السيمر / فيينا / الثلاثاء 08 . 2022
د . عقيل الناصري
1.1 – من جدلية الظرفين الداخلي والخارجي في تأسيس الدولة العراقية:
في البدء ومن الناحية النظرية المجردة يجب “… التأكيد على أن الدول ليست تنظيما للمجتمع بأسره، كما يشاع، وإنما هي تنظيم داخل المجتمع، مسلح بقوة القمع والقسر، وآيا كان شكل الدول فان أحد مكوناتها هو وسيل ممارسة الإجبار على افراد المجتمع. ول يصبح مثل هذا التنظيم ضروريا إلا حينما أنقسم المجتمع إلى طبقات متناحرة، فمنذ ذلك الحين اصبح الدولة ضرورية كـ ” سلطة خاصة” لمنع التناقضات الاجتماعية من أن تنفجر وتمزف مجتمع محدد وتدمر وبالتالي الاطاحة بسلطة الطبقة المسيطرة، وفي هذا الصدد كتب أنجلس يقول: ( الدولة هي مفتاح المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة هي الافصاح عو واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكن حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد أنقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز على الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بإلتهام بعضها البعض والمجتمع في نضال، لهذا أقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الإصطدام وتبقيه ضمن حدود “النظام”. إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع، والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر… “. ومن هذا الايضاح لجوهرة الدولة وماهياته الطبقية.
ولا بد من التأكيد بأن الدولة ومنظومة مفاهيمها وحقائقها المادية، كائن حي يستمد خصائصه من جغرافية مكانه وتفاعلاتها ؛ وخصائصها الطبيعية والبشرية ؛ وطبيعة تطور علاقات الانتاج وبنائها الفوقي ؛ وتفعلاتها الجغرافية خصوصاً السياسية منها. والدولة كائن عضوي وانها متطورة وليست ثابتة، وشبه البناء العضوي للدولة بالبناء العضوي للكائن الحي وليس الجامد. أن تطور الدولة ونموها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعوامل الجغرافية الاجتصادية والسياسية ، وبإعتبارها كائن حي، ينمو ويتحرك ولا ينبغي أن تكون هذه الحركة عشوائية أو تفتقر الى وضوح الرؤيا والمقاصد السياسية والاجتماعية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فبالنسبة للعراق ضمن تاريخيته المعاصرة فقد كانت الديمناميتان: التغلغل الرأسمالي في العراق والإصلاحات العثمانية وبخاصة اصلاحات مدحت باشا، التي جرتا في المجتمع العراقي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد ساهما هذان العاملان في مرحلة بدء التفكك الاجتماعي وبخاصة العشائري.
أما فرضيتنا لهذا الفصل فهي:
من الجانب الأول: تكمن الفرضية الأولى في إن قوى الإحتلال الأول (1914-1932) ، سعت وتسعى إلى بناء دولة ضعيفة الإرادة السياسية يعتريها الكثير من الصعوبات الكامنة وبنظام سياسي مشوه تهمين بصورة أرأسية أحدى المكونات الاجتماعية ، في الإحتلال الأول: (أقلية سنية عند تأسيس الدولة ) ؛ وفي الإحتلال الثالث مع الاحتلال الأمريكي ( 9 نيسان 2003- 31 كانون أول 2011): (قوى شيعة متنافرة وأغلبها تابعة، عند إعادة تأسيس الدولة) ؛ وحركة كردية طامحة إلى الاستقلال في صيغة الكونفدرالية، بخاصة بعد قرار ضم بريطانيا لولاية الموصل ذات الأغلبية الكردية في أواسط عشرينيات من القرن المنصرم. في الوقت نفسه تنكرت بريطانيا إلى معاهدة سيفر بشأن الحكم الذاتي لشرق دجلة حيث الأغلبية الكردية، كي تشعل آوار الحرب عند عدم خضوع الحكومات العراقية المستقبلية لقراراتها، وهذا ما حدث بعد التغيير الجذري في 14 تموز في العام 1958 وقيام الحركة الكردية في العام 1961، بالتحالف مع أعدائها الأستراتيجين بغية الإطاحة بحكومة تموز.
ومن الجانب الثاني: أن الأرث البريطاني عند تاسيس الدولة العراقية كان له تأثيرات مباشرة وغير المباشرة في ما آل إليه عراق اليوم من مشكلات أغلبها مصطنعة أو كامنة أو في طبيعيته الاجتصادية والسياسية في سياق التنافس والصراع بين:
– القوى القديمة (المؤسسة التقليدية والدينية والمؤسسة العشائرية ومن ثم الاقطاعية وقيمها الفكرية والفلسفية والعقلية العثمانية المتمثلة في الموظفين الصغار) ؛
– والجديدة (كالعمال المأجورين قبل تبلورها كطبقة لذاتها، وفئات الطبقة الوسطى ومنظماتها السياسية الحديثة، ومنظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية ومنابعهم الفلسفية المتتوئمة مع روح العصر).
فقد بدأت المنظمات المجتمع المدني بالتشكل والنضوج مع تأسيس الدولة العراقية الملكية ؛ بين أصحاب التبعية السياسية للقوى الخارجية وبين الخطاب سياسي ذو الاستقلالية السياسية والاقتصادي ؛ بين المصالح المختلفة والمتناقظة للمكونات الاجتماعية وبخاصة الدينية المذهبية، والقومية واللغوية، من خلال محاربة الافكار التقدمية وقواها السياسية والفكرية من قبل السلطة الملكية المعبرة عن القوى القديمة وقوى الإحتلال.
ومن الجانب الثالث: أن قوى الاحتلال الأول، اسسوا دولة مركزية ملكية وسلموا مفاتيحها الأرأسية بيد الضباط المتعاونين معها وبخاصة الشريفيين منهم، نظراً لتاريخية التعامل معهم منذ عام 1916، منذ أعلان الشريف حسين (ثورته) ضد الأتراك بناءً على توصية البريطانيين. وهذا ما سنحاول اثباته لاحقاً، من خلال المنهج التحليلي التاريخي. وعليه لابد من التوكيد بأنه “… ليس هناك من تشكيلة اجتماعية في الشرق الأوسط عانت من ضياع الأمن السياسي والاجتماعي مثل التشكيلة العراقية. ويعود ذلك الى كثرة من العوامل والأسباب منها موقع العراق الجغرافي، وثرواته الوطنية، والتداخلات الخارجية، والنزاعات الداخلية، والروح السجالية للمواطن العراقي، وتجذرها في حياته الفكرية، إضافة الى العنف السلطوي المتواصل في منظومة العراق السياسية … “. وقد أنعكس كل ذلك في ماهيات الصراعات الفكرية الفلسفية التي أثرت جدلياً في الحياة السياسية ليس بأبعادها الشمولية بل حتى الجزئية منها.
ومن الجانب الرابع ومن الناحية المنهجية، فقد أولت المعاهد العلمية والسياسية الغربية “… وغيرها من البلدان المتقدمة أهمية كبيرة لدرس الأحداث التاريخية المهمة من خلال فهم عقليات صانيعها من القادة والسياسيين عن طريق إستخدام الكشوف المعرفية الجديدة. وفّرت تلك البحوث تفسيرات جديدة حلّت محل الرؤى الميكانيكية السطحية للوقائع التاريخية، بعيداً عن التحيز الطائفي والقومي، الكراهية أو التقريظ الساذجين، يحاول هذا العمل السير على التراث الفكري لتلك المدارس الفكرية… “. لدراسة تأثير هذه المدارس على ظروف محيطها. وقد استخدمتُ ذات المنهجية بجدلية المنطلق المعرفي ببعده التاريخي ومنظومة المفاهيم العلمية. ومن ماهيات الظاهرة الداخلية لا من خارجها. بالإضافة إلى”… كي تستقيم حياة الشعوب وتتجنب تكرار مآسي تاريخها، على مفكريها والباحثين دراسة نوعية القادة الذين دأبوا على الحكم وطرح أسئلة مثل: لماذا فعلوا ما فعلوا بتلك الطريقة؟ هل أن المحكمين لديهم مواصفات تجعل القادة يسيرون في سيايتهم دون أن يبدر منهم خوف أو تردد يثنيهم عن أفعالهم؟ لماذا لم يشحذ المحكومون مهارتهم لإسقاطه عندما بدأ صبرهم بالنفاذ كما يحدث الآن؟ … “.
ومن الجانب الخامس: وتأسيساً على هذا المنهج ومن صلب التجارب التاريخية فأني أرى أن الطبقة الوسطى ، بفئاتها المتعددة، وفي الوقت نفسه المتناقضة في المصالح الطبقية والأهداف هي، كفرضية علمية، من قادت التغيير الجذري في 14 تموز 1958 عبر، أهم عتلة في الدول النامية، وهي الانتلجنسيا العسكرية، وبالتالي أستكملت ذاتها وتحولت عملياً ونظرياً {من طبقة في ذاتها إلى طبقة لذاتها} حسب التصور الماركسي للطبقة. ولهذا اطلق عليها (ثورة الطبقة الوسطى ). وقد كان من “… عواقب ثورة 1958 الارتفاع الملحوظ في الوزن العددي للفئات الطبقة الوسطى، فخلال العقدين المنتهيين عام 1968، نما سكان المدن المنتمون إلى هذه الطبقات إلى ضعف ما كانوا عليه. ويبدو أن أفراد هذه الطبقات ومن يعليلونهم زادوا من 739,000 إلى 1,676,000، رغم أن المعطيات المعتمدة ناقصة جزئياً، أو ليست دقيقة دقة كافية… وأقصد بالطبقات الوسطى، ذلك الجزء المكون من المجتمع الذي يتميز بتعددية وظائفة ولكنه يتميز بإشتراكه في وضعية وسطية، أي أنه يحتل موقفاً وسطياً بين معدومي الملكية وكبار المالكين، ويضم هذا الجزء عناصر عديدة بينها: ضباط الجيش، والموظفون، وأصحاب المهن، والتجار والباعة وملاك الأرض. وهناك كل ما يؤكد على إستمرار ميل الاتساع هذا خلال السبعينيات … “.
وبهذا تكون ثورة 14 تموز السبب والنتيجة والمعجل الأكثر مواءمة لنمو الطبقة الوسطى بفئاتها المتعددة. ولكن لم يستمر هذا النمو نتيجة سحقها من قبل النظم السابقة بالانقلابية العسكرية منذ عام 1963، وبخاصة منذ الإستحواذ الثاني لحزب البعث (نظام صدام حسين وشلته)، ونتيجة حروبه، الداخلية والخارجية، كما أنها نتيجة الحصار الاقتصادي كمحصلة لهذا الوضع المتوتر. علماً بأن الطبقة الوسطى تلعب دوراً كبيراً في الحراك الاجتصادي والفكري والسياسي في عموم البلدان النامية، وأهمية هذا الدور المستنبط من تعددية الانماط الاقتصادية، وليس تشكيلة أجتماعية متكاملة تقوم على طبقتين رئيسيتين، وتعددية الانماط هي بمثابة مرحلة أنتقالية نحو التشكيلة الواحدة، وبالتالي لم تعد الطبقة الوسطى “… مجرد حلقة وسيطة بين طبقتين: عليا ودنيا (مستغِلة ومستغَلة) بل مكون أساس في بنية المجتمعات النامية. أن اغلب البلدان (هذه) لم تعش طور التراكم الأولي لرأس المال، الذي انتزع ملكية وسائل الانتاج من المنتجين الحقيقيين بطريقة العتف تارة، وإملاءات الضرورة الاقتصادية تارة أخرى، وبموجبها أنقسم المجتمع إلى طبقة تستحوذ على الجزء الأعظم من وسائل الانتاج مقابل أكثرية منزوعة الملكية لا تمتلك إلا قوة عملها… “.
ومن الجانب السادس: لا بد من إلاشارة إلى أن الجغرافية السياسية (الجيوبولتك) التي “… لعبت دوراً ريادياً في تحديد نمط سلوك الوحدات السياسية وتصورات القادة والمجتمعات للدور الذي ينبغي أن تضطلع به دولتهم والمكانة التي ينبغي أن يأخذها مجتمعهم في علاقاته ببقية الوحدات السياسية، سواء في زمن الحرب أو في أوقات السلام… “. وأنها تتغير نسبياً، بسرعة لا تقل عن سرعة تغير الأفكار نفسها أو التغير في المجال التكنولوجي، وربما كانت حالة الأمبراطورية العثمانية من أهم الأدلة على التحولات والتغييرات الجغرافية، بحيث أنقسمت على ذاتها وأنسلخت عنها الكثير من الدول، وتقلصت جغرافيتها إلى ما تمثله الدولة التركية الحديثة.. ولنا مثال مستوحى حديثاً من الاتحاد السوفيتي وتفككيه إلى دول مستقلة.
ومن الجانب السابع: نلاحظ أن التغيرات في مفهوم الدولة الحداثي من كونها كائن عاقل، والدولة تنظيم مدني للجماعة، والدولة جماع الإرادة العامة، الدولة ممثل الجماعة القومية… الخ …” بالخصوص في عالمنا العربي حيث تعتبر الدولة “… كائن همجي، لا عقلاني، يمثل إرادة جزئية، جزافية. فأي نمط من التعريف نختار … “. وقد خطى نقد للمفهوم الماركسي السابق المتمحور في تحطيم جهاز الدولة البرجوازي إلى “… مراجعة الفهم الأحادي للدولة كجهاز وآلة للعنف بيد الطبقة المسيطرة تأخذ بعين الإعتبار وظيفتها الأساسية الشاملة التي تسعى إلى تحقيق ترابط مستويات التشكيل الاجتماعي وإعادة إنتاج الأوضاع القائمة لمصلحة الطبقة المسيطرة أو الائتلاف الطبقي الحاكم، وهي بذلك تلعب دور المنظم للهيمنة وتمتلك تماسكاً داخلياً خاصاً بها يعطيها استقلالاً نسبياً عن البنى الاقتصادية والطبقات والفئات الاجتماعية المسيطرة. ويتيح هذا الاستقلال النسبي للدولة ضبط التناقضات الثانوية بين الفئات الطبقية المسيطرة. لكن دور الدولة يتنامى ويصبح مستقلاً عن الطبقات في الفترات التاريخية التي لا يسمح فيها ميزان القوى القائمة لأي طبقة أن تفرض سلطتها بصورة مستديمة… “. بخاصة في الدولة المتعددة الأنماط الاقتصادية .
ومن الجانب الثامن: ومن المعلوم أن العوامل الداخلية لها التأثير الكبير على اية ظاهرة مقارنة بالعوامل الخارجية، حسب المنهج العلمي إذ من الناحية المنطقية والمبدئية العلمية، تحددت كل العهود والمراحل، كظاهرة، سواءً في الملكية أو الجمهورية، بتفاعل وتصارع القوى الداخلية والخارجية، وما كان متنوع لكل منهما والمتمثل بالتوازن بين هذه التأثيرات. إذ يبشر عهد الشرق الأوسط الجديد، بعد الحرب العالمية الأولى، وفي العراق تحديدا، أن يكون للعامل الخارجي تأثير مقارباً أو أعلى نسبياً في الظاهرة العراقية مقارنةً بالعوامل الداخلية. بل أصبح الموجه الأرأس للعوامل الداخلية، ما عدا فترة الجمهورية الأولى( 14 تموز 1958- 9 شباط 1963) ولهذا تحالفت قوى الداخل المتضررة من ثورة 14 تموز مع قوى الغرب الأمبريالي والقوى الإقليمية على وأد الثورة.
إذ “… لم يكن تأسيس الدولة العراقية والدول ما بعد الكولونيالية في منطقة الشرق الاوسط عموماً، مفوعاً بديناميات داخلية بالدرجة الأساس، وكذا لم يجرِ ترسيم حدودها من خلال ديناميات وطنية. وكان انحلال الأمبراطورية العثمانية وتوزيع مناطق النفوذ ما بين بريطانيا وفرنسا قد أفضى إلى تكوين الدول الحديثة في العراق وسوريا والأردن ولبنان ضمن منطقها الجغرافية الحالية. ولذا، كانت مصلحة القوى الكولونيالية وسياساتها هي من بين العوامل الأكثر تأثيراً في طريقة نشأة وبناء هذه الدول. وعلى أية حال، فإن الحاجة لشرعنة هذه الكيانات الجديدة – في الوقت الذي كان فيه خطاب حق تقرير المصير يتصاعد واستلزم تحويلها إلى دول – أمّة … “. وعند إستعراضنا للمفاصل التاريخية والحوادث الجذرية التي جرت في أرض العراق على إمتداد القرن العشرين تتــضح الصورة في تجلياتها المادية، ومن أهمها: الاحتلال الأول 1914-1932 ؛ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة 1921 ؛ إجهاض الحركة العراقوية عام 1937 ( حكومة انقلاب بكر صدقي) ؛ اجهاض حركة مايس التحررية عام 1941 ؛ الإحتلال الثاني 1941-1947 ؛ المساهمة في الاحلاف العسكرية كحلف بغداد ؛ إجهاض ثورة 14 تموز التحررية من خلال انقلاب شباط عام 1963 ؛ المشاركة في الانقلاب الدولي لعام 1968 ؛ تحبيذ الحرب العراقية – الايرانية في العام 1980 ؛ تحبيذ احتلال الكويت في عام 1992 ؛ الاحتلال الثالث وسقوط صنيعتهم في أبريل/ مايس من العام 2003.
لقد لعب الفكر ولا يزال يلعب “… عبر التاريخ دوراُ متميزاً في التهيئة والإعداد للأحداث التأريخية، ففي البدء كانت الكلمة. وترابط الفكر مع إبداعات المثقفين، اسهم ويساهم في نشر الوعي بين الناس، لإدراك مسيرة حياتهم والاقتراب من إدراك الواقع بكل تعقده وتشابكه وترابطه، وكشف العوامل التي أدت إليه والأشارة إلى وجهة التطور كي يغدّ الناس الخطى، متضامنين إلى مستقبل أفضل. ليس ثمة شيء حتمي في تاريخ المجتمعات، هناك قوانين موضوعية تؤشر التطور بإحتمالات متعددة مفتوحة تطور ظرفي، ديالكتيكي لا ميكانيكي، تؤشر فيه مختلف العوامل الموضوعية منها والذاتية، وتلعب فيه الصدفة، المكملة للضرورة، دوراً في حسمه وتعزيزه… “.
فمن الناحية: يلعب الفكر بصورة جدلية، بإعتباره يمثل الجزء الأهم من البناء الفوقي (وهي بإختصار كل العلاقات في المجتمع ما عدا العلاقات الاقتصادية) وهي ذات استقلال نسبي عن البناء التحتي (علاقات الانتاج الاجتماعي). والبناء الفوقي يمثل جزء منه طبيعة علاقات الانتاج المندثرة السابقة ؛ والجزء الأعظم يمثل الصدى الجدلي لعلاقات الانتاج السائدة ؛ أما الثالث فهو يشمل الابعاد المستقبلية للفكر المنطلق من الاماني والاحساس، المادية وغير المادية المستقبلية، ويمثل انعكاسا للمشاعر والتصورات المادية للقادم الفكري والاجتصادي المبتغي الوصول إليه.
ومن الناحية أخرى: فحامل الفكر يرتبط تاريخياً وعالمياً بفئات المتعددة للطبقة الوسطى وذات المصالح المختلفة، بل والمتباينة وأحياناً المتناقضة، وفي العراق المعاصر فقد ارتبطت “…اشكالية الطبقة الوسطى وتطورها بتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ منتصف القرن التاسع عشر وبخاصة بإشكالية الدولة ؛ وطبيعة السلطة ؛ والتطور الاقتصادي، حيث لم تتطور خلال فترة الحكم العثماني الاستبدادي سوى طبقة – طبقات جنينية في رحم المجتمع العراقي. غير ان بدايات تشكل الطبقة الوسطى كان مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في مطلع القرن الماضي ثم نموها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أسهمت الدولة في نموها عن طريق تطور رأس المال البشري ونظام الملكية والتعليم والمؤسسات الإدارية، حيث نمت رؤوس الأموال واستثماراتها وتمركزت في القطاع التجاري الذي كان سببا في نشأتها، وهو ما جعل قطاع الصناعة محدودا في بعض الصناعات الاستهلاكية الصغيرة وذلك لحاجة السوق المحلي لها. وقد لعبت الطبقة الوسطى النامية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية دورا رياديا هاما في الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية واستطاعت توحيد صفوفها في جبهة وطنية عريضة قادت الى ثورة 14 تموز عام 1958… “.