضيفاً على رئيسه، سيمنحني مساحة من الحريّة الإعلامية لا يُسمَح بمثلها لعلماء البلد”، ويضيف ان “علماء البلد إذا تعاونوا معي – مهما كانت مقاصد صدام من وجودي في العراق – فإننا نستطيع أن ننتقلَ خطوةً متقدّمة في طريق عودة الشعب إلى حظيرة الدين”، مبينا انه فكر مع نفسه بان هذه الفرصة “ساقها الله” له، وعليه ان يستثمرها في الدعوة الى الله حتى لو كلفه ذلك حياته.
وهنا يتطرق الرجل الى سبب قدومه للعراق في عام 1992، فيما يوضح في مناسبة أخرى سبب تمسك صدام حسين به وتقريبه منه لدرجة كبيرة، لم يصل اليها اي رجل دين عراقي آنذاك، فيقول: “بعد نهاية لقائي بصدام حسين قال وهو يعانقني، والله يا شيخ عداب، ما وُصف لي عالم، إلا رأيتُه دون ما وصفوه لي إلا الشيخ عداب، فهو والله فوق ما وصفوه لي بكثير وكثير جدّاً، أهلا بك في العراق، رضيناك مرشداً وموجها لشبابنا، هذا العراق مفتوح أمامك، افعل فيه كلّ ما يرضي دينك وشرفك ورجولتك”.
يبدو ان رفضه لفتوى ابن باز، ووقوفه بالضد من آل سعود، وقبوله بدعوى الاستضافة العراقية، جعله موضع ثقة كبيرة لدى صدام حسين، ليضعه في مكانة المقرب والمستشار، ناهيك عن رؤيته الحداثوية نوعاً ما تجاه القضايا الدينية، والتي كانت شوكة في حلق الفكر الديني المتشدد الذي يعتبر صدام “رجلاً علمانياً فاسقاً وابن زنى لأنه يحابي الروافض ويمنحهم مساحة من الحرية تجعلهم يضرون بالدين الاسلامي”، على حد تعبير الحمش ونقله عن رجال السلفية في العراق.
– اطروحة الوحدان –
بعد وصول الحمش الى العراق بمدة من الزمن تم تعيينه استاذاً في جامعة صدام للعلوم الاسلامية (الجامعة العراقية حالياً)، وأقدم على كتابة رسالة للحصول على درجة الدكتوراه، أسماها “اطروحة الوحدان”، قدمها الى لجنة المناقشة في الجامعة لمنحه الدرجة، والتي تكونت من حارث الضاري (رئيساً)، وهشام جميل، وعبد الملك السعدي، ومحمد الكبيسي، وداوود الدليمي (بصفة أعضاء).
ومن هنا بدأت معركة الفكر بين متشددي السلفية والإخوان في العراق (بقيادة الضاري صبحي السامرائي)، وعداب الحمش، حيث اعتبرت لجنة المناقشة اطروحة عداب مخالفة للشريعة بشكل صارخ، وخروجا على المسلمات بما لا يتناسب مع الدين الاسلامي، حيث ان الاطروحة “بحسب رأي اللجنة” تفترض وجود احاديث غير صحيحة في كتب الصحاح (البخاري ومسلم)، ناهيك عن حديثها عن عائشة زوجة النبي ص بطريقة قذف وانتقاص، إضافة الى اتهامها “بعض الصحابة” بالكذب والنفاق، وتطرقها الى قضايا خلافية تثير الفتن الطائفية، وغيرها من الاسباب التي أدت الى رد الرسالة وعدم منح درجة الدكتوراه لصاحبها.
ومفردة “الوحدان” في الفكر السني (ونظيرتها “أخبار الآحاد” في الفكر الشيعي)، تعني الاحاديث المنقولة عن صحابي واحد، وطريق واحد، وتنقسم الى ثلاثة أقسام، مشهور، وعزيز، وغريب، ويرى بعض فقهاء الفكر الاسلامي انها ليست رصينة بالدرجة الكافية لاعتمادها واعتبارها صحيحة، واطروحة الحمش كانت بهذا السياق.
لم يرق وجود عداب وقربه من الرئيس آنذاك، مزاج رجال الدين والمتعصبين في العراق، وحاولوا بشتى الطرق ابعاده (بحسب روايته)، ولكن حدة التوتر تطورت بشكل كبير، فوصل الى صدام حسين، وأمر بعقد اجتماع اشبه بالمناظرة، بين لجنة المناقشة، والحمش وانصاره، للوصول الى نتيجة بشأن “اطروحة الوحدان”، فبدأ الاجتماع الذي استغرق 3 ساعات وانتهى بتوبيخ لجنة المناقشة من قبل صدام “ضمنياً”، وتقديمه هدية للحمش وهي بيت بمساحة 680 متر في منطقة جميلة، وتوجيهه اياه بكتابة رسالة ثانية يطرحها أمام لجنة أخرى (برئاسة عبد اللطيف الهميم) لنيل درجة الدكتوراه.
– عزة الدوري، الرجل المتدين –
يقول الحمش عن عزة الدوري، انه ” رجل سنّي، حنفيّ، ماتريدي، نقشبنديّ، فمن أراد أن يحاكم تصرفاته وأفعاله؛ فعليه أن يحاكمها إلى هذا المنحى الفكري والسلوكيّ، وليس إلى المنطق العامّ ولا إلى اختيار الناظِر، ولا إلى الراجح من مذاهب المسلمين، وانه يعتقد بأنّ التغلّب هو السبيل السائد في تاريخ المسلمين، فالخلافة الراشدة شرعية، والخلافة الأموية شرعية، والخلافة العباسية شرعية، وعليّ عنده؛ أفضل من معاوية، والحسين أفضل من يزيد، وجميعهم رضي الله عنهم”.
ويشير عداب الى ما يؤمن به الدوري، فيقول انه “يؤمن بأنّ الحاكم المتغلّب حاكم شرعيّ بنفاذ أحكامه وأوامره، وبالتالي، فلا يجوز الخروج عليه، ولا منازعته سلطانه، وسواء قتل الأستاذ عزة الدوري عراقياً واحداً، أو قتل مليون عراقيّ في الدفاع عن الكرسيّ؛ فلا يرى في ذلك أدنى حرجٍ نفسيّ”، ويشير الى انه “ربما أعدم بيده عدداً من المسلمين المعارضين، ثمّ جلس مباشرة إلى تناول فطوره أو غدائه، وربما تناول أجمل كأس شايٍ، بعد القضاء على الخصوم البغاة”.
ويلفت رجل الدين السوري النظر الى “شخصية عزة إبراهيم؛ هي ذاتها شخصية كلّ مسلمٍ سنيٍ على وجه الأرض، ومن يحسب غيرَ ذلك؛ فهو واهم، ويبدو أنّ هذه الثقافة؛ هي ثقافة تاريخ الإسلام السياسيّ المتوارثة منذ أربعة عشر قرناً إلى اليوم”.
يتضح من خلال كلام صاحب المذكرات عن نائب صدام حسين، ومشرف الحملة الايمانية، وجود شد كبير بينهما، حيث يرى الأول، بأن الاخير هو من اوعز الى لجنة مناقشة اطروحة الوحدان، بردها، اضافة الى اشاعته اخباراً تتحدث عن كون الحمش مرتداً، والتي ادت بدورها الى تهديده بالقتل، ومطالبات واسعة بترحيله من العراق، ولكن قربه من صدام حسين أسعفه في هذه المعركة.
حيث يقول ان “أحد المقربين من عزة الدوري اوصاني بالتقرب منه، وقال لي بصريح العبارة: لولا قربك من الرئيس لأذابك الدوري بالأسيد، فهو لا يطيق ذكر اسمك”.
وعزة الدوري آنذاك، كان ممثل الوجهة الدينية في العراق، ومفوض من القيادة بكل شيء يتعلق بحملة “العودة الى الايمان”، والتي كانت حملة أجراها حزب البعث ، اعتباراً من عام 1993، لاتباع أجندة إسلامية أكثر محافظة اجتماعياً وعلنياً، وشملت الحملة مجموعة متنوعة من السياسات، بما في ذلك زيادة في منح الحريات للجماعات الإسلامية، وزيادة الموارد التي وضعت في البرامج الدينية، وزيادة استخدام العقوبات الإسلامية، وتركيز أعم بشكل كبير على الإسلام في جميع قطاعات الحياة العراقية، واستخدم الدوري الحملة للترويج لطريقته النقشبندية الصوفية، التي ستشكل لاحقاً نواة لجيش رجال الطريقة النقشبندية.
لم تحظ الحملة بالدعم الكامل من القيادة البعثية، ويشار إلى صدام حسين في بعض الأحيان على أنه القائد البعثي الرئيسي الوحيد الذي دعمها. في المقابل، كان رئيس الوزراء السابق سعدون حمادي، ومدير المخابرات السابق برزان إبراهيم التكريتي، من أبرز معارضي الحملة. وكان برزان على وجه الخصوص متخوفاً من أن الجماعات الإسلامية التي يرغب صدام في استرضائها سوف تسعى في نهاية المطاف إلى أن تحل محله وتنصيب أنفسها مكانه، وزعم أنه في هذه الأثناء أي تحالف مع السلفيين من شأنه أن ينفر كل من الشيعة العراقيين وأيضًا الدول العربية الأخرى في المنطقة.
– الطائفية قبل 2003 –
لم يكن أمر الطائفية كما يتصور البعض، نائماً واستيقظ عام 2005، بل ربما على العكس من ذلك، فنقطة الاختلاف تكمن في انها كانت صامتة قبل 2003، وضاجة بعدها.
يتطرق الحمش في مذكراته الى حواراً دار بينه وبين حارث الضاري، حول رؤية الاول بالتعايش السلمي مع الشيعة، ورفضه تكفيرهم، وانهم الاغلبية في العراق، ولذلك يجب تغيير طريقة الخطاب الديني الذي يستعرضه خطباء السنة آنذاك في كل اسبوع، ما ادى الى غضب الضاري كثيرا، وبداية للعداء بين الطرفين.
يقول الحمش في إحدى حلقات مذكراته التي نشرها تباعا في صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك: بل هو صارحني (يقصد الضاري)، وقال لي في بيته العامر: أنا أعترف بأنك أعلم مني، لا في علوم الحديث بل في علوم شتى!، لكن عليك أن توظّف ما منحك الله من علوم في خدمة طائفتك!، هؤلاء الرافضة؛ اغسل يدك منهم تماماً، نبيهم غير نبينا، وكتابهم غير كتابنا، ودينهم غير ديننا!
قاطعته وقلت له: ما هو دين الرافضة؟ قال (الضاري): ذول آل البيت، المعصومين عندهم، كما يزعمون!
دار حوار طويل حيال التعايش السلميّ بين الطائفتين، فلم يكن لدى الدكتور الضاري سوى إجبارهم على الإسلام، أو إجلاؤهم من العراق، أو قتلهم!، لكن (بحسب الضاري) الدولة الخبيثة تحابيهم وتقويهم.
يقول عداب في معرض حديثه مع استاذه “محسن عبد الحميد”، عن الطائفية في العراق: “الشيعة قادمون، وتغيير الخطاب الدينيّ؛ معناه تقليل أعداد القتلى من أهل السنة”، فكان رد عبد الحميد: ” كيف يعني الشيعة قادمون، لم أفهم، عندك معلوماتٌ، أم توقعات؟”.
فتحدث الحمش بانه لا يملك معلومات، ولكن المعادلة بسيطة، حيث ان الشيعة يمثلون نصف سكان العراق، والنصف الآخر منقسم بين السنة والكرد، وان العراق محاصر تمهيداً لإضعافه واسقاط النظام فيه، وان “البديل هذه المرة لن يكون هو أهلَ السنة، ولن يحكم العراقَ الأكرادُ، لا أظنّ الأمر يحتاج إلى ذكاء كبير”.
وفي سياق آخر يتحدث الشيخ عن محاورة جرت بينه وبين “سعاد” سكرتيرة لجنة المناقشة في جامعة صدام، عندما قدم اطروحته الضخمة المتكونة من 3 أجزاء اليها، وعند تقليبها لصفحات الاطروحة وقعت عينها على صفحة فيها ذكر للشيعة، فقالت: “الشيعة الشيعة، إيشٍ مسوين لك الشيعة، أنا أورّيك يا شيخ عداب، أنت تثير الحساسيات الطائفية، وأنت غريب، وعلى الغريب أن يكون أديباً، هذه الرسالة لا تمرّ، والله ربي”.
كما يروي حادثة جرت له مع احد تلامذته المقربين من حارث الضاري، واسمه ياس السامرائي، حين دخل مكتبته ووجد فيها كتب الشيعة الاربعة، فيقول: “كاد يطير صوابُه، وقال لي بحدة وعصبية: مثلك يحوي هذه الكتب المضللة المعفنة؟”، فرد الحمش: “هذه المكتبة فيها لماركس وأنجلز وسارتر ودارون ومكيافليّ، بل فيها كتاب عن (تعريص) نابليون بونابرت، ولم أرك يوماً اعترضتَ على شيءٍ منها، افترض هذه الكتب الأربعة الرافضية، من طبقة هذه الكتب، أنتم تلعنون الظلام، من دون أن توقدوا شمعة واحدةً لطرده، أنتم تبغضون الشيعة، ولا تعرفون عنهم شيئاً”.
واثناء مناقشة رسالته، والتي حضرها آلاف الناس، اضافة الى وجود وزير الاوقاف وعزة الدوري، قال عضو اللجنة محمد الكبيسي: “أنت تكذب على أهل السنة، أهل السنة لا يضعفون أحداً لتشيعه، إنما يضعفونه لاستحقاقه التضعيف في عدالته أو ضبطه أو منكراته”.
وبعد رد رسالته، شاع خبراً ان الشيخ عداب الحمش مرتد، ما ادى الى خروج طلبته من قاعة المحاضرات عند حضوره، فقال له عبد الحكيم السعدي: “خذ إجازة أسبوعاً من الزمان، ريثما تهدأ نفوس الطلاب فنحن العراقيين عاطفيون كثيراً، ولدينا حساسية شديدة من الشيعة، وأنت لم تراع هذا أبداً يا شيخ عداب”، فقال له عداب: ” الشيعة قادمون، وإن شاء الله يقتلون أعضاء لجنة المناقشة أجمعين”.