السيمر / فيينا / السبت 17 . 10 . 2020
د. عبد الحي زلوم/ فلسطين
يتساءل الكثيرون كيف كان من الممكن لرجل بخلفية دونالد ترامب والذي فشل وأفلس مرات عديدة ولم يدفع ضرائب للدولة آخر 10 سنوات سوى 750 دولار أن يصل لرئاسة أقوى دولة في التاريخ . وقد صنّفه علماء النفس بأنه يعاني من النرجسية وصنفه بعض من عمل معه بالبيت الابيض أنه خطر على الامن القومي والسلم العالمي.
لكن المشكلة ليست بترامب وحده ولكن بالنظام الذي أنتجه!
جاء في دراسة لأساتذة طب نفسيين ( برفسور جونثان ديفيدسون Jonathan Davidson كاثرين كونر Kathryn Connorو مارفن سوارتز Marvin Swartz) في جامعة ديوك الأمريكية المعروفة ، كما نشر في مجلة كلية الطب للجامعة على أنه لو تم تطبيق المعايير DSM-IV في المرجع المعتمد في الطب النفسي (the Diagnostic Statistical Manual of Mental Disorders) على الرؤساء الأمريكيين السبعة والثلاثين من جورج واشنطن حتى ريتشارد نيكسون ، مستعملين سائر المعلومات المتوفرة عنهم ، لتم تصنيف 18 منهم مضطربين ويعانون من بعض الأمراض النفسية. كما بين البروفسور سوارتز SWARTZ أن المعايير المستعملة لو تم التشدد باستعمالها لكانت النتيجة أسوأ بكثير.
ألّف د. جستون فرانك (DR. JUSTIN FRANK) الطبيب النفسي في واشنطن كتاباً عنوانه (بوش على طاولة التحليل النفسي) نشر عام 2004 ، وصل هذا الطبيب خلاله إلى ملخص يفيدُ أن جورج دبليو بوش يمزج بين صفات المدمن السابق على الكحول الذي لم يتلق علاجاَ ومن مظاهر الإنكار، وقوة ردود الأفعال والشعور بالعظمة ، بالإضافة إلى بعض العقد مثل الإضراب الفكري والبراونيا .
إذا كان ترامب لم يكن يعلم شيئاً عن السياسة الخارجية فكان الأمر كذلك بالنسبة الى جورج دبليو بوش والذي قاد الغزوات الامريكية للعراق والتي لم يكن يعرف سوى 7% من الجنود الذين شاركوا في تلك الحرب لم يعرفوا اين تقع العراق على خارطة العالم. كما بدأ غزواته ضد طالبان والتي أجاب على سؤال لمجلة فانيتي فير أثناء حملته الانتخابية الأولى إن كان يعرف من هي طالبان فأجاب بعد تفكير أنه يظن أنها فرقة روك اند رول ! كانت أولى غزواته على حكومة طالبان في أفغانستان التي لم يكن يعرف عنها شيئاً. كما شنّ حرب الاجيال الكونية ضد العالم العربي والاسلامي باسم الحرب على الارهاب .اذا لم يكن يعرف ألف باء السياسة الخارجية فكيف ومن انتخبه ليصبح رئيسا لأقوى دولة في التاريخ؟ إنها الدولة الرأسمالية الصهيواميركية العميقة التى تأتي بالرؤساء واداراتهم وتذهب بهم.
فلنأخذ بيل كلينتون والذي كان شاباً مغموراً حاكماً لأفقر ولاية في الولايات المتحدة وتم اختياره من الدولة العميقة ضد جورج بوش الاب والذي استحوذ على أعلى نسبة تأييد شعبي في التاريخ الامريكي بعد حرب الخليج لكنه رفض طلب اسرائيل لتمنحها الولايات المتحدة مساعدات بواسطة كفالة بمبلغ 10 مليارات دولار فرفض بوش الاب كوسيلة من الضغط عليها للدخول في مفاوضات مدريد . بدأ الاعلام الامريكي المملوك من الدولة العميقة بمهاجمته حتى استطاع ذلك الشاب المغمور بالفوز عليه .
كم منكم يعرف ان اسمه الحقيقي هو William Jefferson Blythe. اسم كلينتون هو اسم زوج امه والتي يُقال انها ولدته عندما كان والده في الحرب العالمية الثانية بعد غيابه لأكثر من سنة (!؟ ) .
بالرغم من موت والده بحادث سير وهو مخمور وعمره 28 سنة كان له عدة زوجات في عدة ولايات، وتعرّف كلينتون على احد اخوته للمرة الاولى وهو رئيسا ًللولايات المتحدة . أنا أؤمن بأن المرء لا يؤخذ بجريرة أبيه ولا أمه ولا اخيه لكن مغامرات كلينتون الجنسية الغريبة كانت معروفة للدولة العميقة وقصته مع المتدربة اليهودية في البيت الابيض لوينسكي معروفة بحيث أن وكالة الامن القومي NSA هي التي حذرت كلينتون من أن السفارة الاسرائيلية تتنصت على مكالمته الغرامية منتصف الليل مع المتدربة لوينسكي .
وصف الكاتب روجر موريس أخلاقيات البلدة التي نشأ بها بيل كلينتون Hot Springs : ” وكما هو الحال في كل أرجاء أميركا، أصبحت الرذيلة في مدينة هوت سبرينغز منظمة تحت لواء الجريمة المنظمة، وأصبح تحالف رجال الأعمال مع الحكومة يعتبر شراكة في السيطرة على السوق السوداء المربحة، في الكازينوهات وغيرها الكثير.” وأضاف موريس أن :” كل شيء كان معروضاً للبيع ويسهل شراؤه. وكان من ضمن من يمكن شراؤهم بشكل اعتيادي، السياسيون، الذين اشتهروا بتلقي الرشاوي أو القيام بعمليات الابتزاز أو التلاعب والاحتيال بأصوات الناخبين. كانت المومسات وصاحبات بيوت الدعارة يدفعن في شكل علني ضريبة شهرية للسلطات تعرف باسم (ضريبة المتعة) .”
بقي أن اذكر للدلالة على مصداقية الكاتب الدكتور روجر موريس بأنه كان عضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي.
اذا كنّا نظن أن المخابرات في الدول النامية تتحكم بالدولة فدعني اورد مثالاً على محادثة مسجلة للرئيس نيكسون ووزير عدليته ميتشل في دراسة امكانية احالة ادغر هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي الـ FBI على التقاعد بعد مكوثه في رئاسة المخابرات الداخلية حوالي50 سنة وهذا نص التسجيل حرفياً : ” الرئيس نيكسون ” لعدة اسباب يجب أن يستقيل .. يجب ان ينصرف ويكفينا شره .. استطيع الآن .. وأشك في ذلك .. ان اتصل به على الهاتف واتحدث اليه بشأن استقالته .. ان هناك بعض المشاكل .. فاذا استقال فيجب ان يكون قد استقال بمحض ارادته .. ولهذا ومن أجل هذا فنحن في مشكلة عويصة.. أعتقد أنه سيظل رابضا على صدورنا الى ان يبلغ المائة من عمره”.
وزير العدل: “انه سيظل في منصبه الى ان يدفن هناك”.
الرئيس نيكسون: “اعتقد انه يتعين علينا ان نتحاشى الموقف الذي يجعله ينصرف مفجراً وراءه قنبلة كبيرة.. فربما يكون هذا الرجل قادرا على جر الجميع معه اذا سقط .. بمن فيهم .. أنا .. وستكون مشكلة عويصة”.
كان تقدير نيكسون للموقف صحيحاً لأن ادغر هوفر بقي في منصبه الى أن مات. وعند سماع الرئيس نيكسون النبأ قال: “يا إلهي .. يا إلهي هذا الفاسق العجوز.. “لماذا فاسق؟ لأنه ونائبه كانا من المثليين وكانا من الماسون.
كان الرئيس رونالد ريجان ممثلاً من الدرجة الثالثة في هوليوود وكان آنذاك يعمل مخبراً لمكتب التحقيقات الفيدرالي. عندما سأله احد الصحفيين بعد فوزه بالانتخابات ألا تجد صعوبة يا حضرة الرئيس بالانتقال من ممثل الى رئيس دولة الولايات المتحدة؟ فأجابه ريغان: سؤالك يجب ان يكون معكوساً ، فالسؤال يجب ان يكون كيف يمكن لأي رئيس للولايات المتحدة الّا يكون ممثلا ً؟
****
ديمقراطية خربان بن سلطان !:
اقتبس هُنا قول البروفيسور كارول كويغلي Quigly من جامعة جورج تاون ، والذي علّم طلابه (ومنهم بيل كلينتون) أن برامج الحزبين الأمريكيين في جوهرهما برنامج
واحد في خطوطه العريضة ، وأن الإدارات التي تأتي للسلطة تأتي لتنفيذ تلك المخططات مع حرية حركة تكتيكية محدودة. وتتحمل الإدارات الأمريكية كل “أوساخ”
تلك البرامج باعتبارهم المسؤولين عنها ، وذلك بمنأى عن أصحاب النظام الحقيقيين الذين جيّروا تلك البرامج لمصالحهم الضيقة. عندها علق أحد الطلاب: هذا يعني انه ليس من المهم من تنتخب في نوفمبر في انتخابات الرئاسة الاميركية!
هنا اقول أن جوهر السياسة الامريكية مع ترامب او بدونه لن تتغير الا تكتيكيا ً. جو بايدن كان نائباً للرئيس اوباما.
صحيح ان اوباما لم يكن يطيق نيتنياهو لكنه منح اكبر مساعدات مالية وعسكرية لاسرائيل في تاريخ الولايات المتحدة. والذي جاء بأوباما كانت بروفيسور يهودية تدرّس القانون في جامعة هارفرد حيث كان يدرس اوباما وهي التي طلبت من والدها الذي كان من كبار الحزب الديمقراطي ان يقابل اوباما ومن هناك بدأ صعوده الصاروخي .
كما قال البروفيسور كويغلي أعلاه تأتي الدولة العميقة بالرؤساء وتذهب بهم وتعلق بهم اوساخ برامج الدولة العميقة .
نلاحظ ان العلاقة في (الديمقراطية الامريكية ) بين الدولة العميقة والرئاسة هي نفسها بين رؤساء الدول الشمولية ورؤساء حكوماتها.
وتبدأ ماكينة إعلام الدولة العميقة بالتبشير أنه ما علينا إلا أن ننتظر الإدارة التي ستأتي حتى تصبح كل الأمور على ما يرام ! هذا ما يريد أصحاب النظام أن يوحوا به، مع أن المشكلة والأزمة هي أزمة نظام.
العالم وامريكا ونحن الى اين؟
اذا كانت الامبراطوريات تعيش مئات السنين كما كان الحال في الامبراطورية البريطانية والامبراطورية العثمانية فقد كانت سرعة الحياة تُقاس بسرعة الحصان والحمام الزاجل في الاتصالات فلمّا جاء القطار والسيارة والطائرة قَصُر عمر الامبراطوريات فانهارت الامبراطورية السوفييتية خلال سبعين سنة وستنهار الامبراطورية الامريكية بالرغم من جبروتها في فترة اقل من ذلك قد لا تتجاوز الخمسين سنة بدءاً من تاريخ احاديتها بداية تسعينات القرن الماضي وذلك لأسباب داخلية وخارجية ومنها انقسام الدولة العميقة.
أتمنى لو أعيش لأرى ذلك اليوم لكن ذلك لن يكون . لكنني أرى بوضوح كامل ان ذلك قادم لا محالة وأرى تسارع عملية انحدار الامبراطورية الصهيوامريكية هذه بشكل واضح جداً.
استولى المحافظون الصهاينة الجدد على مفاصل السلطة في الولايات المتحدة وبدأوا بتنفيذ مخططاتهم بدولة صهيوأمريكية عالمية مهيمنة بالكامل على العالم لدرجة ان مبدأ بوش الابن نص صراحة ان على الجميع الاعتراف والقبول بالهيمنة الامريكية وأن ( من ليس معنا فهو ضدنا ) . وبدأوا بغزواتهم والتي قال مبدأ بوش ان تلك الغزوات ستكون بموافقة الامم المتحدة او بدونها. وهكذا كانت البداية مع الحروب على العالم الاسلامي والعربي تحت اللافتة الكاذبة ( الحرب على الارهاب). الحرب ضد ميليشيات بدائية (لإمارة افغانستان الاسلامية) ما زالت مستمرة من 19 سنة. أمّا احتلال العراق فجاء لتكون العراق الجديدة مثالا ً للديمقراطية ولا داعي للاطالة بوصف ما اوصلها الغزو الامريكي اليه.
كمثال على احلام الصهيوامريكيون المحافظون الجدد نقول انه كان بمقدورهم ان يخلقوا دماراً وخراباً وفوضى لكنهم فشلوا في ما ارادوا الوصول اليه.
انشأوا السفارة الامريكية في بغداد كأكبر سفارة في العالم لتدير شؤون غزواتهم اللاحقة والتي كانت سوريا و ايران كما تم الاعلان عن ذلك فيما اسموه بمحور الشر.
نجحوا في بناء اكبر سفارة في العالم في بغداد مساحتها اكبر من مساحة دولة الفاتيكان وهي مدينة داخل مدينة. تتكون ابنية السفارة ومكاتبها في 14 عمارة غير عمارات السكن للموظفين والمتعاقدين داخلها والذي يبلغ عددهم اليوم 16 الف. والسفارة مستقلة تماماً عن خارج اسوارها فقد تم حفر آبار المياه ومعالجتها داخل حرم السفارة وكذلك توليد طاقتها الكهربائية والصرف الصحي ومعالجة الفضلات والمطاعم والاسواق والسوبر ماركتات ومراكز الترفيه.
واليوم تهدد الولايات المتحدة بأنها ستغلق هذه السفارة هذا في الوقت التي ظن الرئيس بوش ان ( المهمة قد أنجزت ) بعد 42 يوماً من الغزو .
هذا النوع من التخبط هو اكبر دلالة على عجز الولايات المتحدة عن قراءة ما بين السطور لشعب كان هو مهد الحضارات بالرغم من كل ما لدى الولايات المتحدة من جامعات ومراكز ابحاث . وينطبق هذا التخبّط في كل مكان حيث كما وصف المؤرخ كيندي في كتابه عن سقوط الامبراطوريات وكما كرره ايريك هوبسباوم بأن انحدار الامبراطوريات والولايات المتحدة ينتج عن طموحاتها التي تزيد بكثير عن امكانياتها مهما عظُمت. حتى لو افترضنا ان عمر الامبراطورية الامريكية سيكون خمسين سنة فهذا يعني أن نهايتها كإمبراطورية ( وليس كدولة) سيكون بحد أقصى سنة 2040 اي بعد عشرين سنة.
كيف سيكون عالمنا العربي بعد ثلاثين سنة بما في ذلك الكيان المحتل في فلسطين؟
بداية فالدولة اليهودية هي كيان استعماري استيطاني أثبت التاريخ فشله ثم زواله مهما طال الوقت ، وكذلك فهي دولة طفيلية وظيفية ؛ طفيلية تعيش على المساعدات الامريكية التي لن تدوم مع انحدار الامبراطورية ووظيفية كرأس جسر للامبراطورية الصهيوامريكية وستنتهي وظيفتها هذه بانتهاء الامبراطورية الصهيوامريكية، فستصبح كسائر كيانات النظام الرسمي العربي بلا وظيفة .
اذا ما أضفنا أن الديمغرافيا في داخل فلسطين المحتلة يعمل بشدة ضد ذلك النظام العنصري حيث ان عدد الفلسطينيين بالداخل يزيد اليوم عن عدد اليهود وان دولة الابارتيد لن تغير في هذا شيئاً بل تزيد الفلسطينيون في الداخل اصرارا على محاربة العنصرية مضافا الى محاربتهم للاحتلال. كذلك سيصبح عدد اليهود الحاردييم الذين لا يؤمنون بالصهيونية ولا بدولة الاحتلال ولا بالخدمة العسكرية مضافاً الى أعداد الفلسطينيين ما يزيد عن 50% من عدد السكان غير المتجانسين وبتناقضات دينية وقومية وايديولوجية بدأت من الان تنخر في هيكل الدولة بحيث ان الديمغرافيا الحالية لم تسمح بتكوين تشكيلة وزارية قابلة للحياة بعد 3 انتخابات خلال سنة.
أغلب الظن أن ربيعاً عربياً حقيقياً سينشب خلال هذه الفترة وستتغير كل الوجوه التي أوصلت البلاد والعباد إلى ما نحن فيه . حتى لو طبّعت كل دول الجامعة العربية وتغيّر اسمها كما هو حقيقة اليوم الى الجامعة العبرية فذلك لن يغيّر في القادم شيئاً . ذلك انه خلال خمسين سنة سينضب النفط في اكثر دول الجزيرة العربية وتصوروا معي ماذا سيكون مصير دول ظنت انها أصبحت امبراطوريات عندما ينضب النفط ويترك المغتربون الذين يكونون 80% من سكان بعض تلك الامبراطوريات الافتراضية كيف ستكون ناطحات سحابهم خاوية على عروشها وكذلك المولات والاسواق بل ستكون عاجزة عن كلفة ادامة بنيتها التحتية من كهرباء وماء خاصة وان صندوق النقد الدولي يبشر (قبل كورونا وقبل انهيار أسعار النفط) بأنها ستصبح دولاً مقترضة سنة 2034 وفي المتغيرات الجديدة قبل ذلك.
نحن اليوم في مرحلة كئيبة وحزينة من تاريخنا لكنها حتماً ستزول.
*مفكر وكاتب عربي وخبير نفطي