ولم تعد موسكو مجرد مشارك، بل فاعل رئيس في صياغة العبارة الدولية، وصانع ماهر في بلورة المشاهد الأممية، ولا يكاد يوجد ملف من الملفات الساخنة في العالم، لا تلعب فيه روسيا  دوراً متقدماً.

حين اختار الرئيس الروسي بوريس يلتسين خليفته القادم من دهاليز الاستخبارات الروسية العتيدة ” كي جي بي”،  لم يكن أحد يدري من هذا القائد الجديد، الذي لا  يتجاوز السابعة والأربعين من عمره، والذي أُلقيت على كاهله مسؤولية جسيمة تتصل بواحدة من أقوى الامبراطوريات التاريخية وإن بقيت على  الأطلال.

منذ بدايات أيامه، اعتبر بوتن أن ما جرى للاتحاد السوفييتي هو الخطأ التاريخي الاكبر في القرن العشرين، وقد حمل ثأره في صدره، وأغلق عليه، وفي الوقت عينه كان يخطط للانتقام بطريق إيجابي، وليس من خلال الحروب ولا الأزمات.

أفضل ما قيل في بوتن،  أنه رجل بارع في اقتناص الفرص، وصاحب قدرة عالية على  المناورة المحسوبة، ومعرفة  كيفية الالتفاف على الخصوم، وتالياً حشرهم في زوايا ضيقة، تحرجهم وتحد من خياراتهم، ولاحقاً تنتهي بهم إلى قرارات ضعيفة أو غير مؤثرة،  يكون هو غالباً  الرابح الأكبر من ورائها.

مثير جداً شأن المقاربة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، ونظيره الأميركي دونالد ترامب، ذلك أن الأول يبدو قارئاً جيداً للتاريخ وأضابيره، وللجغرافيا  وخرائطها، وقديماً قال شارل ديجول رجل فرنسا وجنرالها  الأهم في القرن العشرين: “السياسة لا تقرأ من غير الخرائط “، فيما الثاني لا دالة له سوى على  عقد الصفقات، والتي ستدفع أميركا تكلفتها عالية وغالية، في المدى القريب والمتوسط،  لا سيما  من سلسلة الانسحابات الأخيرة من العالم.

حين دعا بوتن إلى  قمة سوتشي ، تلك التي تسعى إلى تعزيز العلاقات الإفريقية – الروسية،  فقد كان في ما  ورائيات الثعلب الروسي، أن يسترجع ميادين نفوذ كانت  يوماً ما للاتحاد السوفيتيي السابق،  يوم أن كانت مصر على  سبيل المثال قاعدة  مثلثه، وأضلاعه تمتد من إثيوبيا في الجنوب، وترتفع إلى  الجزائر أقصى شمال غرب إفريقيا.

يذهب بوتن إلى أن القارة الإفريقية أضحت أرضاً خصبة لتنافس حضاري،  وهناك ذكاء شديد للرجل في اختيار كلماته، الأمر الذي يليق بضابط استخبارات عسكرية سابق في ألمانيا الشرقية، إذ لا  يضع المشهد في سياقات التنافس العسكري، ذاك الذي كرهه أصحاب تلك البلدان في القرن الماضي، ومجرد ذكره يستدعي ذكريات مؤلمة.

تنافس حضاري تجري مفاعليه بين روسيا والقوى العالمية الأخرى، من أجل التاثير على إفريقيا، وهو يدرك أن منافسيه  الرئيسيين هناك، كما في الأيام الخوالي،  دول الاتحاد الأوروبي  الحالية، وعلى رأسها فرنسا  والمملكة المتحدة، ناهيك عن الولايات المتحدة، والتي لا تزال تسعى في طريق ” القرن الأميركي”، أي أن يكون القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً بامتياز من غير منافس أو شريك،   إضافة ولا شك إلى الصين، التنين الصاعد في سماوات القارة السمراء والقابض بأسنانه على  فوائض نقدية تقدر بمليارات الدولارات، يسخرها من أجل توازن الردع  النقدي مع  الأقطاب الدولية المتسارعة للتصارع هناك، وأخيراً الهند التي باتت تلعب دوراً  مرموقاً للغاية داخل الأدغال الإفريقية.

يتفهم بوتن جيداً حقيقة اللحظة الآنية بمهارة عالية،  ففي حين تتخلى الولايات المتحدة عن بعض أصدقائها ،  وبمعنى أدق هذا ما يقوم به الرئيس ترامب،  يعمل بوتن جاهداً على  تعزيز فكرة  الشراكة مع الأفارقة  وإقناعهم بأن موسكو – بوتن شريك موثوق وواعد من وجهة نظر استراتيجية ، وسياسية، واقتصادية، وبالتالي  فإن روسيا اليوم تستطيع أن تؤلف مداراً  معيناً من البلدان التي تنظر في السياق السياسي الدولي بشكل مشابه لنظرة قيادة روسيا.

هناك أيضاً  جزئية مهمة للغاية، تتبدى ملامحها  ومعالمها من عند قمة سوتشي، وموصولة بالنظرة الاقتصادية للأزمات التي أدخلت فيها الرأسمالية البواح العالم، وما  جلبته نظريات النيوليبرالية الاقتصادية من مهالك على  العالم، وقد يكون العام المقبل بدوره عاماً  لخسائر فادحة في هذا الشأن.

ينظر الأفارقة اليوم للتجربة الروسية في النمو بعين بها  كثير من التقدير،  لاسيما   لجهة فكر التنمية من منظور اشتراكي، ولعل من عجائب الحياة المعاصرة، أن يرتفع صوت الاشتراكيين الجدد في الداخل الأميركي مؤخراً، في محاولة لاستنقاذ الأميركيين من وهدة الرأسمالية الجامحة، وهنا فإن موسكو – بوتن لديها فرصة تاريخية لأن تعيد تقديم نفسها – كما فعلت في سوتشي – لنحو 47  دولة إفريقية، بوصفها  شريكاً لا  طرفاً استعمارياً أو غازياً بقوة السلاح، كما فعلت  الولايات المتحدة  في الشرق الأوسط عام 2003 حين مضت إلى  احتلال العراق، ذلك المستنقع  غير القادرة على الخلاص منه حتى الساعة.

القيصر الروسي يعيش البراجماتية ولكن بشكل أقرب ما يكون إلى  مفهوم تبادل المنافع،  ذلك أنه لا  يحب إفريقيا السمراء مجاناً، فالعواطف تنتفي في عالم المال والأعمال، الأمن والسياسات، لكن لا  بأس من تعظيم المنافع الاقتصادية والجيوسياسية، لا سيما  إذا كان منافسه ترامب مهموماً ومحموماً بالانعزال والتمترس وراء المحيطين الأطلسي من الشرق والهادي من الغرب.

آفاق التعاون أمام موسكو في إفريقيا عريضة، وتتركز في قطاع الطاقة بنوع خاص، ولدى  الروس ورقة ذهبية هي المحطات النووية السلمية لتوليد الطاقة، وقريباً سنرى الرجل على  ضفاف المتوسط في منطقة الضبعة المصرية مشاركاً في افتتاح محطة كهروذرية هي الأولى من نوعها في مصر،  وهناك قطاعات التعدين، حيث لا تزال إفريقيا  قارة بكر مليئة بالكنوز الطبيعية،  وكذلك تبقى الحاجة إلى  شبكات الطرق والسكك الحديدية  مسارات للتعاون الخلاق، وربما لهذا  كله قدمت روسيا عربوناً للأفارقة من خلال إسقاط 20 مليار دولار ديون  على  دول إفريقية، واستخدام تلك الأموال  لتمويل مشاريع  النمو الاقتصادي  الوطني، مما يجعل روسيا  قطباً دولياً مرحباً به في إفريقيا.

من عادة الثعلب تاريخياً أنه يقدم ولا يحجم، ولا يؤمن بفكرة القيادة من الكواليس، ولهذا نرى بوتن مرحباً  ومستعداً للتدخل بشكل جاد وجدي في أي منازعات بين الأشقاء الأفارقة،  كما الحال في إشكالية سد النهضة، ويقين الجميع  أنه طرف ناجز وفاعل وليسأل من لا يصدق السوريين والأتراك.

إنه زمن القيصر بوتن وانتصاراته بلا شك.

المصدر / سكاي نيوز عربية