السيمر / الأربعاء 16 . 03 . 2016
حسن شقير / لبنان*
فجأة وبدون مقدمات ، قرر الرئيس الروسي سحب الجزء الرئيسي من قواته العاملة في سوريا منذ الثلاثين من سبتمبر الماضي ، وذلك بعد تحقيق معظم أهدافها الرئيسية هناك ..
سيجادل كثرٌ حول الدوافع والأسباب لهذا الإعلان – الحدث ، وسيُحمّل هذا القرار الروسي – ربما – الكثير الكثير من التأويلات ، وعلى مختلف الأصعدة ..
صحيحٌ أنه من المبكر الغوص في حيثيات هذا القرار ، ولكن منطق التحليل السياسي ، يمكن أن يُساعد في قراءة ذاك التطور المفصلي – غير المتوقع في توقيته – ، وذلك بعكس قرار التدخل منذ حوالي الخمسة أشهر والنصف ، والذي كنا قد بشرّنا بإنطلاقه في السابع عشر من آب الماضي ، وذلك ضمن مقالة ( جرس الإنذار ، أم سهمٌ ذهبي مضاد ؟ )
السؤال البديهي: ما الذي جعل بوتين ، يتخذ هذا القرار الأخير؟ فهل فعلا ً، أنه قد تخلى عن سوريا ، وذلك حسبما بدأت تروج له بعضٌ من وسائل الإعلام، وذلك منذ الدقائق الأولى لتلاوته لبيانه !! وهل أن ذلك يعود حقاً إلى خلافات روسية – سورية وإيرانية ، حول المرحلة السياسية من خريطة طريق روسيا لحل الآزمة في سوريا؟ أم أن هذا القرار ، قد أتى على خلفية طبيعية ، لما كان قد أحدثه التدخل في المشهد السوري من تبدلات وتحولات استراتيجية هناك ؟ وبالتالي ، فإن ما ذكره بوتين حول ” تحقيق الأهداف ” لهذه العملية ، لهي حقيقةٌ قائمة ، وبالتالي فإن محاولة تلمس البعد الجوهري لهذا القرار ، يمكن أن نرصده على الشكل التالي :
في الحقائق :
– أولا ً : التدخل الروسي في سبتمبر الماضي ، دفع أمريكا وتحالفها في المنطقة إلى أحضان خريطة طريق روسيا لحل الأزمة في سوريا ، وتبني هؤلاء لمراحلها الثلاث ، والتي عرضها لافروف ضمن الإجتماع الرباعي في أواخر أكتوبر الماضي على وزراء خارجية أمريكا وتركيا والسعودية ، وذلك بتبنيها من قبل مشاركي مؤتمر فيينا ١ ، والتي تتضمن فصل “المعتدلين” عن الإرهابيين ، والإنقضاض على هؤلاء ، ليتزامن ذلك مع بدء المسار السياسي ..
ثانياٍ : عملت روسيا ، ومن خلال تدخلها على قلب “عقيدتي” أمريكا والإرهابيين على حد سواء ، فالبنسبة للأولى ، فإنها ، وضمن ما كانت تقوم به من استثمار بالإرهاب ، الذي ادعت محاربته ، وذلك ضمن التحالف الذي شكلته ، إلا ّ أن تلك ” العقيدة ” الإستثمارية ، سرعان ما فُرض عليها التحوّل نحو ” الوراثة الجغرافية ” له ، وذلك خوفاً على المصالح الأمريكية في سوريا ، فيما لو قُدّر لأمريكا بألا تنتقل مرغمة ً نحو وراثته .. أما أولئك الإرهابيين ، فلقد فرض عليهم التدخل الروسي المتكامل مع التحالف الأمريكي الجدي هذه المرة ، بالإنتقال من التقاطع مع مستثمري الإرهاب إلى الوقوف بوجههم .. وهذا بحد ذاته تطور كبير .
ثالثاً : لقد حقق التدخل الروسي في سوريا ، وخصوصاً في أواخر شباط الماضي ، مع إعلان ” وقف العمليات القتالية ” الساري المفعول حالياً ، ثلاثٌ من الإنزياحات الإستراتيجية المهمة جداً ، وهي إنزياحات فتيل الحرب الشاملة ، وذلك بوأد التدخل التركي – السعودي في سوريا ، وانزياحات التهجير القسري المفروض على الجماعات المسلحة ، بالإنتقال من التطرّف إلى الإعتدال ، والتي كانت قد لعبت امريكا دوراً مهماً في ذلك ، والهدف الأمريكي كان تشكيل نواة ” جيش سوريا الجديدة ” ، وذلك لموازاة قوة الجيش السوري ، في وراثة الجغرافيا من الإرهابيين .. فهل يأتي الإعلان عن بدء المفاوضات اليوم في تركيا ، حول تشكيل ” قيادة عسكرية موحدة ” للمعارضة المسلحة ، ضمن هذا السياق ؟ ، أما ثالث الإنزياحات ، فهي تتعلق بخرائط القتال في الميدان ، والتي بدأت تتخذ وجهة واحدة نحو التنظيمات الإرهابية ، وبشكل حصري ، وقد ألمح لافروف حول الحديث مع أمريكا حول التكامل في اجتثاث الإرهابيين ، بحسب التجاور الجغرافي لمناطق سيطرتهم ( الرقة وتدمر ) ( هذه الإنزياحات وردت في مقالتي المنشورة في 24-02-2016 ، وذلك تحت عنوان : إتفاق وقف العمليات القتالية .. بنودٌ بأبعادٍ مفصلية )
في الممنوعات :
أولا ً : عدم السماح بالعودة بخرائط الميدان الإرهابية ، إلى ما كانت عليه قبل الثلاثين من سبتمبر الماضي ، وذلك يفسر ما تم اعلانه حول التعهد الروسي باستمرار الدعم للدولة السورية في مواجهة الإرهاب ، وذلك حين الإعلان عن قرار الإنسحاب .
ثانياً : عدم السماح بتحريك خرائط الميدان بين الجيش السوري من جهة ، وفصائل المجموعات المسلحة الملتزمة بالهدنة ، وذلك حفاظاً على المبدأ الوارد في القرار الدولي ٢٢٦٨ ، والمتعلق ” بعدم كسب أراضٍ جديدة ” ، ويتزامن ذلك مع الإستمرار بتثبيت معادلة وراثة الإرهاب من قبل هذين المكونين ، وذلك وفقاً لمبدأ التجاور الجغرافي على الدوام .
ثالثاً : عدم السماح بانفراط عقد العملية السياسية التفاوضية الحالية ضمن مسار جنيف – وإن تعثرت أحياناً – ، وذلك تحت ضغط التلويح بسحب الملف من الأيادي السورية – السورية ، إلى مجلس الأمن ، وذلك وفق ما حذّر منه ديمستورا ، مع انطلاق فعاليات جنيف 3 .
في التوقعات :
يبدو أن مسارات التطورات المتسارعة في المشهد السوري ، والدينامية الجديدة التي تتحرك من خلالها هذه الآزمة ، تشير إلى أن استحالة عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل التدخل الروسي في سوريا ، وآن ما ذكرته في مقالة ( ما بعد وراثة الإرهاب .. سوريا إلى أين ) ، حول ميل الأطراف المتحاربة فيها إلى سلوك استراتيجية ” التحرّف للقتال “على جميع الجبهات المُهادنة اليوم ، لهو المتوقع في المدى المنظور ، وبالتالي فإن ذلك سيجعل من التوازن العسكري المتقابل في الجغرافيا السورية ، إمّا مُدخلا ً لإستعار حرب متجددة في سوريا بين وراثي الإرهاب فيها ، وذلك على شاكلة حرب وكلاء جدد ، وهذا بحد ذاته ليس مرغوباً عند روسيا وإيران ، فضلا ً عن المقاومة والجيش السوري .. وإمّا يكون ذاك التوازن العسكري ، مدعاةً للتوافق المحتوم والمفروض بضغط شعبي ، والذي يكون قد ذاق حلاوة استعادة بعضٍ من الأمان في ربوعه ، وهو بالتالي سيرفض الإحتكام مجدداً إلى لغة السلاح ، ناهيك عن احتمال بدء المسار العمراني من مسارات ديمستورا الأربع ، وذلك متزامناً مع مساريه العسكري والسياسي أيضاً .
خلاصة القول ، إذا كان لآثر قرار التدخل العسكري الروسي في سوريا ، تثبيت الدولة الوطنية السورية ، ومنع انهيارها وتفككها ، فإن قرار سحب ذاك التدخل اليوم ، لا يمكن له أن يكون تنازلا ً عن ذاك الهدف أعلاه ، وذلك لما نكرره دائماً بأنه مصلحةٌ روسية قبل أن تكون سورية ، وإذا كان فرض خريطة طريق الحل الروسية في سوريا ، وقبول أمريكا وتحالفها مرغمين على مراحلها ( وتحديداً في مرحلتيها الأوليتين ) ، فإن قرار السحب ، والذي أتى متزامناً مع إطلاق المسار التفاوضي في فيينا ( المرحلة الثالثة من خريطة الطريق ) فإنه يُعبّر عن رسالة روسية مزدوجة إلى طرفي الأزمة على حد سواء، بأن مصير سوريا ، لهو رهنٌ بين أيديكم وحدكم ، ودون كسرٍ وغلبة ٍ لفريقٍ منكم على أخر …
* باحث وكاتب سياسي
خاص بانوراما الشرق الاوسط