السيمر / فيينا / الأحد 07 . 08 . 2022
سليم الحسني
كان يعرف أنه يموت قتلاً في كربلاء، فسار مع الحسين يحمل لواءه، فما خلق الله يداً أجدر من يد العباس بحمل لواء الحسين في كربلاء.
جيوش يزيد قليلة بعين العباس، إنها جراد منتشر في الصحراء. تعالوا يا آل أبي سفيان بضعف جندكم، بأضعافهم عدداً، فلن يثبتوا أمام وثبة العباس إذا جال في الميدان.
هذا ابن عليّ الذي ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله، فهل تعيق جموعكم صولة ابن عليّ إنْ حمل سيفه بيمينه؟
يعرف جند يزيد أن القادم هو العباس. اهتزت الأرض تحت حوافر الخيول، فسرت رعدة الخوف الى فرسانها. صار معسكر يزيد عشبةً برّية يابسة حين برز العباس للميدان. تفرّقوا عنه يحذرون سيفه، فلا نجاة من ضربة العباس إنْ هوى بسيفه. أما تسمعون صليله؟ أما ترون فرسانكم تناثرت عن يمينه وشماله؟. سيبيدكم يا جموع الشرّ ويا عُبّاد الغفلة ويا أتباع الصنم.
تقول كتب التاريخ إن العباس أنهكه العطش. ما عرفت كتب التاريخ روح العباس، ولا أحاطت به علماً. إنّ فيه غيرة على الحسين وعياله تحرق بحار الدنيا وأنهارها، فكيف يشكو العطش؟. إنّ فيه غيرة تغطي الأرض وما عليها، وتفجّر من الصحراء عيون ماء باردة فيكف ينهكه الظمأ؟
تنادى جيش يزيد: لا طاقة لكم على قتال العباس. لن يُرهقه التعب. لن يضّر به العطش. فهذا ابن بيت يبيتون على الطوى ليطعموا الجياع، ويمضون على العطش ليرووا العطاشى.. لا قِبل لكم على قتال ابن عليّ، فاحملوا عليه غدراً مثل الضباع، وأتوه خلسة مثل الأفاعي، فلا يُصرَع أهل هذا البيت بغير الغدر.
حتى في خطواتهم الغادرة كانوا يخشون الاقتراب منه. تكلّست أرجل الضباع فيهم. تجمّد التفاف الأفاعي في أجسادهم. غرقوا في الرعب.
صهيل الجواد ملأ الميدان.. صهيل حزين كأنه بكاء ناقة صالح. سمع العرب والعجم والماضون واللاحقون الحوار:
(لا أشرب حتى تشرب.. لا أشرب الماء حتى أسقي عطاشى الحسين)
أوشك الفرات أن يجفّ من خجله. كادت سُحب الدنيا تتلاشى من حيائها. تمنّت الأنهار لو تغور مياهها. لكن العباس يريد الأنهار جارية والسحب ممطرة، فهو من آل الخير والبركات.
تنادى جند يزيد مرة أخرى: أمطروه بالسهام من بعيد. فليس في العالمين من يقوى على مواجهة العباس. جاءته السهام من كل صوب. ما كان يكترث لنزف الدم. ما كان يتوجع من أفواه الجراح، لكنها قربة الماء التي صرعها سهم غدّار.. قربة الماء الشهيدة أدمت قلب العباس، كان يحملها وعداً لسُكينة وبقية الأطفال.
زحفت ضباع أمية من خلفه، هجمت ذئابها من ورائه، ضربوه ضربة غدّار محترف على يمينه وشماله، كانت كفّ العباس تخيفهم. كانت يده ترعبهم. ويد الشجاع أكثر ما يخيف العدو المهزوز. انظروا لما بعد كربلاء سترون الأمر كذلك. دققوا النظر أكثر ستجدونه حقيقة ماثلة في بغداد قرب المطار.
أراد الحسين حمله الى المخيم. تمنى العباس أن يتركه مكانه، فكيف يعود بلا ماء، والقربة نازفة.
أتكون الغيرة هكذا؟ هل تحلّق الروح حتى تغطي الدنيا بوفائها؟ أيتسع الصدر ليحمل هموم الدنيا ومعاناة الخلق؟ فما بال الصدر يضيق حتى يصبح حرجاً كأنما يصعّد في السماء؟
الجواب بسيط: إنه القرب أو البعد عن حقيقة العباس، إنه الإيمان أو النكران لنهج الحسين.
٧ آب ٢٠٢٢