الرئيسية / تقارير صحفية وسياسية / بين صدوع الطائفية والتطرف .. تنظيم الدولة “باقٍ”!! بقيادة خليفة بلا خلافة

بين صدوع الطائفية والتطرف .. تنظيم الدولة “باقٍ”!! بقيادة خليفة بلا خلافة

السيمر / الثلاثاء 02 . 02 . 2021 —– أثار الانفجاران الانتحاريان اللذان وقعا في أحدى أسواق بغداد الشعبية ذات الغالبية الشيعية قبل بضعة أيام، الكثير من الأسئلة حول قدرة خلايا ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية على اختراق تحصينات القوات الأمنية، والتسبب بقتل أكثر من ثلاثين شخصاً من المدنيين، لكن المتابعين لقدرات التنظيم وأنشطته المتزايدة يدركون أنها كانت مسألة وقت قبل أن يعود لهذا النوع من الهجمات النوعية في ظل الأزمات المتراكمة التي تعيشها البلاد.

آخر صورة التقطت عام 2012 لزعيم الدولة الإسلامية الجديد – خاص بي بي سي

وتراجعت أخبار التنظيم في أولويات وسائل الإعلام الدولية منذ إعلان مقتل أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم نهاية أكتوبر تشرين اول 2019، لكن التقارير التي تصدر عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ومجلس الأمن الدولي تؤكد أنه لا يزال يمتلك نحو عشرة آلاف مقاتل، وقدرة كبيرة على التحرك في المناطق النائية في البلدين بقيادة زعيمه الجديد أبو إبراهيم الهاشمي القرشي.

ويأتي الانفجاران بعد عشرات الهجمات التي نفذتها خلايا التنظيم وبقايا قواته في عدة مناطق في سوريا والعراق، وخلفت عشرات القتلى والجرحى، لكنه الأول الذي يستهدف العاصمة العراقية منذ وقت طويل.

حاول فريق بي بي سي عربي تقصي حقيقة قدرات التنظيم، من خلال تتبع ما جرى خلال المراحل الأخيرة التي سبقت هزيمته في مخيم الباغوز عند الحدود السورية العراقية، والتحضيرات التي أعدت لها قيادة التنظيم قبل مقتل البغدادي بالعودة إلى ما يعرف بمرحلة “ما قبل التمكين”، وحقيقة زعيمه الجديد وما الذي يعمل عليه مع من نجا من قيادة التنظيم حالياً.

نجاة قرداش

كانت ضربة مفاجئة في الأسبوع الأول من نوفمبر تشرين الثاني 2017، كادت تودي بحياة أبو بكر البغدادي وخليفته عبد الله قرداش الذي سيعرف لاحقاً بأبو إبراهيم الهاشمي القرشي، بحسب ما يقول سالم الجبوري أحد مرافقي البغدادي الشخصيين الذين لازموه في تلك المرحلة.

فمعركة التنظيم المحاصر في مدينة البوكمال السورية، كانت لصد هجوم قوات الجيش السوري المدعوم بالمدفعية والطيران الروسي، ومجموعة كبيرة من الفصائل الشيعية، لكن القصف الذي كاد يودي بالبغدادي وقرداش نفذته طائرات أميركية، على حد قول سالم الذي ينتظر حكماً بالإعدام في أحد سجون خلية الصقور التابعة للاستخبارات العراقية في بغداد.

على أبواب البوكمال – صور بي بي سي

كما في حالة البغدادي قبيل تسلمه قيادة التنظيم عام 2010، بقي قرداش في الظل وبعيداً عن الأنظار، رغم أنه من الشخصيات التي كانت تُعد مبكراً لتتبوأ مناصب قيادية كبرى ضمن أي تغييرات قد تطال بنية التنظيم، بحسب ما اطلعت بي بي سي في الكثير من الوثائق والشهادات.

كانت مدينة البوكمال،التي تتوسط الجغرافيا العشائرية السنية بين سوريا والعراق، ضمن مناطق عمليات الجيش السوري وحلفائه غرب نهر الفرات، على تماس مع مناطق عمليات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية على الضفة الأخرى من النهر، حيث كان التنظيم لا يزال يسيطر على شريط ضيق يضم بضع بلدات صغيرة على امتداد النهر.

خارطة لتمدد “تنظيم الدولة” في عام 2014

يقول سالم إن البغدادي كان مستميتاً في التمسك بالبوكمال، آخر المدن التي كانت لا تزال تحت سيطرة تنظيمه بعد نحو ثلاثة أعوام من المعارك الطاحنة على امتداد مساحات واسعة في البلدين، وهو ما دفعه لبث نداء تحريضي عبر جهاز التواصل اللاسلكي لقادته ومقاتليه لحثهم على الصمود، وأدى رصده من قبل قوات التحالف، بحسب ما يعتقد سالم، لاستهداف المكان سريعاً.

نجا البغدادي وأصيب قرداش الذي قتل مرافقه بإصابات طفيفة، ونقل على الفور لأحد المستشفيات في بلدة هجين على الجانب الآخر من الفرات، قبل ان يُنقل لاحقاً إلى محافظة إدلب، بحسب ما يؤكد سالم الجبوري.

إصرار البغدادي وتنظيمه على الدفاع عن البوكمال، أعقب هزيمتهم قبل ذلك بأيام في مدينة القائم العراقية على الجانب الاخر من الحدود. وشكلت السيطرة على المدينتين هدفاً استراتيجياً للقوى المدعومة من إيران لتأمين ممر بري، يربط خطوط إمدادها العسكرية من طهران إلى بيروت، وهو ما يفسر إشراف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على سير المعركة على الأرض بنفسه في ذلك الوقت:

ولم تعلق واشنطن على التقارير التي تحدثت عن وجود البغدادي وخليفته في البوكمال، كما لم تؤكد القصف الذي تحدث عنه سالم والذي كاد يودي بحياة الرجلين، علماً أن قاذفات روسية استراتيجية استهدفت المدينة في تلك المعركة، وخلفت دماراً كبيراً بحسب ما شهد فريق بي بي سي الذي كان الفريق الإعلامي الدولي الوحيد الذي استطاع الوصول للبوكمال.

ورغم إشارة بعض التقارير لاحتمال وجود البغدادي في البوكمال آنذاك، إلا أنه لم يُذكر مطلقاً وجود قرداش برفقته، ومن خلال مراجعة ما بثه إعلام التنظيم طيلة سنوات سيطرته المحكمة في سوريا والعراق، يبدو واضحاً الحرص على عدم تسليط الضوء على أي نشاط أو دور لعبد الله قرداش على الإطلاق، وهو الأمر المتبع مع كبار قادة التنظيم.

الحصار الأخير

وأبلغ أكثر من مسؤول استخباراتي عراقي بي بي سي أن قرار البغدادي إبعاد قرداش عن مناطق القتال كان الهدف منه الحفاظ على حياته لقيادة التنظيم مستقبلاً، بالنظر إلى دراسته الدينية الأكاديمية، وتاريخه الممتد لنحو عقدين في التنظيمات الجهادية، ومعرفته التفصيلية ببنية التنظيم وهيكليته.

يقول سالم إنه حين التقى قرداش في البوكمال كان يستخدم قدماً اصطناعية بدلاً عن قدمه اليمنى التي فقدها في قصف جوي سابق استهدفه خلال حكم التنظيم لمدينة الموصل عام 2015.

ويقول معتقل آخر لدى خلية الصقور في مدينة الموصل، طلب منا عدم الكشف عن هويته لكونه شغل منصباً أمنياً في التنظيم ولم يُعلن عن اعتقاله حتى الآن، إن حجي عبد الله أصيب أثناء خروجه من منطقة الطيران راجلاً، حيث تم استهدافه من قبل طائرة مسيرة، يعتقد أنها أميركية، مما أدى لبتر ساقه وبقائه في المستشفى لنحو أربعة أشهر.

وتؤكد معلومات خلية الصقور رواية هذا المعتقل الذي سنطلق عليه اسم عمر، وتشير إلى أن هذه لم تكن المحاولة الوحيدة لاغتياله، إذ تعرض لمحاولة قتل أخرى باستهداف جوي خلال وجوده وسط المدينة بناء على معلومات قدمتها خلية الصقور، لكنه نجا منها أيضاً.

وبعد مغادرة قرداش شرق الفرات إلى إدلب بقليل، رافق سالم زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي الذي اضطر لعبور النهر إلى مناطق شرقي الفرات، بعد تأكد خسارتهم لمعركة البوكمال، حيث بدأ من هناك استكمال المعارك بالتزامن مع العمل على إعادة هيكلة التنظيم وتحديد أولوياته مع عبد الله قرداش، تمهيداً للعودة إلى ما يعرف في أدبيات التنظيم بما قبل “التمكين”.

لكن البغدادي اضطر لاحقاً لمغادرة شرقي الفرات، بعد أن كادت قوات سوريا الديمقراطية المعروفة بـ “قسد” تصل إليه في هجوم بغطاء جوي أميركي شنته على المنطقة التي كان يتحصن فيها في بلدة الباغوز نهاية العام 2018.

انتهاء الخلافة

بعد ذلك بأشهر، وتحديداً في الثالث والعشرين من مارس آذار عام 2019، وجد سالم الذي بقي في الباغوز نفسه محاصراً مع آخر مجموعة من مقاتلي التنظيم في مغارة صغيرة تطل على آخر حصونهم عند نهر الفرات، قبل أن يسلم نفسه بعد ذلك بقليل.

كانت قوات “قسد” وبدعم من التحالف الدولي قد بدأت بتأمين المكان الأخير الذي تحصن فيه التنظيم، وإزالة الرايات السوداء التي لا تزال مرفوعة، والتي ارتكبت باسمها أبشع الجرائم التي هزت العالم بأسره لسنوات.

وبدا وكأن المنطقة برمتها على موعد مع بداية جديدة تطوي صفحة خلفت ندوباً هائلة على جانبي الحدود، الجميع أراد أن يصدق ذلك، إذ كانت لحظة نشوة عارمة لكل من شارك في القضاء على التنظيم، فسقوط الباغوز يعني رمزياً انتهاء دولة الخلافة المزعومة التي أُعلنت قبل نحو خمسة أعوام، ونهاية لفصل من فصول الكارثة التي تسبب بها أبو بكر البغدادي وتنظيمه على المنطقة، لكن لا يبدو أنه الفصل الأخير.

انحسار سيطرة التنظيم على الموصل في 2017

إذ يؤكد غالبية من التقيناهم من المعتقلين أن قادة التنظيم لم تراودهم أي أوهام بشأن قرب الهزيمة، حتى قبل ذلك بكثير، وبالتحديد بعد خسارتهم للجانب الأيسر من مدينة الموصل، وأنهم استعدوا لذلك مبكراً، وأن الترتيبات التي اتخذها البغدادي كافة تمت بالتنسيق مع قرداش، الذي يجمعون على أنه أكثر تشدداً وتطرفاً من سلفه.

بعد الهزيمة الأخيرة في الباغوز ببضعة أشهر ظهر البغدادي في تسجيل مصور من مكان غير معروف، اتضح لاحقاً أنه مقر إقامته في إدلب، ويُعتقد أن قرداش كان أحد ثلاثة اشخاص ظهروا في التسجيل لم يتم الكشف عن وجوههم.

وفي السابع من آب أغسطس 2019 قالت “وكالة أعماق” التابعة للتنظيم إن أبو بكر يرشح قرداش خليفة له، ليقتل بعدها البغدادي بعملية إنزال أميركية في ريف مدينة إدلب، ويعلن التنظيم اختيار أبو إبراهيم الهاشمي القرشي لخلافته.

وأكدت واشنطن والاستخبارات العراقية أن أبو إبراهيم الهاشمي القرشي هو عبد الله قرداش أو حجي عبد الله، رغم تحفظ التنظيم وعدم الكشف عن أي معلومات عن الرجل. ورفعت وزارة العدل الأميركية الجائزة لمن يدلي بمعلومات تقود لقتله أو اعتقاله لعشرة ملايين دولار أميركي.

ورغم قلة المعلومات المثبتة والمتوفرة عن الرجل، استطاع فريق بي بي سي الحصول على وثائق وصور ومعلومات تنشر للمرة الأولى، تكشف أن قرداش من الرعيل الجهادي الأول في العراق، وأنه تدرج في مناصب دينية وأمنية كبيرة داخل التنظيم طيلة العقدين الماضيين، وأنه يعمل حالياً متخفياً من مناطق نفوذ سيطرة قوات سوريا الديمقراطية لإعادة بناء التنظيم، بحسب ما أكد مصدران استخباراتيان عراقيان.


خلية الصقور

على بعد نحو خمسة وثلاثين كيلومتراً غربي مدينة الموصل، تقع قرية المحلبية ذات الغالبية التركمانية، التي اكتسبت مؤخراً شهرة خاصة، مع تأكد تحدر زعيم تنظيم الدولة الجديد منها.

خلية الصقور – صور بي بي سي

بمرافقة وحدة من خلية الصقور التابعة للاستخبارات العراقية، حاولنا تقصي حقيقة هذا الرجل، حيث يتابع الرائد احمد، وهو اسم مستعار، أدق التفاصيل المتعلقة بزعيم التنظيم، بهدف التوصل لأي معلومات تقود لقتله أو اعتقاله.

ويحرص ضباط وعناصر هذه الخلية على إخفاء هوياتهم، إذ يُعتبرون أهدافاً هامة للتنظيم بالنظر للدور الكبير الذي لعبوه في تفكيك شبكاته واعتقال الآلاف من عناصره.

وبحسب سجلات الخلية فإن عبد الله قرداش، واسمه الكامل أمير محمد سعيد عبد الرحمن السلبي المولى،ولد في بلدة المحلبية التابعة لمحافظة نينوى عام 1976، لوالدٍ كان مؤذناً في أحد الجوامع، ومتزوج من امرأتين أنجبتا سبعة ذكور، أمير أصغرهم، إضافة إلى تسع إناث.

ويقول الرائد أحمد إن عبد الله قرداش كان يدير أغلب أمور “دولة الخلافة” حتى قبل مقتل أبو بكر البغدادي، وهو معروف في أوساط التنظيم على أنه صاحب فكر ودراية كاملة بعناصر التنظيم، على اعتبار أنه بدأ العمل معهم منذ العام 2003-2004.

ويقول المعتقل عمر إنه التقى عبد الله قرداش ثلاث مرات حين كان على رأس عمله في الجهاز الأمني للتنظيم في الموصل، وإنه كان يشغل منصب قاضي الدولة، بمثابة وزير العدل، وأنه بالإضافة لذلك كان يشرف على ديوان الجند والدواوين الأربعة عشر الأخرى.

وتعرف عمر على صورة قديمة لأمير عرضناها عليه، وأكد أنه هو عبد الله قرداش، لكنه اختلف كثيراً لاحقاً، إذ بات كث اللحية ويلبس عمامة ولباساً عسكرياً، كما يحمل سلاحه معه أينما حل.

يقول الرائد أحمد إن حجي عبد الله كلف بتأسيس معهد في “كلية الإمام الأعظم” في مدينة الموصل، لإعداد القضاة ورجال الدين، وهو منصب في غاية الأهمية بالنسبة للتنظيم للحفاظ على استمرارية فكره، على حد قوله.

وبحسب سجلات خلية الصقور، فإن أمير كان يواظب على الحضور في المعهد ويلقي عدة محاضرات في الأسبوع لرجال الدين الذين يسميهم التنظيم بالشرعيين وكذلك للقضاة، وإنه كان من بين المحاضرين في المعهد أيضاً عبد الرحمن القادولي، المعروف بأبي علي الأنباري، أحد أهم الشخصيات في قيادة التنظيم.

بعد بدء عمليات التحالف ضد التنظيم عام 2015، قُتلت مجموعة من أهم قيادات الصف الأول، ومن بينهم أبو معتز القرشي المعروف بأبي مسلم التركماني الذي كان يشغل منصب نائب البغدادي وقتل بقصف جوي استهدف سيارته في الموصل، وأبو علي الانباري الذي واكب انضمام عبد الله قرداش للتنظيمات الجهادية منذ اليوم الأول، وقُتل بتفجير نفسه خلال اشتباك مع قوة أمريكية اعترضت طريق عودته للعراق قادماً من سوريا.

ويقول المعتقل عمر إنه بمقتل هذين الرجلين على وجه التحديد، وغيرهم من قياديي الصف الأول والثاني، لم يتبق للبغدادي من خيار إلا الاعتماد على حجي عبد الله ذو المعرفة الدينية والأمنية والتنظيمية الكبيرة.

تصدعات البيت الداخلي

وبعيداً عن الأنظار، كانت خلافات عميقة تعتمل بين قادة التنظيم، العراقيين والمهاجرين، لم تتضح أبعادها آنذاك، إلا أن الكثير من المعتقلين الذين التقتهم بي بي سي يؤكدون أنها كانت سبباً رئيسياً في تضعضع قوته.

في آب أغسطس عام 2014، وبينما كان التنظيم يعمل على توسيع مناطق نفوذه، اجتاح مدينة سنجار غرب الموصل، وأقدم على قتل الآلاف من سكانها الإيزيديين وسبي النساء بحجة تطبيق الشريعة، ما تسبب بكارثة لا تزال فصولها مستمرة.

إيزيديون يفرون من سنجار

كان هناك تباين إزاء هذه الخطوة بين قيادة التنظيم، لكن أمير، مع مجموعة من المراجع والقياديين الأكثر تطرفاً من غير العراقيين، أصر على تطبيقها.

يقول سالم الجبوري إن رأي أبو علي الأنباري كان بعدم سبي النساء الإيزيديات ، لأن “التنظيم حديث العهد وما سيترتب على هذه الخطوة من تبعات أكبر بكثير من فوائدها”، إلا أن حجي عبد الله أصر على السبي باعتبارها “مسألة مبررة ضمن أصول الدين الإسلامي وطبقت تاريخياً، فأصر على إحيائها”.

وبحسب سالم فإن حجي عبد الله خالف قرار القيادة العراقية للتنظيم، وأيد قرار قيادة المهاجرين بتطبيق السبي الذي دعمه البغدادي لاحقاً.

وهو ما يؤكده ايضاً المعتقل الأمني عمر الذي يوضح أنه كان هناك لجنتان، إحداهما في العراق والأخرى في الشام، وأن قرار غالبية “لجنة العراق” كانت رفض سبي الإزيديات لكونهن عراقيات، وخوفاً على نسائهم وعوائلهم من الانتقام مستقبلاً، وأن هذا كان موقفهم من سبي المسيحيات ايضاً، إلا أن قرار “لجنة الشام” كان أقرب للبغدادي كونه اتخذ من مدينة الرقة السورية مقراً له في تلك الفترة، فأقر حلاً وسطاً بسبي اليزيديات وترك المسيحيات، وهو ما اعتُبر انتصاراً لرأي عبد الله قرداش.

ولا يعني كلام المعتقلَين سالم وعمر بأن قادة التنظيم العراقيين كانوا أكثر واقعية وتهاوناً في تطبيق تفسيراتهم للشريعة الإسلامية، إذ أن قيادة التنظيم العراقية هي من كانت أمرت ونفذت قبل ذلك بقليل قتل أكثر من 1700 متدرب شيعي اعتقلهم التنظيم بينما كانوا في طريق عودتهم لمنازلهم من قاعدة سبايكر في محافظة صلاح الدين.

لكن اللافت آنذاك أن التباينات داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالبغدادي بدأت بالتحول لتصدعات، ووجهت اتهامات لتيار متشدد يعرف بـ “الحازمي” نسبة لرجل الدين السعودي أحمد بن عمر الحازمي، بإحداث “فتنة” خاصة بعد إصدارهم فتوى عامة بتكفير مجتمعات سنية مسلمة، أدت لاعتقالات واغتيالات ستتطور لاحقاً لاقتتال داخلي في لحظة حرجة.

إعادة الهيكلة

وتزامن تعمق هذه الأزمات مع بدء هزائم التنظيم، خاصة بعد بدء عملية الموصل وخسارة الجانب الأيسر من المدينة مطلع عام 2017، حيث أمر البغدادي بنقل قيادات التنظيم كافة للحدود العراقية السورية.

يقول المعتقل الأمني عمر إنهم خرجوا من الموصل بطريق عسكري عبر تلعفر ومنطقة الجزيرة وذهبوا إلى الشام. وتوكد مصادر استخباراتية عراقية ومعتقلون من التنظيم أن البغدادي بدأ على الفور العمل على إعادة هيكلة التنظيم بعد وصوله مدينة القائم الحدودية.

يقول سالم الجبوري الذي رافق البغدادي في تلك الفترة إن الأخير كان يعلم يقيناً بأن التنظيم سيخسر “التمكين”، وبدأ على الفور بإصدار الأوامر لأمنيي التنظيم وما يعرف بوزير الحرب لإعادة “الدولة” إلى ما قبل حالة “التمكين”.

يقول الرائد أحمد من خلية الصقور إن أولويات التنظيم آنذاك، وبعد المراجعات التي أجراها، تمثلت بضرورة الحفاظ على عصبين رئيسيين هما الفكر والمال، وأن حامل الفكر الأول كان عبد الله قرداش.

ولم تمهل القوات العراقية التنظيم وقتا لإعادة ترتيب صفوفه، وتمت مهاجمة القائم في نهاية تشرين الأول أكتوبر عام 2017، فعبر البغدادي والقيادات التي كانت معه بمن فيهم حجي عبد الله إلى مدينة البوكمال السورية على الجانب الآخر من الحدود، حيث شهدا الهزيمة الأخيرة للتنظيم بعد ذلك بقليل، وقتل البغدادي لاحقاً وتسلم قرداش زعامة التنظيم، وهو ما فتح باباً كبيراً من الجدل داخل صفوف الجهاديين بشأن أحقيته بهذا المنصب.

أصول قرداش

أثار اختيار عبد الله قرداش كخليفة للبغدادي نقاشاً كبيراً داخل أوساط التنظيم وصل حتى السجون بشأن خلفيتها لإثنية، وما إذا كان من أصول عربية او تركمانية، وهو ما سبب جدلاً كبيراً بشأن أحقية تسلمه لهذا المنصب.

خاص بي بي سي

وحصلت بي بي سي على وثيقة الجنسية العراقية التي أصدرت للطفل أمير عام 1988، والتي تشير إلى اسمي والديه، وكلاهما توفيا منذ سنوات، وتوضح الوثيقة أن مسقط رأسيهما هي بلدة “الشورة” ذات الغالبية العربية وليس التركمانية.

لكن البحث في أسباب ذلك لا يثبت أصل أمير العربي، إذ لا يعني ذكر “الشورة” كمسقط لرأس والديه أنهما يتحدران من هناك، وإنما يعود سبب ذلك لتبعية قرية “المحلبية” إدارياً لبلدة “الشورة” في ذلك الوقت، قبل أن يقوم نظام صدام حسين بإعادة هيكلة المحافظة، وتحويل “المحلبية” لناحية تتبع إدارياً محافظة نينوى.

ويقول خبير الأنساب في ولاية نينوى نزار السعدون لبي بي سي إن أصول غالبية عائلة المولى في محافظة نينوى عربية، وتعود لفرع عشيرة البوريشة العباسيين، بمن فيهم موالي المحلبية، وكلهم يرجعون لبني هاشم، لكنه رفض أن يدخل في تفاصيل نسب عائلات بعينها لما قد يتسبب به ذلك من حساسيات وأزمات بين العشائر المعنية.

وعلم فريق بي بي سي أن حجي عبد الله حرص على تثبيت نسبة العربي منذ كان في الموصل عام 2015 عن طريق نساب توفي لاحقاً.

ويتحدر جزء كبير من القيادات الأمنية والعسكرية في “تنظيم الدولة”، وقبله “تنظيم القاعدة” من هذه المناطق، خاصة من مدينة تلعفر المجاورة. وتشمل هذه المنطقة المئات من القرى والبلدات ذات التركيبة السكانية المتنوعة أثنياً ودينياً وطائفياً، لكن كثيراً من الطائفة السنية بشقيها العربي والتركماني يعتبرون أنهم تضرروا على نحو كبير بعد سقوط نظام البعث عام 2003، وسيطرة الغالبية الشيعية على مفاصل الحكم في البلاد.

ويقول مدير ناحية المحلبية عبد الرحمن حسن الدولة إن “تنظيم القاعدة” بفرعه العراقي كان قد نشأ عام 2004 في هذه المنطقة التي تشمل جزيرة “المحلبية” و”تل عبطة” و”الحضر”، وهي منطقة شاسعة جداً تمتد إلى الحدود السورية، وأنه لاقى تأييداً كبيراً في المنطقة، لأن الحاضنة الاجتماعية كانت موجودة على حد قوله.

ويشير مدير الناحية إلى أن عائلة أمير لطالما عرفت بأنها مسالمة، واشتهرت بكونها عائلة متصوفة، لكنه يعتقد بأن نشاط التنظيمات الجهادية في هذه المنطقة هو ما أثر على أمير الذي انتقل إلى تلعفر طفلاً مع والده ليكمل دراسته الإعدادية والثانوية، قبل أن ينتقل بعدها إلى الموصل لإكمال دراسته الجامعية.

طريق التطرف

وتكشف وثائق جامعة الموصل التي استطاعت بي بي سي الوصول إليها أن أمير تخرج بمعدل ممتاز بتخصص علوم القرآن والتربية الإسلامية عام 2000.

وقال الرائد أحمد إن أمير توجه بعدها فوراً لأداء خدمته العسكرية لمدة عام ونصف عند أطراف بغداد، وإن رحلته مع التنظيمات الجهادية بدأت منذ ذاك الحين، قبل سقوط نظام البعث بالتواصل مع جماعة “أنصار الإسلام” السلفية الجهادية في كردستان العراق، عن طريق عبد الرحمن مصطفى القادولي المعروف باسم أبو علاء العفري وأبو علي الانباري.

وتعرضت جماعة “أنصار الإسلام” التي كان يقودها فاتح كريكار لقصف أميركي كبير خلال غزو العراق عام 2003، فأسس من تبقى من قادتها جماعة “أنصار السنة”، وانتقلت من جبال كردستان لتبدأ العمل ضد القوات الأميركية في العراق، ثم ما لبثت أن بايعت، بضغط من القادولي، تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي بحسب ما تقول صحيفة “النبأ” التي يصدرها التنظيم.

وفي جولة في مدينة تلعفر مع قوة من خلية الصقور، عرض الرائد أحمد لبي بي سي الأماكن التي سكنها أمير في تلك المرحلة، وقال إن تنظيم القاعدة استطاع السيطرة على المدينة لبعض الوقت بين 2004 و2005 قبل أن يتم طرده، وإن قيادات التنظيم وعناصره هربوا إلى مناطق أخرى، وأن أمير بالتحديد انتقل إلى مدينة الموصل.

فور انتقاله للموصل عام 2004، أكمل أمير الماجستير في الدراسات الإسلامية، وسرعان ما تدرج في تنظيم القاعدة، خاصة بعد مقتل الزرقاوي وإعلان خليفته ابو عمر البغدادي إقامة ما سمي بـ”دولة العراق الإسلامية”.

وتسلم أمير الذي عُرف في ذاك الوقت باسم أستاذ أحمد أيضاً، منصب “الشرعي العام” في الموصل عام 2007، وهو منصب كبير تمتد مهامه للكثير من تفاصيل الحياة الدينية والقضائية. كما تسلم أيضاً لفترة وجيزة نائب أمير الموصل قبل أن يتفرغ مجدداً لمنصبه كـ”شرعي عام”.

خاص ببي بي سي

وحصلت بي بي سي على صورة هويته الشخصية التي صدرت عام 2007، والتي توضح كيف كان يبدو شكله في تلك الفترة.

يقول الرائد أحمد إن أمير سكن جامع الفرقان في حي البعث في الجانب الأيسر من الموصل لبعض الوقت، وهو الجامع الذي كان يسكن فيه والده قبل أن يتوفى عام 2001، وأن أمير كان يلقي محاضرات في هذا الجامع بالتحديد.

تجربة بوكا

في مطلع عام 2008 داهمت قوة أميركية موقع أمير في الموصل واعتقلته، وأودع سجن بوكا، ومنح الرقم 326175 بحسب ما تظهر سجلات خلية الصقور. وخلافاً لما يُعتقد، لم يلتق أمير بأبو بكر البغدادي في هذا السجن، إذ كان البغدادي قد أُطلق سراحه بعد فترة اعتقال قصيرة انتهت عام 2004.

أمير في سجن بوكا

خضع أمير لتحقيقات أميركية مكثفة طيلة أشهر، واطلعت بي بي سي على بعضها لدى الاستخبارات العراقية.لكن اللافت فيها أن أمير أصر خلالها على أنه انضم للتنظيم في آذار مارس عام 2007 وليس قبل ذلك، وأنه كُلف بمنصب “الشرعي العام” فور التحاقه، بالإضافة لتعيينه نائباً لأمير الموصل في ذات العام.

بعد الاتفاق الأميركي العراقي عام 2009، وتسليم المعتقلين من السجون التي كانت تديرها قوات التحالف إلى الحكومة العراقية، تم إطلاق سراح أمير ضمن ترتيبات غير واضحة.

وتكشف بعض نصوص التحقيق التي سربتها واشنطن مع أمير إلى أنه تعاون بشكل كبير مع المحققين في الإدلاء بالكثير من المعلومات عن قيادة وعناصر التنظيم، بحسب ما توضح دراسة أعدها مركز محاربة الإرهاب الذي حصل على بعض هذه التحقيقات، والتي لا تشكل سوى ثلاثة محاضر من أصل 66 جلسة.

خاص بي بي سي

بعد خروجه، إستصدر امير بطاقة هوية ثانية عام 2012 حصلت بي بي سي على نسخة منها، توضح بعض التغير الذي طرأ على شكله آنذاك.

يقول الرائد أحمد إنه وفور خروجه من السجن التحق بأبي بكر البغدادي الذي كان قد تسلم زعامة التنظيم بعد مقتل أبو عمر البغدادي، ليعمل مجدداً كـ “شرعي” في محافظة نينوى.

وشهدت تلك الفترة إعادة بناء التنظيم بعد الانسحاب الأميركي، ونجاحه باجتذاب الكثير من العناصر الجدد، مستغلاً الاستياء الكبير بعد قمع حكومة نوري المالكي للتظاهرات في المناطق السنية، وكذلك للفراغ الأمني الذي تسببت به الانتفاضة في سوريا، وخروج مساحات واسعة عن سيطرة النظام في المنطقة المحاذية للحدود مع العراق.

وفي ظروف غامضة آنذاك، أغتيل عامر المولى، شقيق أمير، والذي كان يرأس اتحاد الطلبة التركمان في جامعة الموصل، ووجهت أصابع الاتهام لتنظيم القاعدة بالوقوف وراء العملية، دون أن تستطيع القوات الأمنية إثبات الاتهام، فيما غادر شقيقه الآخر عادل إلى تركيا بعد صدور مذكرة توقيف بحقه.

ويقول الرائد أحمد إن عادل كان ناشطاً في الجبهة التركمانية لسنوات في العراق، لكن تمت ملاحقته من قبل القوات الامنية بسبب ما وصفها بنشاطاته المشبوهة بدعم تنظيم القاعدة، وانه هرب الى تركيا بعد صدور أوامر باعتقاله.

وظل عادل ناشطاً بشكل علني ضمن الجبهة التركمانية العراقية في تركيا، وذلك لحين تعيين شقيقه كخليفة للبغدادي، ويُظهر الموقع الرسمي للجبهة على فيسبوك بعض الصور الخاصة به، لكنه اختفى عن الانظار وبات الوصول إليه صعباً.

ولم نستطع الوصول إليه للتعليق على اتهامات الأمن العراقي له.

وتوفي غانم الأخ الأكبر لأمير، والذي كان يعمل في مركز ناحية المحلبية لأسباب صحية بعد التقدم بالعمر، فيما يعيش من تبقى من إخوته وأخواته حياة طبيعية في الموصل وتلعفر والمحلبية، بحسب ما أكدت خلية الصقور التي تمتلك معلومات كاملة عن كل شخص منهم.

الاقتتال الداخلي

ورث عبد الله قرداش الذي بات يُعرف بأبو إبراهيم الهاشمي القرشي، تنظيما متهالكاً مرهقاً منقسماً على نفسه، قُتل عشرات الآلاف من قادته ومقاتليه، والآلاف ممن نجا منهم يقبع في السجون في العراق وسوريا.

وحاول التنظيم التكتم على الاقتتال الداخلي الذي جرى في المرحلة الأخيرة من عمره قرب الباغوز، والذي كانت شرارته اعتراض المئات من العناصر المهاجرين على قيادة أبو بكر البغدادي على خلفية صراعات سابقة بين تيارات داخل التنظيم، توجت باتهامهم لقيادة التنظيم العراقية بالتضحية بهم وتركهم لمصيرهم المجهول.

يقول سالم الذي كلف بقيادة قوة للقضاء على ما يصفه بـ “الفتنة” التي جرت آنذاك، إن نحو 350 شخصاً ممن يصفهم بـ “الخوارج” خرجوا لقتال التنظيم، وإنه تم القضاء عليهم حين كان البغدادي لا يزال في المنطقة.

ويشير المعتقل الأمني عمر إلى أن غالبيتهم كانت من الجزائر وتونس، وأنهم طالبوا بتنحية البغدادي وتعيين خليفة جديد، وأن مواجهة صعبة جرت في تلك الفترة الحرجة التي كان يمر بها التنظيم تحت أنظار قوات التحالف الدولي.

وخلافاً لتنظيم القاعدة الذي حدد مبكراً أولوياته بقتال “العدو البعيد” ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية، وإخراج قواتها من المنطقة بعد تدخلها في حرب الخليج الثانية عام 1991، فإن تنظيم الدولة الإسلامية الذي نشأ في ظروف ومعطيات مختلفة عقب غزو العراق، مر بمخاض انتهى بصيغة لا تتقاطع مع تنظيم القاعدة إلا في الجذور المشتركة للفكر السلفي الجهادي، لكنها تفترق حتى في تفسيراته التي دفعت قادته مبكراً للتصدي لـ”العدو القريب”، ممثلاً بالقوى التي قبلت العمل تحت مظلة القوات الأمريكيةوالبريطانية التي غزت العراق عام 2003، وهو ما تُرجم على الأرض بتكفير الشيعة بكل مذاهبهم، وتخوين السنة ممن قبلوا العمل معهم.

ويقول الباحث في شؤون الجماعات الجهادية حسن أبو هنية إن البعد الهوياتي بات هو الفاعل والمحدد الأكبر منذ تأسيس تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” بقيادة أبو عمر البغدادي الذي خَلَف تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين” بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي.

وتجلى ذلك على الارض بما يصفه أبو هنية بـ “عرقنة” التنظيم، وإعطاء الأولوية لقيادات عسكرية وأمنية سنية من النظام العراقي السابق للسيطرة على المفاصل الأهم في التنظيم، وإعادة بنائه كمنظمة شبه عسكرية مركزية الإدارة، ما أثبت نجاعته لاحقاً بعد تولي أبو بكر البغدادي زعامة التنظيم، والذي قاد بدوره مرحلة الانتقال إلى “التمكين”، وهو ما ألهم عشرات الآلاف من السوريين والمهاجرين من مختلف انحاء العالم للالتحاق بالتجربة، لكنه ادى إلى تصدعات كبيرة في صفوف التنظيم لم يجرِ بحث أثرها على انهياره على نحو واف حتى اليوم.

خطر السجون

وتعج السجون في العراق وسوريا بالآلاف من معتقلي التنظيمات الجهادية، الجزء الأكبر منهم من تنظيم الدولة الإسلامية، ورغم قسوة وفشل التجربة التي فرضوها على المنطقة، إلا أن الكثير منهم لا يزال يؤمن بالعنف وسيلة لتحقيق أهدافهم بإقامة “دولة الخلافة الإسلامية” وفق تصوراتهم المتطرفة.

من بين الشخصيات ذات المكانة الدينية الهامة والمقربة من البغدادي في تلك المرحلة كان حسام ناجي المعتقل لدى خلية الصقور، والذي يتمتع إلى اليوم بوضع خاص لدى المعتقلين بالنظر إلى شهرته كأحد اهم شرعيي التنظيم قبل اعتقاله، ومعرفته الشخصية بكبار قادة الصف الاول.

بدا الرجل هزيلاً متعباً حين التقيناه في سجن محصن قرب بغداد، واتضح لاحقاً أن إدارة السجن تصر على وضعه في زنزانة انفرادية بسبب استمرار ما تصفه بتأثيره السلبي على بقية المعتقلين وحثهم على التمسك بأفكارهم المتشددة.

اعتقل حسام بعد سيطرة تنظيم الدولة على الموصل بأسابيع قليلة، وكان يشغل قبل ذلك منصب المسؤول الشرعي العام في مدينة الفلوجة التي كانت تحت سيطرة التنظيم، وتلقى اتصالاً من أحد القيادات يحثه فيه على المجيء للموصل لتسلم منصب نائب قاضي الدولة الإسلامية، إلا أن رصد الاتصال من قبل الأجهزة الأمنية قاد لاعتقاله قبل التوجه إلى هناك.

تجنب ناجي الرد على سؤال بخصوص عبد الله قرداش، لكنه سجل الكثير من المآخذ الشرعية على اختيار البغدادي كـ”خليفة” قبله، ومن أهمها عدم وجود إجماع على شخصه، وأن “منازعيه أكثر من مؤيديه” على حد قوله، لكنه لا يخفي أن إعلان إقامة الخلافة كانت لحظةً لطالما انتظروها.

ويشرح ناجي أهمية الإعلان ليس بكونها هدفاً بحد ذاتها، وإنما لما تشكله من خطوة لا بد أن تتحقق كونها تستبق ظهور محمد المهدي، وهو إنسان عادي اسمه محمد بن عبد الله، تقول مصادر السنة إنه سيظهر فيما يعرف إسلامياً بـ”آخر الزمان”، وسيعمل على “نشر العدل والإسلام الصحيح وينهي الظلم والفساد على وجه الأرض ويحارب أعداء الإسلام”، بحسب النسخة السنية من الرواية الإسلامية.

ولا يزال الآلاف من المعتقلين في السجون يؤمنون بهذه الأفكار، ويوصفون من قبل الكثير من مراكز الأبحاث المعنية بدراسة التطرف بالقنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أي لحظة إذا ما تسنى لهم الهرب.

وكان التنظيم قد استطاع في يوليو حزيران عام 2013 تحرير المئات من المعتقلين في هجوم استهدف سجني أبو غريب والحوت التاجي، من بينهم قادة كبار من الصف الأول في التنظيم، أسهموا بدور فاعل في التخطيط والتنفيذ للسيطرة على الموصل وعدة مدن عراقية وسورية في العام التالي.

التحالف و”خذلان السنة”

ويرفض حسام كما غالبية من التقتهم بي بي سي من معتقلي التنظيم الاتهام بأن مغامرتهم أدت لكارثة على السنة في سوريا والعراق، وبأنهم كانوا سبباً مباشراً لدمار الكثير من مدنهم وبلداتهم في سوريا والعراق، وتشريد مئات الآلاف من سكانها، وبمنح فرصة غير مسبوقة تاريخياً لسيطرة قوى شيعية مدعومة من إيران على مناطق نفوذهم على جانبي الحدود.

ويقول غالبية من التقهم بي بي سي من المعتقلين انه لولا تدخل قوات التحالف، لما كان بالإمكان هزيمة مشروعهم مهما حشدت القوى المحلية في العراق وسوريا للتصدي لهم، وأن القصف الجوي المركز والاختراق الاستخباراتي التكنولوجي هو ما أدى بالدرجة الأولى إلى هذه الهزيمة، بالإضافة لما يصفونه بتخاذل المجتمعات السنية التي كانت تحت سيطرتهم عن نصرتهم، دون الاعتراف بالفظائع التي ارتكبوها بحق هذه المجتمعات خلال فترة حكمهم باسم الشريعة.

وبمتابعة مسار عمليات التنظيم منذ إعلان هزيمته في الباغوز، يبدو واضحاً التصاعد الكبير في استهداف خلاياه لوجهاء المجتمعات السنية في سوريا والعراق الذين يتهمونهم بالعمل مع القوات الأمنية.

وبحسب تقديرات البنتاغون، لا يزال نحو عشرة ألاف مقاتل طلقاء في البلدين، ورغم صعوبة تنظيم عملهم نتيجة تقطع أوصال المناطق التي ينشطون فيها، وصعوبة التواصل بين قيادة التنظيم وخلاياه، إلا أنهم استطاعوا أن يوجهوا الكثير من الضربات الخاطفة والتي خلفت مئات القتلى والجرحى.

وتعتقد الأجهزة الأمنية العراقية إن ثمة مبالغة في الأرقام التي تقدمها جهات استخباراتية غربية وتدعمها تقارير الأمم المتحدة، وتقول إن التنظيم قد أُضعف على نحو كبير.

ويقول قائد جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي إن من تبقى من مقاتلي التنظيم يوجدون حالياً في المناطق الصحراوية والوعرة، والأماكن التي تمتاز بكثافة الأشجار التي تؤمن لهم مخابئ طبيعية.

الفريق الساعدي يتحدث مع مراسل بي بي فراس كيلاني

وأشار الساعدي خلال حديثه لبي بي سي إلى أنهم يمتلكون كافة التفاصيل والمعلومات عن الخليفة الجديد، لكنه لم يعد يشكل خطراً، إذ أن كل من يتم اعتقالهم من خلايا التنظيم يقولون إنهم بايعوا شبحاً، وأنهم لدى التحقيق معهم يؤكدون انهم لم يلتقوا به أو يسمعوا صوته على حد تعبيره.

لكن الرائد أحمد يقول بأن ذلك كان صحيحاً في الأشهر الأولى لاختيار عبد الله قرداش خليفة للبغدادي، وأن الضعف وعدم القدرة على التواصل خلال تلك الفترة تسبب بتأخير الحصول على ما يُعرف بالبيعات، كما جرى في مناطق نينوى والبادية والجزيرة، إذ تطلب الامر أكثر من أربعة أشهر للحصول على البيعات عبر بريد ورقي مباشر يقوم بنقله أشخاصٌ مؤتمنون من قيادة التنظيم.

قرداش في سوريا

وتتفق خلية الصقور وجهاز مكافحة الإرهاب على أن عبد الله قرداش يوجد حالياً في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، إلا أن الجهاز يقول إنه يعبر الحدود القريبة مع العراق بين الحين والآخر.

ويقوم التحالف الدولي بين الحين والآخر بعمليات إنزال ومداهمات أرضية في المناطق الممتدة من جنوب مدينة الحسكة وصولاً لنهر الفرات، وأعلن اعتقال وقتل بعض قيادات التنظيم، دون أن يشير إلى وجود قرداش في تلك المنطقة، علماً أن مساحات واسعة من هذه المناطق المحاذية للحدود العراقية لم يتم تأمينها وتنظيفها من الخلايا النائمة منذ طرد التنظيم منها عام 2018-2019، وتشهد حالات اغتيال وهجمات بشكل يكاد يكون شبه يومي.

وكان جهاز مكافحة الإرهاب وقوات “قسد” أعلنا في بيانين منفصلين في مايو /أيار 2020 قتل قوات التحالف لحجي تيسير وقال إنه كان يشغل منصب “والي العراق”، في قصف استهدف موقعه في ريف دير الزور شرقي الفرات، وادعا الطرفان بأنهما قدما معلومات استخباراتية حددت موقعه.

لكن بي بي سي علمت من مصدر استخباراتي عراقي على علاقة وثيقة بالقوات الأميركية إن الرجل، واسمه الحقيقي معتز نعمان عبد نايف الجبوري، لا يزال حياً ولم يقتل، وهذا ما يفسر استمرار وجود اسمه في لائحة وزارة العدل الأميركية مع جائزة تصل إلى عشرة ملايين دولار.

جبار سلمان – أبو ياسر – “والي العراق”

وبحسب خلية الصقور فإن قرداش يعمل مع هيكلية قيادية جديدة حالياً ضمن لجنة تسمى “اللجنة المتنفذة”، كانت تسمى سابقاً بـ”اللجنة المفوضة العليا”، وتضم نائبه رئيس اللجنة سامي جاسم محمد الجبوري المعروف بحجي حامد، وعضوا اللجنة بشار خطاب الصميدعي المعروف بحجي زيد، ومعتز نعمان عبد نايف المعروف بحجي تيسير، مع مجموعة من قادة القواطع، لإعادة بناء التنظيم وفق تكتيكات تختلف من مكان إلى آخر بحسب الأوضاع الأمنية.

وقبل بضعة أيام أعلنت الحكومة العراقية وقوات التحالف الدولي مقتل والي العراق، جبار سلمان علي العيساوي، المعروف بأبو ياسر في عملية مشتركة جنوبي مدينة كركوك. وفيما اكتفى التحالف بوصفه بالمسؤول الأكبر في التنظيم في العراق، أضافت الحكومة العراقية إنه نائب الخليفة أيضاً، لكن مصدراً استخباراتياً عراقياً أكد لبي بي سي أن نائب الخليفة هو رئيس اللجنة المتنفذة حجي حامد وليس أبو ياسر.

تكتيكات الزرقاوي

ويقول الرائد أحمد إن هذه التكتيكات تتقاطع كلها بالعودة إلى منهجية مؤسس تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين” أبو مصعب الزرقاوي.

أبو مصعب الزرقاوي

فالتنظيم اليوم اعتمد اللامركزية عبر مفارز أمنية صغيرة تتبع عمل التنظيم الخيطي، والذي يسمى في العراق بـ”الربطة”، وتتخذ من مضافات في مناطق نائية مقرات للتخطيط والعمل، وتعتمد على حروب الاستنزاف لإرهاق القوات الأمنية ضمن مساحات كبرى خارج المدن، وإرهاب المجتمعات السنية لردع ومنع تشكيل قوات صحوة جديدة، ودفع الشيعة مجدداً لصراع طائفي عبر استهداف مزاراتهم كما حدث في أكثر من محاولة للهجوم على سامراء.

وتختلف هجمات التنظيم التي يشنها من مكان لآخر.

ففي البادية السورية غرب الفرات، حيث لا يزال التنظيم يسيطر على بعض المساحات التي تقع ضمن نطاق عمليات الجيش السوري والروسي والفصائل الشيعية، تتميز الهجمات هناك بأنها أكثر ضراوة وتستمر لساعات طويلة في بعض الأحيان، وكبدت الجيش السوري وحلفائه خسائر كبيرة، كما في الهجوم الذي وقع عشية رأس السنة وقتل فيه نحو 40 جندياً نظامياً سورياً كانوا في طريقهم لقضاء إجازة.

أما في شرقي الفرات، حيث مناطق عمليات التحالف الدولي مع قوات سوريا الديمقراطية، تركز خلايا التنظيم على استهداف الرموز العشائرية والمتهمين بالعمل مع قوات “قسد” من عرب المنطقة، خاصة في أرياف محافظات دير الزور والحسكة والرقة.

وفي العراق اتسع نطاق هجمات التنظيم التي تستهدف القوات الأمنية لتطال عدة محافظات، خاصة في ديالى وصلاح الدين وكركوك ونينوى وبعض مناطق الأنبار، وما يميزها هو أنها في غالبيتها هجمات سريعة خاطفة لا تترك مجالاً كبيراً للانتقام من أهداف محددة.

كما استهدفت خلايا التنظيم بالاغتيال في هذه المناطق أيضاً عشرات الوجهاء العشائريين المتهمين بالعمل مع القوات الأمنية، وقوات الحشد الشعبي التي تنتشر في المحافظات السنية منذ انتهاء الحرب ضد التنظيم رسمياً.

ومن الملاحظ أن التنظيم لم يلجأ منذ عامين إلى استخدام السيارات المفخخة في هجماته لا في بغداد ولا في غيرها من المدن التي تقول تقديرات استخباراتية إنه لا يزال يحظى فيها بإمكانية تحرك أكبر، وهو الأمر الذي قد يشير إلى مراجعة غير معلنة لجدوى وفعالية هذا الأسلوب الذي كبد القوات الأمنية خسائر كبيرة خلال معارك استعادة السيطرة على المدن العراقية، إلا أنه أدى لسقوط الكثير من القتلى في صفوف المدنيين السنة، وهو أمر وإن كان يجد تبريراته الدينية لدى التنظيم المتطرف منذ أيام الزرقاوي، إلا أنه تسبب في تصاعد النقمة على نحو كبير ضد تنظيم الدولة في أوساط من يدعون تمثيلهم من السنة.

وقبل أيام قليلة فجر انتحاريان يرتديان أحزمة ناسفة نفسيهما في سوق في ساحة الطيران وسط بغداد، ما أدى لمقتل 32 مدنياً، وقالت خلية الإعلام الحربي إنهما فجرا الأحزمة بعد ملاحقتهما من قبل القوات الأمنية، دون أن يتضح الهدف الذي كانا يسعيان للوصول إليه.

ويثير الحادث تساؤلات بشأن إمكانية اختراق الأجهزة الأمنية الموجودة بكثافة كبيرة جداً داخل العاصمة، كما يعكس سعي التنظيم لتخفيف حجم الإصابات في صفوف السنة، وذلك باستهداف مجموعات محددة بأحزمة ناسفة وليس بسيارة مفخخة، إضافة إلى قرار التنظيم بالعودة لاستهداف بغداد تحديداً، والتي شهدت هدوءً غير مسبوق خلال الأعوام الأربعة الماضية لم يسجل منذ سقوط نظام البعث عام 2003.

“باقية” رغم التصدعات

مبايعة الخليفة الجديد – صور “الدولة الإسلامية”

يبقى المؤكد أن الفصل الأخير من هذه التجربة الدامية لم يكتب بعد، فالكثير جداً مما دفع لنشأة الظاهرة الجهادية وتمددها واستنساخها لا يزال قائماً، والتصدعات في بنية العراق وسوريا، المعقل الأهم للتنظيم، ما فتئت تتعمق دون أي بدائل تلملم مكوناتهما وتوحدهما على مشاريع وطنية.

وبالعودة لتقييم التجربة، يبدو صحيحاً القول إن قادة التنظيم قد نجحوا في الاستثمار في المظلومية السنية، لكنهم فشلوا في تقدير موازين القوى الإقليمية والدولية، فارتدت مشاريعهم كوارث على المنطقة برمتها، وعلى سنتها على وجه التحديد، فما الفارق الذي قد يستطيع أمير، الذي بات خليفةً بلا خلافة أن يحدثه هذه المرة؟

يرفض كثر من المعتقلين الذين التقيناهم على امتداد السنوات الماضية في سوريا والعراق الاعتراف بهزيمة التنظيم، ويصرون على أن إحياء دولة الخلافة الذي نجح لبضع سنوات في سوريا والعراق، وقُوض بتضافر جهود دولية من مختلف أصقاع العالم، قد انتشر في العديد من أنحاء العالم الإسلامي من شرق آسيا إلى غرب افريقيا.

ويعتقد غالبية الخبراء بالتنظيمات الجهادية أن هذه المرحلة هي مرحلة مراجعة وتجهيز من قبل التنظيم قد تمتد لسنوات، في انتظار لحظة مواتية لبعثٍ جديد، لكن برصيد يناهز العشرة آلاف مقاتل، وإكمال الانسحاب الأميركي من العراق وسوريا، وانتهاء عمليات التحالف ضد التنظيم، وتثبيت انتصار طرف أهلي على آخر، يبدو أنها مسألة وقت قبل أن تشهد المنطقة دورة أخرى من دوامات العنف الأعمى، والذي بات يُخشى أن يتخذ أبعاداً طائفية إقليمية قد تشمل الكثير من دول المنطقة، دون أن تجد من يهتم بإنقاذها من نفسها مجدداً، وهو ما يبدو أن التنظيم يعول عليه كما حدث في أفغانستان، حيث اضطرت القوات الأمريكية للتفاوض مع حركة طالبان للانسحاب ضمن ترتيبات غير معلنة، عنوانها غير المعلن: لا ضرر ولا ضرار.

المصدر / بيب بي سي

اترك تعليقاً