السيمر / فيينا / الاربعاء 15 . 03 . 2023
د. عبد علي سفيح
سؤال صعب بقدر ما هو رائع، الدين والفلسفة والروحانية ثلاث مجالات للعقل حافظت دائما على علاقات وثيقة حتى عندما تم معارضتها بشدة. يوجد تقاطع بين الدين والفلسفة والروحانية أكثر من النجوم في السماء حتى لو كانت غيوم الوقت الحاضر تمنعنا أحيانا من رؤيتها وتقدير لمعانها.
كيف يمكن تشخيص الروابط والأماكن الخاصة بالدين والفلسفة والروحانية؟. نحن مدعوون اولا إلى عملية توضيح: ما هو المجال الخاص بكل منها، وما هي العلاقة التي توحدهم ومن يعارضهم، وهل لديهم مصدر مشترك؟.
للتوضيح هنا لا يعني فقط إجراء الفروق النظرية الضرورية، ولكن أيضا التشكيك في تاريخ الأفكار: مالذي حدث منذ هذه الروحانية القديمة وما قبل الفلسفة التي كانت القيام بعدد معين من الممارسات على الذات للوصول الى الحقيقة وتغيير الذات؟.
باديء ذي بدء، تشترك هذه المفاهيم الثلاثة في التعامل مع الأسئلة الأساسية التي تتعلق بالإنسان ووجوده: من نحن، ومن أين جئنا، وما هي الحياة والمعنى لها، ومن هو الخالق، وكيف تكون سعيد، وما هو الخير والشر، وما هي الروح والمادة….والخ.
هذه الأسئلة تتسائل عما هو غير مكشوف، الدين والفلسفة والروحانية تقدم طرقا مختلفة للإجابة على هذه الأسئلة.
نجد كل الفكر سواء في الشرق أو في الغرب يعيش على تراث مزدوج شكله التقليد الفلسفي واللاهوت النابع من الإيمان في الغيب، وكان معظم الفلاسفة يحملون ثنائية الدين والفلسفة ومنهم أفلاطون الفارابي وابن سينا وبن عربي وبن رشد وتوماس اكويناس وباسكال والسهروردي( شيخ الاشراق) وسبينوزا( محمد أمستردام) وهيجل وغيرهم، ولذلك نرى أحيانا الدين في الفلسفة، وأحيانا أخرى الفلسفة في الدين، أي المهم ليس أن الحقيقة قد منحت للإنسان من الخارج، ولكن ممكن للإنسان أن يخترقها من الداخل وبلغة الفلسفة، لكن القنطرة الذهبية التي تربط الدين بالفلسفة هي الروحانية، حيث نجدها أما روحانية دينية وهي لا تخرج من الدين، أو روحانية فلسفية ويسموها في الوقت الحاضر بالروحانية العلمانية أي الروحانية التي لا تمر في الإيمان.
بإختصار الروحانية ليست دين ولا فلسفة، ومع ذلك فإن الروحانية الصحيحة هي كلاهما، لأن الدين بدون فلسفة( وللأسف في أغلب الأحيان) يكون عاطفي وأحيانا متعصب، اما الفلسفة وبدون دين وبدون تطبيق عملي للقيم، تفتح بابا نحو التعالي؛ ومهما كانت اجتهاداتنا الشخصية، فلنتذكر هنا أن الروحانية يمكن أن تعاش جيدا في إطار الدين، ويمكن أيضا ممارستها دون أي ارتباط بدين مؤسساتي. هذه القنطرة الذهبية وهي الروحانية التي تربط الدين بالفلسفة ما هي إلا رؤية مثالية للعام وللوجود.
هناك عامل مشترك آخر بين الثلاثة والذي غاب عن زاوية الرؤيا للمهتمين في علم اللاهوت والفلسفة وهو الوحي( الايحاء).
اعتمدت الأديان السماوية وغير السماوية لترسيخ أفكارها ومعتقداتها على الايحاء، ودور الأنبياء هو أن ينبأ ويخبر الناس بالمستوى الغائب والذي أصبح مكشوفا ومعروفا بواسطة الايحاء. هنا تبرز إشكالية، لأن الألوهية تتجلى من خلال مايسميه الفلاسفة بعلم الظواهر phénomenologie ، أي المقصود منه بأن الرب يكشف عن نفسه؛ يكشف عن نفسه لإبراهيم وموسى ولتلاميذ عيسى وللنبي محمد(عن طريق جبرائيل).
تحدثت الفلسفة عن حقيقة هذه الظواهر، وإمكانية حدوثها، ووضعت السؤال: هل ممكن مناقشة هذه الظاهرة وهي الايحاء في الفلسفة؟، وحسب رأي الفيلسوف الفرنسي ماريون، أن مفهوم الوحي حسب رأيه لم يتلقه التقليد الفلسفي اللاهوتي على حقيقته، لأن هذا التقليد لا يترك للوحي صفته الحقيقية بل اتخذوه على اعتبار أنه يجيب على الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه بالفعل والعمل، بينما في الواقع يطرح الوحي على الإنسان الأسئلة لأن الرب لا يسأل نفسه، ومنه ممكن ان نستنتج، بدون الوحي سوف يصبح الدين فلسفة وليس دين، لأن الوحي يكشف المستور المخفي، ولهذا رفض الفيلسوف شبيلينغ دعوة الايحاء باللاعقلانية واستبدلها بكلمة ” الذي لا يمكن تصوره “، وذكر الفيلسوف ليفيناس أن الله لا يمكننا ادراك لكن ممكن أن ندرك أثره، أي الايحاء يأتي كرسالة لكشف المخفي، وهذا الكشف ممكن الشعور به عن طريق العقل والروحانية.
فلسفة الروحانيات بنيت على كشف المحجوب وإزالة الستار عن المستور، وهي فلسفة تاويلية تدعو إلى فك رموز النص الديني وجعل المعنى الحقيقي لهذه النصوص هو باطني، وذكر الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان، بأن القرآن منبع أساسي ووحيد للتأمل الفلسفي في الإسلام، أي الدين لا يعبر عن ذاته بشكل تام وحاكم بالفقه وحده كما يشاع، بل بالفلسفة أيضا.
كشف المستور يقودنا إلى الحكمة، الحلاج بحث عن الله والقديس سانت اوكستان بحث عن المسيح، وكلاهما هذا البحث قادهم للحكمة، لكن الذي يميز الدين عن الفلسفة والروحانية هو وجود الهرمية والهيكلية في الدين وغيابها في الفلسفة والروحانية.