السيمر / فيينا / الثلاثاء 20 . 09 . 2022
حينما قال الإمام الحسين عليه السلام: (إني لم أخرج اشرا ولا بطرا ولاظالما ولا مفسدا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) كان يدرك جيدا أن فحوى هذه المقولة ستخلد الى أبد الدهر، وقد تجسد ذلك في زيارة أربعين قيامه التي أصبحت مدخلا لكل رقي وسمو نحو العلى.
كل عصر فيه جبهتان إحداهما للحق والأخرى للباطل، وهناك فساد و الاصلاح يقابله، وعلى هذا المنوال يستمر الصراع بين الخير والشر، ومن دروس العظماء نستمد العزم والعِبر.
إنتهت معركة الطف عسكريا في عصر عاشوراء ولكنها لم تنته إعلاميا، فقادة الإجرام لا زالوا على قيد الجريمة، متسلطين على ذوي الضحايا الطاهرة يذيقونهم ألم التشفي والشماتة ونشوة الإنتصار عليهم، فحب الدنيا قد اعمى أبصارهم، وامتلأت بطونهم من الحرام حتى عُميت بصيرتهم، فلا يدركون أي كبد لرسول الله صلى الله عليه واله فروا، وأي كريمة له أبرزوا، واخذوا يسوقون بنات الرسالة كما تساق الاسارى! فكان لابد ان تجابه قوى الضلالة هذه بدور إعلامي لا يقل ضراوة عن حمل السيف.
نهضت عقيلة الطالبيين زينب عليها السلام برفقة مولانا العليل الإمام زين العابدين عليه السلام وباقي نساء البيت المحمدي بذلك الدور الإعلامي الرسالي البطولي، فألجموا أفواه الباطل، وصالوا عليه بلسان البلاغة والبيان العلوي الحيدري، فاوضحوا الحقائق وكشفوا زيف إدعاءات السلطان الجائر أمام الناس، وأذلوه في عقر داره، حتى إذا أحس بانقلاب الأمور ضده سمح لركب الإباء من التحرر والعودة لدياره، ولأن قبور الاحبة في طريق عودتهم، فكانت القلوب تتسابق مع خطى المسير لتصل إليهم فتبث الشكوى والعتاب والحنين والاشتياق في لقاء بكت له حتى ملائكة السماء بعد فراق دام أربعين يوما.
قضية سيد الشهداء وأهل بيته عليهم السلام ومواقف العِبرة والعَبرة فيها، أصبحنا كموالين ندرك وبكل يقين بعقولنا وجوارحنا أنها قضية ربانية بكل معنى الكلمة، كما قال هو بأبي وأبي: (شاء الله ان يراني قتيلا ويراهن سبايا) وان الآمهم هي الآمنا ولوعتهم ومصائبهم تحرق قلوبنا وتهيج حزننا، وأصبح المجتمع الإنساني يظهر تعاطفه وتأييده لأبي الأحرار واهل بيته الكرام لما نالهم حين أبوا الذلة والإستكانة ورفضوا الخنوع والاستسلام لنزوات اللعين ابن اللعين يزيد ابن معاوية وحكام الجور قاطبة.
كثيرة هي الزيارات والمناسبات الدينية، ولكن الله شاء لزيارة الأربعين شأنا آخر حتى صارت علامة من علامات المؤمن كما قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فرغم أن فيها إحياء لأمر الله وامر أوليائه وتخليدا لتضحيات مولانا سيد الشهداء وأهل بیته عليهم السلام فإنها مدرسة للتأهيل المهدوي؛ حيث أن الإنضباط الذي ستشهده دولة العدل الإلهي قائم فيها بالمستوى الذي يحمله كل زائر.
كم مر على زيارة الأربعين من منع للزوار على مر السنين من قبل حكام الجور، إلا أن إرادة الله نفذت فيها، فنراها عاما بعد عام تزداد بإزدياد أعداد الزوار تألقا ونجاحا وابهارا للعالم بأسره، يشارك بها عشاق الحسين عليه السلام من ثمانين دولة أو أكثر، تقارب أعدادهم العشرون مليون زائرا وقد تتجاوزه، كبارا وصغارا ورجالا ونساء، ومن مختلف الأديان، على أرض دولة تتكالب عليها الصراعات والاطماع، من قبل قوى الشر والاستكبار العالمي والمؤامرات الخبيثة التي تحيكها لإشعال نار الفتنة بين أبناء المذهب الواحد، ألا تعد معجزة تقودها وتحرسها إرادة الله تعالى؟! زيارة تتجسد بها كل معاني الفضائل والتواصل، والعِبرة والعَبرة، والإيثار والتواضع، والبذل والسخاء المادي والمعنوي، فخيرات الإطعام ممدودة على طول الطريق مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، والمفارز الطبية، ومحطات الإستراحة والنوم والمبيت لمن أعيته متاعب الطريق، ومناهل العلوم الدينية والإستفتاءات الشرعية، ومجالس عزاء وأخرى أدبية، ومخيمات ثقافية تجسد واقعة الطف ومن سار على نهجهم ممن استرخصوا أرواحهم للدفاع عن الأرض والعرض والمقدسات.
حينما نتأمل وننظر بعين البصيرة دولة الإمام المهدي أرواحنا فداه بعد أن يمن الله عليه بالفرج ويمكنه من خلافة الأرض ومن عليها، لرأيناها من خلال زيارة الأربعين، فنرى الناس وقد سمت نفوسهم وكبحوا ملذاتهم،والتزموا بإقامة عباداتهم وطاعة خالقهم، وتمسكوا بولاية ساداتهم، وتعايشوا بود ووئام وتسامح وإيثار، وهذا ما أرادته دماء الحسين عليه السلام.