السيمر / فيينا / الاثنين 10 . 08 . 2020
د . لبيب قمحاوي / الاردن
حتى نضع الأمور في نصابها الصحيح فإن لبنان دولة عربية محتلة مادياً وسياسياً من قبل دول غير عربية ، بالإضافة الى أنها مخترقة إستخبارياً وأمنياً بأشكال مختلفة من كافة الدول المؤثرة في المنطقة ، كما أنها مشتتة من الداخل طائفياً وبعمق متزايد ، والدولة المركزية فيها هي تجسيد فاسد ومهلهل لهذا الواقع المرِّ والمؤسف ولا أحد من الجسم السياسي اللبناني يستطيع بالتالي أن يدِّعي العفة والطهارة .
ماحدث في بيروت قبل يومين هو أكبر من انفجار وأكثر من حكاية ولكنه بالتأكيد لم يكن حادثاً عرضياً ، ولن تكون نتائجه بالتالي عَرَضية أو تدميرية فقط . ما حدث يشكل الخطوة الأولى نحو شئ جديد وخطير .
قد يبقى جزاً كبيراً من حقيقة ما جرى لبيروت مؤخراً في ضمير المستتر ، وقد لا يبقى كذلك بحكم الظروف السياسية أو تضارب المصالح أو كليهما معاً . وفي محاولة فهم ما جرى لبيروت مؤخراً فإن الحكمة القديمة تعلِّمنا بأن نسترشد بدروس وحِكَمْ الماضي وأهمها في هذه الحالة : ” فتش عن السبب ” أو ” فتش عن المستفيد ” وهذا ما سوف نفعله .
الطريقة التي تم بها تدمير بيروت قد تكون العدوان الأكثر دماراً والاسرع تأثيراً والأقل كلفة في القرن الحالي . ولا داعي لإصدار الاحكام جزافاً كما لا يجوز اصدار صكوك البراءة جزافاً أيضاً لأن كلا الموقفين قد يخدما العواطف ، ولكنهما بالتأكيد لن يخدما الحقيقة وهي مفتاح فهم واستيعاب الأهداف الحقيقية وراء ماجرى وما قد يتمخض عنه .
الصراع الرئيسي في لبنان هو بين حزب الله ومحور المقاومة من جهة واسرائيل من جهة أخرى ، بالإضافة الى الصراع فيما بين الطوائف اللبنانية نفسها .
الأطراف المتصارعة الرئيسية على أرض لبنان قد سارعت إلى نفي أي علاقة لها بما جرى ، وبالتالي حاولت التنصل من المسؤولية المادية والأخلاقية والمأساوية التي نتجت عن تدمير بيروت . وبالرغم عن اختلاف الأسباب والدوافع وراء ذلك النفي إلا أن النتيحة تبقى واحدة وهي الاصرار بكل جهد ممكن على النأي بالنفس عن ما جرى في مرفأ بيروت والتنصل من مسؤولية حدوثه سواء أكانت تلك المسؤولية مباشرة أو غير مباشرة . فحزب الله مثلاً وفي واحد من أضعف خطابات حسن نصرالله نفى أي تهمة بالتورط أو أي ايحاء بأن ماجرى كان نتيجة ضربة اسرائيلية استباقية أو تأديبية لحزب الله مما قد يجعله مسؤولاً مسؤولية غير مباشرة عن ما جرى . وما دفع الأمور الى هذا الحد هو قناعة حزب الله المبكرة بوجود محاوله لتحويله الى عدو المواطن اللبناني بصفته المسؤول غير المباشرعن دمار بيروت نتيجة إما لعمليات تخريب اسرائيلية أو عدوان مدروس انتقاماً من حزب الله بعد ان فشل الحصار الأمريكي – الغربي في سعيه الى الإطاحة بذلك الحزب وما يمثله من نهج المقاومة للكيان الصهيوني . ونتيجة لذلك ، فإننا نلاحظ أن حزب الله وهو ينفي أي مسؤولية عن ماجرى لمرفأ بيروت ، يمتنع في الوقت نفسه عن اتهام اسرائيل بفعل ذلك أو بأنها مسؤولة عن ما جرى حرصاً في هذه الحالة على عدم عودة كرة المسؤولية غير المباشرة الى ملعب حزب الله . أما اسرائيل فتحاول التنصل من ما حصل لأنه لا مصلحة لها في الاقرار بأي مسؤولية عن هذا الدمار الوحشي والتدمير الشامل لعاصمة عربية وكذلك تدمير المجتمع المدني فيها خصوصاً بعد أن حصلت على ماتريد بصمت وسهولة عجيبة وتكلفة لا تذكر .
ماهية الدولة بالنسبة للطوائف اللبنانية المختلفة ابتدأت تأخذ منحىً خطيراً تجسَدَ في تباين المواقف تجاه الدولة مما قد يؤدي بالنتيجة إما الى حرب أهلية جديدة ، أو الى تقسيم لبنان بمساعدة قوى دولية خصوصاً إذا إنتفت حاجة بعض الطوائف لبقاء لبنان كياناً واحداً مستقلاً . فعندما تشعر الطوائف بعدم الحاجة الى الدولة ، أو أن الدولة أصبحت لا تعبر عن مصالحها كطوائف أو أصبحت عاجزة عن فعل ذلك حتى لو أرادت ، فإن سقوطها لا يعني شيئاً بالنسبة لهم .
المراقب بدقة للتطور السريع لمواقف بعض الطوائف في لبنان قد تصيبه الدهشة من سرعة التعبير عن مواقف خطيرة مما يعكس تفاقم حالة الاحتقان لدى تلك الطوائف والتي تعكس غياب القدرة على تغيير الوضع القائم في لبنان . ان الموقف المعلن مثلاً للبطريرك الراعي والمُطالب بإعلان “حياد لبنان “مما يعني الصلح مع اسرائيل ، وما تبعه من تأييد بعض الزعامات المسيحية مثل سمير جعجع ، يعكس درجة عالية من التوتر والاحتقان لما آل اليه الوضع في لبنان نتيجة قناعتهم بهيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية وعدم تملكهم القوة الكافية لوضع حد لتلك الهيمنة ، علماً أن الأمراض التي يعاني منها لبنان ونظامه السياسي كانت موجودة لعقود سبقـت ظهور حزب الله كحزب سياسي لبناني . وعلى أية حال فإن الاستقالات المتزايده للعديد من النواب والمسؤولين اللبنانيين هي بمثابة بداية حرب أهلية سياسية ومؤشر على بداية انهيار الدولة .
هنالك ازدياد في القناعة خصوصاً في الأوساط المسيحية والسنية اللبنانية باستحالة التخلص من حزب الله منفرداً ودون المساس بالدولة اللبنانية. ويبدو ، وبالقدر نفسه ، أن هنالك قناعة لدى أمريكا واسرائيل والغرب بأن الدولة اللبنانية قد أصبحت في الواقع دولة حزب الله في لبنان . وهنا يبرز السؤال الكبير والخطير : هل العالم الغربي بصدد حصار وتدمير الدولة اللبنانية أم دولة حزب الله في لبنان ؟ أم أن الحل قد يكمن في تفكيك الدولة اللبنانية الى دويلات خصوصاً وأن سوء الأوضاع وتدهورها أصبح يفوق قدرة الدولة اللبنانية والنظام السياسي اللبناني على معالجتها ؟ هل ما خِشِيهُ حسن نصرالله في خطابه الأخير يحصل الآن بالرغم عنه وفي كل الاحوال ؟ وهل يشاهد لبنان الآن بدايات ثورة مسيحية على هيمنة حزب الله وبشكل قد يؤدي الى بدء عملية تقسيم لبنان تحت طائلة اليأس من القدرة على التخلص من حزب الله وهيمنته على الدولة ؟
وتبقى الخلاصة أن لبنان بلد ُمقسَّم على أرض الواقع دون الإعلان عن تقسيمه ، والمواطنة فيه انسحبت لصالح الطائفية والانتماء الطائفي . فكل طائفة في لبنان أصبحت دويلة داخل الدولة ، وكل طائفة أصبح لها مرجعيتها الخارجية المرتبطة بها دون أي اعتبار لمصالح الدولة اللبنانية ، وأصبح النهج التوفيقي أو التصادمي للدولة اللبنانية انعكاساً لهذا الواقع المؤلم .
لبنان لن يبقى كما نعرفه ، والمنطقة سوف تعاني من تفكك لبنان وقد يعكس هذا الأمر نفسه على سوريا ، وقد نشهد بداية تنفيذ مخطط بلقنة المنطقة وتفتيتها واعادة رسم دولها وبشكل يُبقي اسرائيل هي القوة الأكبر والمهيمنة على المنطقة وقائدة الإقليم بلا منازع .
*مفكر عربي
09 . 08 . 2020