أخبار عاجلة
الرئيسية / اصدارات جديدة / جدلية المعايشة والإعتزال في دار الهجرة .. رؤية تنويرية

جدلية المعايشة والإعتزال في دار الهجرة .. رؤية تنويرية

السيمر / فيينا / الاربعاء 11 . 12 . 2019

د. نضير الخزرجي

في العادة لا يرغب الانسان التحول الطوعي من مسقط رأسه أو موطنه إلى مدينة أخرى او بلد آخر إلاّ لعلة مقبولة يطمئن إليها، فإذا نجع في دار الهجرة واجتاز مطبّاتها وقفز على عوارضها كان فخورا بما حققه من نجاح، وإذا تعثر ولم يحقق ما رغب فيه أو لم يصل مبلغ الطموح وجرت الرياح خلاف حركة سفينته عندها لا يتعرض إلى ملامة النفس التي هي أشد على الإنسان نفسه من كلام المقربين ولومهم، فالهدف الذي هاجر لأجله يكون عضيده إن فلح وشفيعه إن فشل، هذا إذا كان جادًا في سعيه، ولكنَّ الظروف لم تخدمه وساقته بالضد من مبتغاه أو قصرت عن بلوغ مناه.

فليس كل من هاجر للتجارة أصبح تاجرًا، وليس كل من هاجر لطلب العلم صار عالمًا، فالتجار كثيرون ولكن أربابها قليلون، وطلبة العلوم في الحواضر العلمية كثيرون ولكن القلَّة القليلة من مهاجري العلم والتعلم يصلون الدرجات العليا من سلّم المعرفة، ولكن في المحصلة النهائية يعتبر المهاجر الطوعي الذي ركب مطية الهجرة بحثا عن زيادة الأرباح والأموال والإستزادة من المعرفة أو العيش الهني والرغيد في بلد الهجرة، قد فعل شيئا في حياته من باب: “في الحركة بركة”، ومعظم الذين يشار لهم بالبنان من أعلام الإنسانية منذ هبوط الإنسان الأول الى المعمورة وإلى أن يأذن الله بقيام الآخرة كانت الهجرة جزءًا من حياتهم، تمكنوا من استثمارها أفضل استثمار بما قادهم أو يقودهم إلى وصول مرادهم.

بالطبع لا نتحدث عن التهجير ولا عن اللجوء، وإن شملهما وصف الهجرة، لكن الأخيرة (الهجرة) طوعية ذاتية لتحقيق أغراض متنوعة، والأولى موضوعية ليس للإنسان دخل فيها فيُساق رغمًا عن أنفه من موطنه إلى بلد آخر، وفي معظم الأحيان يجرد من ممتلكات المنقولة وغير المنقولة فيغدو ذليلا بعد عز وفقيرا بعد غنى، والثالثة فهي وإن بدت طوعية ذاتية ولكنَّ الإرغام فيها ركن قائم، حيث تدفع الظروف القهرية القائمة في البلد بالإنسان إلى الهجرة القسرية بحثا عن بلد آمن يأويه ويدفع عنه البلاء والضرر، وهو ما يعبر عنه باللجوء، وفي كثير من الأحيان يخرج الإنسان خائفا يترقب كخروج النبي موسى عليه السلام خائفا يترقب من بطش فرعون وملئه.

وإذا كانت الهجرة طوعية أو تهجير أو قسرية، فإن البلد الثاني يتحقق فيه وصف دار الهجرة، وكما يكون الإنسان في البلد الأم خاضع في حقل الحقوق والواجبات لما تملي عليه مقررات البلد وقوانينه وأعرافه وعاداته، فإن الأمر هو الآخر في دار الهجرة خاضع لمقررات ذلك البلد، والإنسان المسلم مهاجرا كان أو مهجّرا او لاجئا يفترض فيه أن يمارس حياته بصورة طبيعية منسجمة مع الشرع والقانون والعرف.

وللوقوف على حقيقة الهجرة، صدر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت كتيب “شريعة الهجرة” للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، أظهر في 84 مسألة مع تمهيد الموقف الفقهي والقانوني من الهجرة ودار الهجرة، مع 20 تعليقة أبداها آية الله الشيخ حسن رضا الغديري الميثمي، وقد تصدّر الكتيب بمقدمة للناشر وأخرى للمعلِّق.

ثلاثية الهجرة

ربما يفهم من الهجرة العسر والحرج، إتساقًا مع المثل الشعبي الشائع: “من خرج من داره قلّ مقداره” باعتبار أنَّ الدار هو محل راحة الإنسان ومن يخرج منه إلى دار أخرى لا يعرف أهلها ولا يعرفونه فيقل حينها مقداره وشأنه، فالمثل في الظروف الطبيعية هو في موقعه، ولكن الهجرة من بلد إلى آخر منظور فيها البحث عن اليسر والإبتعاد عن العسر، بل في معظم الحالات يجد المرء في الهجرة عزّه وكرامته وإن صاحبها النصب والتعب، لأن نيل المعالي ليس بالأمر الهيِّن، والناس قدرات، والهجرة محل عصر الإنسان واختباره، وفي المحصلة النهائية هي بصالحه، وحسب تعبير الشيخ الغديري في التقديم: “فبعد الدقة فيما قُرِّر في الشرع المقدس حول الهجرة يظهر أنَّ الله سبحانه وتعالى يريد بنا اليُسر ولا يريد لنا العسر، فإنَّ  الحياة فردية كانت أو إجتماعية تستدعي اليسر والراحة والطمأنينة والأمان ورفع المتاعب ودفعها”، ولكي يحقق الإنسان هذا الأمر كما يضيف الفقيه الغديري: “فله أنْ يغيّر مسكنه ومنزله ويختار ما يضمن حرياته اعتقادًا واقتصادًا، سياسة وعبادةً، أي يهاجر من مكان إلى آخر ومن مجتمع إلى غيره).

وفي كثير من الأحيان يستشهد الباحثون على أهمية الهجرة وفوائدها بهجرة الرسول الأكرم محمد (ص) من مكة المكرّمة إلى المدينة المنورة، ولكن الفقيه الكرباسي في التمهيد يعتبر إهباط أبي البشر آدم وزوجه حواء من السماء إلى الأرض هي أول هجرة في تاريخ البشرية، وهي هجرة من شقين قسرية (تهجير) وطوعية (هجرة)، فيؤكد: (إنَّ أوَّل من هُجِّر في تاريخ البشرية هما آدم وحوّاء، حيث هُجِّرا من الجنة وأُهبطا إلى الأرض، وبغض النظر عن تحديد المكان المهجَّر منه والمُهجَّر إليه، فقد تعرضا للإمتحان وكانت نتيجته التهجير، إذ قال لهما الله جلّ وعلا: “وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين” البقرة: 36، وما إن استقر آدم وحواء على الأرض إلا وبدأت هجرته من مكان إلى آخر حتى التقيا ثانية بأرض عرفات بالحجاز، ولم تتوقف إلى هذا الحد فقد هاجرا معًا من هنا وهناك إلى أن قضيا نحبهما).

فالهجرة أو التهجير أو اللجوء تلاحق الإنسان أينما كان بخاصة لمن يبحث عن الخير لنفسه أو مجتمعه، فالذي يترك بلده باختياره هو مهاجر، والذي يتركه دون رضاه وبفعل فاعل دون إرادته هو مُهجَّر، والذي يتركه خلاف رضاه وتحت ضغط السلطان بحثا عن الأمن والأمان هو لاجئ، ولكل من هذه المفاهيم الثلاثة أحكامها أوضحها الفقيه الكرباسي في هذا الكتيب وفي كتيب شريعة اللجوء، وغيرهما من الشرائع القريبة من هذا المحور.

وإذا كانت الهجرة من أجل تحصيل العلوم والتجارة والحياة اليسيرة هي الغالبة على مخرجات الهجرة الذاتية فهناك أمور أخرى مارسها المسلمون ينطبق عليها وصف الهجرة ومنها الجهاد في سبيل الله وإعانة المظلوم على الظالم كما قال تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرًا وسعة) النساء: 100، ومن الهجرة السياحة في البلدان واكتشافها وبيان واقع مجتمعاتها وجغرافيتها، وفي الزمن البعيد حيث كانت الدابة هي وسيلة النقل البرية إلى جانب النقل البحري البسيط، فإن الرحلة الإستكشافية كانت تأخذ سنوات طويلة وربما امتدت لعقود.

رؤى في دار الهجرة

يتابع الفقيه الكرباسي في “أحكام الهجرة” ثلاثية اللاجئ والمهجَّر والمُهاجر، مركزّا على مسائل الهجرة ومستلزماتها ومتطلباتها وما يجب فعله أو تجنبه في دار الهجرة.

ولما كانت الهجرة طوعية للبحث عن الأفضل والأحسن، إذًا على المهاجر: (أن يختار موطنًا يمكنه فيه إقامة شعائره الدينية)، وبأزاء ذلك يضيف الفقيه الكرباسي، عليه: (أن يتحصَّن بالثقافة الإسلامية بالقدر الذي هو بحاجة إليها في مورد عمله أو حياته)، وإذا كانت الهجرة مستحبة لأجل تحصيل العلم أو كسب المال للإعاشة أو ما شابه فإنه: (تجب الهجرة لطلب العلوم الدينية وجوبا كفائيًا) وهذا ما كان عليه أعلام الأمة من كل المذاهب الإسلامية في الزمن الماضي وما عليه اليوم حيث تستقبل الحواضر العلمية في مصر وشمال أفريقيا والشام والعراق وإيران وغيرها الطلبة من كل أنحاء العالم، فضلا عن الحواضر الأكاديمية المتوزعة في أنحاء العالم مثل أوروبا وأميركا، ويتحقق الوجوب الكفائي حتى في العلوم غير الشرعية، لذا: (العلوم الضرورية كالطب حالها حال العلوم الدينية تجب الهجرة لأجلها وجوبًا كفائيًا).

 بل ربما ويتحقق الوجوب الكفائي في الهجرة وتعلم العلوم المختلفة التي لها مدخلية في تطور الأمة في الحقول المختلفة من أجل تحقيق الإكتفاء الذاتي، وقد دلَّت تجارب الشعوب وبخاصة في العصر الذي نعيشه أن القوى المستكبرة تستغل حاجة الشعوب في احتلالها عسكريا أو استغلالها وتطويعها لرغائبها سياسيا واقتصاديا، وإذا شطت أمّة عن محور القوى المستكبرة وتنادى أبناؤها الى نشدان الإستقلال العلمي والتكنولوجي والإقتصادي فضلا عن السيادة السياسية، نصبت لها العداء وفرضت عليها الحصار العلمي أو الإقتصادي وأدخلت البلد في أتون حروب لا طائل منها لاستنفاذ طاقته وتفريغه من علمائه.

والأمَّة الناجحة هي التي تصنع من الضعف قوة ومن الإنتكاسة انتصارا، وطلب العلم والهجرة من أجل تحقيق الإكتفاء العلمي مطلب حضاري شجَّع عليه الإسلام ودعا المسلمين إلى التغرب في البلدان لطلب العلم النافع، لأن العلم المصاحب للقيم السليمة يحصّن الأمة ويرفع من معنويات أفرادها ويجعلها نموذجا طيبا للأمة المتفوقة وتكون محل افتخار واعتزاز.

وبالطبع لا يعني الهجرة والتحصن بالثقافة الأمّ اعتزال مجتمع دار الهجرة، بل يقرر الفقيه الكرباسي أنه: (لا يصح مقاطعة المجتمعات غير الإسلامية باعتبارهم غير مسلمين ولا يصح عدم مراعاة حقوق الجار بهذا الإعتبار، بل لابد من مراودتهم بما لا يضرّ في تغيير مفاهيمنا الإسلامية ولكن بغرض التأثير فيهم) لأن المعاشرة الطيبة تعطي صورة طيبة عن المهاجر القادم من بلدان عربية وإسلامية ويغير الكثير من المفاهيم الخاطئة التي تحملها العقلية غير المسلمة تجاه العربي والمسلم بفعل وسائل الإعلام التي تعمل ليل نهار على حرف مسار الحقيقة.

وإذا كان الفقيه الكرباسي يدعو إلى عدم مقاطعة مجتمع دار الهجرة فإنه يعتقد أكثر من ذلك إذ: (يجب المشاركة في الحياة الإجتماعية والسياسية لأن حقوق المسلمين تعتمد على مدى مشاركتهم)، بل ويذهب بعيدًا الى القول أنَّه: (تحرم عدم المشاركة إذا كان ذلك يوجب الإنتقاص من حقوق المسلمين)، وعلى خلاف عدد من الفقهاء يرى في باب المشاركة السياسية أن: (الإنضمام إلى الأحزاب والتكتلات غير المسلمة إذا كان فيه مصلحة للمسلمين فلا إشكال فيه)، نعم: (إذا كان يشكّل مضرّة للمسلمين عقيدة وأشخاصا فلا يجوز)، وعدم جواز المشاركة كما يضيف المعلِّق قائم: “حتى وإن كان صوريا”.

والشيخ الكرباسي من الفقهاء القلة في عالم اليوم الذين يؤيدون العمل الحزبي والتعددية السياسية والحياة النيابية التي تنشد خدمة الإنسان والوطن، وقد أثبت آراءه الفقهية والفكرية في هذا المجال في أكثر من مؤلف، ورؤيته تنسحب إلى دار الهجرة إذ: (يجب تشكيل التكتلات والأحزاب والمؤسسات إذا كانت تحقق حقوق المسلمين)، ويرى الفقيه الغديري في تعليقه أن التشكيل يدخل في إطار: “الوجوب كفائي تمامًا ويشترط التأهل لذلك في الأشخاص بحيث لا يضر بالمقصود أو لا يوجب الخيانة”.

ولما كان التعليم هو الأساس في تنشئة الجيل الناجح، فإن مدارس دار الهجرة وبخاصة في البلدان التي تختلف عقائديا مع المهاجر لها في بعض المناهج الدراسية خصوصياتها التي لا يرتضيها المهاجر بغض النظر عن معتقده إن كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا او هندوسيا أو غيرها من المعتقدات الأرضية، فبعض المناهج وضعتها الحركة العلمانية التي تستفيد من النظام الديمقراطي في مواجهة معتقدات الآخرين تحت دعوى حرية الرأي وهذا ما دفع تجمعات بشرية من أديان مختلفة إلى إنشاء مدارس خاصة لتحصين أبنائها، من هنا يرى الفقيه الكرباسي أنه: (يجب على القادرين فتح المدارس والمؤسسات الثقافية والإجتماعية والسياسية في بلاد الهجرة إن كانت غير إسلامية للمحافظة على حقوقهم)، وفي صورة عدم قدرة الأشخاص والجماعات بشكل عام كما يؤكد الفقيه الغديري في تعليقه على المسألة: “يتوجه التكليف إلى مراجع التقليد إرشادًا وعملًا كلما أمكن”.

في الواقع أنَّ كل مسألة فقهية من المسائل الأربعة والثمانين التي توزعت في صفحات هذا الكتيب، تشكل رؤية قانونية تنويرية ينبغي الوقوف عندها والتبحر فيها، وقد أفرغ الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي جهده الفقهي والمعرفي في بيان أحكام الهجرة فضلا عن أحكام التهجير واللجوء، وجاء في هذه الشريعة وفي غيرها من عناوين الشريعة التي بلغت الألف عنوان ما يشكل ثروة تشريعية وقانونية، وبتعبير المعلِّق آية الله الشيخ حسن رضا الغديري: “في الشريعة الإسلامية الغرّاء أحكام وآداب أصولا وفروعًا ترتبط بالهجرة بمعناها العام وقد ذكرها الفقهاء في أبواب شتّى بصورة منتشرة غير مرتَّبة، وقام المؤلف حفظه الله في هذا الوجيز بإعطاء الإستقلالية للموضوع الجديد كسائر المواضيع الجديدة التي لم تكن مجموعة في فصل مستقل كالترهيب، والغصب، والحجاب، والنوافل، والمثلية، والأمن، وعاشوراء، والشعر، والعقل، والدفاع، والمواصلات، والأهلَّة، والذرَّة، والتوقيت، والجنين، والخدمة، والرياضة، وغيرها العديد من العناوين ذات الأهمية في حياة الإنسان”، وهي موضوعات حساسة على التماس مباشر مع حياة الإنسان، أفردها الفقيه الكرباسي في كتيبات مستقلة تمثل بحق خارطة طريق للمتشرِّعة ونواب الأمّة.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

اترك تعليقاً