السيمر / فيينا / الثلاثاء 21 . 03 . 2023
د . عبد علي سفيح
يرجع السبب في اختياري هذا العنوان هو معاينتي ولمسي لظاهرة شغلت بالي وجلبت انتباهي خلال زيارتي الأخيرة للعراق، ومشاركتي في بعض من الندوات والمؤتمرات، والنوادي الاجتماعية، لمست ظاهرة واضحة المعالم، تغزو الفكر والمشاعر، وقد تتعلق بثقافة المجتمع العراقي، وهي الاعتداد بالرأي ونزعة الجدل، وصل الأمر بي أن أضرب مثلًا وفي مناسبات عدة بقولي: للقمر وجهان. وجه منير ووجه مظلم، أن اختلاف قراءة الوجهين لا تنفي موضوع القراءة وهو القمر.
والسؤال الذي يولد من هذه الملحوظات: ما هو سبب نزعة الجدل والاعتداد بالرأي عند العراقيين؟
بدأت أتفحص هذه الظاهرة بتمعن عسى ولعل أجد جوابًا شافيًا، آخذًا بنظر الاعتبار عدم وجود سبب واحد لتفسير أية ظاهرة اجتماعية، الا أن هناك تدرج في أولوية الأسباب.
عبر كثيرون عن خصوصية الشخصية العراقية والعراقيين ابتداء من الاسكندر المقدوني بقوله لقد أعياني أهل العراقٌ، مرورا بالحجاج بن يوسف الثقفي، وعبد الله بن الزبير بقولهم: أهل العراق أهل الشقاق والنفاق، والجاحظ بقوله: العراقيون أهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والقدح والترجيح بين الرجال، والرئيس المصري السابق حسني مبارك بقوله: ليس هينا التعامل مع العراقيين، اذ أنه شعب متنوع ومتعدد وصعب الطباع ولا يمكنهم أن يستمعوا أبدا الى أي عربي ينصحهم، وانتهاء بالدكتور علي الوردي بقوله: شيوع النزعة الجدلية عند العراقيين.
تغيب ساحة الحوار في أي فرد أو شعب، أو مجتمع يحمل هذه الصفات الآنفة الذكر أعلاه، وهذا قد يفسر غياب الحوار الحقيقي البناء بين العراقيين في الداخل، ومع جيرانهم في الخارج، من ملحوظاتنا نجد أن هناك نقاش يحصل بين العراقيين وليس الحوار بمفهومه العصري، وبعد دقائق يتحول هذا النقاش الى جدال، واذا استمر قليلًا يتحول هذا الجدال إلى خصام ومنه قليلًا إلى صدام وينتهي أحيانًا إلى العنف.
أن العراقي بنحو عام معتد بنفسه ولديه رغبة في اثبات الذات، إذ نجد هذه الظاهرة واضحة جدًا من طريق مواقع الاتصال الاجتماعي، إذ نلحظ استعمال مفرط لشبكات مواقع الاتصال الاجتماعي، والسبب قد يعود إلى ما يعانيه العراقيون من عدم جرأة الحوار، إذ نرى هذه المواقع كنوع من الكرة الدائرية المقنعة تدور في كل الاتجاهات، ونرى كثير منهم ينقل الأخبار والفيديوهات مؤكدين القول، ناقل الكفر ليس بكافر.
وعندما يلبس الفرد القناع فانه يجرأ على الكلام وخروج خزائنه المكبوته والمقموعة، ونرى كثير منها تحمل الصورة الشخصية للفرد من دون أي نص، بينما نرى التعليقات تنهال عليه بكلمات كـ (منور)، وبجمال الطلة ….وسواها من الثناء والمدح لصورة من دون صوت وكانها صور شارلي شابلن السينمائية بالأسود والأبيض، أي ممكن القول بأننا عالقون في نوع من الاستبداد غير المرئي.
وأنا باعتقادي، أن الشخصية العراقية شخصية نرجسية ليس بالمفهوم السلبي لأنه شخصية تحمل الطيب وتحب اسعاد الآخرين، ونشر هذه الصور من دون صوت أو كلمة، لحاجة العراقي لحب الناس وليس اثبات عنجهيته وكبريائه.
والان نرجع للسؤال وهو: ما هو سبب اعتداد العراقي برأيه وشيوع نزعة الجدلية؟ باعتقادنا أن أحد أبرز الأسباب عدم تمييز العراقيين بين الذاكرة والتاريخ في خطابه اليومي، يتجه العقل العراقي من طريق اللاوعي إلى الذاكرة وليس باتجاه التاريخ، لتوضيح جوهر هذه الفكرة علينا قبل كل شيئ ما ذا نقصد بمفهوم الذاكرة والتاريخ.
الذاكرة هي مجموعة صور راسخة في المخيال وفي الوعي واللاوعي للفرد، ولذلك لا توجد ذاكرة جماعية بل ذاكرة فردية أو شبه جماعية، والذاكرة عكس التاريخ، لأن كل فرد له رأيه الخاص، ولذلك الذاكرة لا تجمع المجتمعات بل تفرقها، اما التاريخ، يسجل الأحداث ويحققها من دون اسقاط أي حكم عليها، ولهذا التاريخ يجمع المجتمعات. مثال على ذلك حرب العراق مع ايران، التاريخ يعمل ضمن الأبعاد الثلاثة وهي، الزمن والمكان والشخوص، بدأت الحرب في كذا وسنة كذا، وفي المكان المعين وانتهت الحرب يوم كذا وذهب ضحيتها كذا عدد من الناس، هذا التاريخ لا يفرق بين المجتمع العراقي، لكن عندما نكون في الذاكرة وكل منا يعبر عن مشاعره وما عاناه من هذه الحرب، فجزء من العراقيين نجد معيارهم الفردي مع العراق، والجزأ الآخر مع ايران، هنا الذاكرة تفرق وتؤدي إلى الجدال والخصام وليس الى الحوار.
بعد هذا التوضيح للمفهومين الذاكرة والتاريخ نرجع إلى العنوان وهو حال العراق والعراقيين اليوم.
نجد عراق الأمس واليوم هو عصر التداخل بين الذاكرة والتاريخ بامتياز، لا يوجد فرق في ذهن العموم بين المفهومين، وهو ما يحمل مخاطر على الحاضر والمستقبل.
إذ نجد عراق الأمس واليوم حديقة بلا سياج تحط فيه رحال القاصي والداني، رحال الضيف والغازي، مجتمع متعدد المكونات، مسرح للتناقضات يحمل بيئة ومكان يولد من رحمه التوائم غير المتشابهين وكأنهم الأخوة الأعداء، يولد من رحمه قوتان متعاكستان ولا يسمحوا لقوة ثالثة تزاحمهم وقد تكون للجغرافيا دور في هذا الشأن حيث نرى دجلة والفرات على مر ملايين السنين لن يسمحوا لأي رافد أن يكون نهرا ثالثًا.
ترى العراقيون بعضهم ذو هوى ملكي، والآخر جمهوري، أو شيوعي والآخر بعثي، أو شيعي والآخر سني، أو علماني والآخر اسلامي، أو عربي والآخر كردي، قطري والآخر أممي، ولذلك لا يجمع العراقيين جامع، مثل المغناطيس كلما جزأته إلى جزئين، يتكون في الحال قطب موجب والآخر سالب، هذا الحال مع العراق، اذا ذكرت اسما مثل نوري السعيد، أو عبد الكريم قاسم، أو صدام حسين، لتجد في الحال تكون قطب سالب( يقدح) والآخر موجب( يمدح).
الذاكرة العراقية الفردية وشبه الجمعية تحمل أربعة رهانات وهي:
الرهان الأول: كان على بريطانيا العظمى في العهد الملكي.
الرهان الثاني: كان على جمال عبد الناصر في الوحدة العربية.
الرهان الثالث: كان على الثورة الاسلامية في ايران.
الرهان الرابع: كان على الولايات المتحدة الأميركية.
هذه الرهانات الأربعة لن تتحقق لأن حركة التاريخ كانت تجري عكس أحلام الذاكرة العراقية، فشل العراقيين في قراءة الماضي والحاضر والمستقبل عائد إلى هيمنة الفكر على التاريخ في خطابهم اليومي، لأن الذاكرة العراقية الفردية وشبه الجمعية تعمل في اطار انتقاء أحداث الماضي واعادة بناءها وصياغتها بلالات سياسية، على سبيل المثال، احياء ذكر معركة القادسية بين المسلمين والفرس.
ممكن نستنتج من هذا السرد، أن العراقيين لا يجمعهم جامع، لا الحكم الملكي، ولا الجمهوري، ولا الفيدرالي، لأنهم لا يخرجون من مساحة الذاكرة، أي بمعنى آخر، الذاكرة العراقية تأبى أن تفارق التاريخ، أو تمنع التاريخ من مفارقتها لأن الحدث نفسه مستمر في التاريخ وفي الذاكرة معا. اذن ما هو الحل؟
الحل باعتقادي يأتي من التجربة الأوربية، بحث الفلاسفة والمفكرين والأكاديمييين الأوربيون عن سبب تكرار الحروب المدمرة في أوربا منذ عقود كثيرة، واتخاذهم التاريخ بوصلة لبناء مستقبلهم، وكان نابليون بونابرت يعمل أربعة حروب في السنة، ومن خلال بحثهم وجدوا السبب هو هيمنة الذاكرة على التاريخ، ولقد وجد المفكر الفرنسي بول ريكور حلا سماه النسيان، بالنسبة لهذا المفكر، النسيان ضروري لأجل قيام مصالحة وعلاقة صحيحة بين الذاكرة والتاريخ، سواء أكانت هناك مسافة زمنية طويلة أو قصيرة بينهم.
اختم هذا المقال بالقول، هل ممكن للعراقيين فك هيمنة التاريخ والذاكرة على عقلية الشخصية العراقية؟
نعم ممكن اذا أخذنا هذه النظريات العلمية بالاهتمام في التربية والتعليم، محققين الحديث النبوي الشريف ٌ العقل السليم في الجسم السليم.