السيمر / فيينا / السبت 07 . 05 . 2022 ——- احتفلت السينما بالجمال وفي القلب منه الزهور بألوانها وأشكالها، لكنها لم تتأمل الجمال صامتة بل تفاعلت مع ذلك الجمال فيما يعنيه وكيف يرسم خطوطا درامية لحياة أبطال الأفلام.
ذهب رضوان الكاشف إلى المقهى في وقت مناسب تماما، فاكتشف “ليه يا بنفسج” وفكر أنور وجدي خارج الصندوق فاكتشف الطفلة المعجزة “ياسمين” وجسد موسيقار الأجيال تراث المدرسة الرومانسية بـ “الوردة البيضاء”. أما نعيمة عاكف فقد خرجت على قانون الوردة الرقيقة، وقررت أن تكون شجرة تمر حنة تلقي بظلالها على مجتمعها.
امتصت السينما رحيق الورد، فدفعت بالزهور إلى الحبكة وصنعت من دلالة اللون دراما ومن جمال الشكل بعدا إضافيا، فصنعت أفلاما على ورق الورد.
كان المصري رضوان الكاشف يسير في ميدان الفلكي وسط القاهرة قبيل الغروب بقليل صيف 1993، شعر هذا المخرج الذي بدأ لتوه في مرحلة المونتاج لفيلمه الأول برغبة في تناول فنجان قهوة تركي فاتجه لمقهى الحرية القريب، يطلب قهوته.
كان المقهى شبه خال إلا من بضعة شباب يجلس كل منهم وحيدا ومشروبه أمامه على المنضدة الصغيرة، بينما ينتظر قهوته، سمع رضوان اللحن الخالد لرياض السنباطي بينما يصدح صوت المطربة حنان ماضي بأغنية “ليه يا بنفسج” التي كتب كلماتها بيرم التونسي:
ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين
والعين تتابعك وطبعك محتشم ورزين
ملفوف وزاهي يا ساهي لم تبوح للعين
بكلمة منك لم تبتسم كأنك سر بين اتنين
يعرف الكاشف أن البنفسج يهدى للأصدقاء والأقارب والأحباب في المناسبات الحزينة ليس لكونه يسبب الحزن، بالعكس البنفسج يمنح الناظر إليه بهجة وحبورا.
هي إذن زهور حزينة تمنح الآخرين بهجة، ومن هنا قرر الكاشف تسمية الفيلم الجديد “ليه يا بنفسج” واستعان بالأغنية في سياق الفيلم لتصبح إطارا شاعريا يقص ما يريد صانع العمل أخبار جمهوره به عن طبقة مهمشة وضعيفة تعمل ليلا في أفراح الآخرين لإسعادهم، بينما تعيش أحزانها الخاصة حين يطلع النهار.
كان “ليه يا بنفسج” هو الفيلم الأول من بين ثلاثة صنعها الكاشف ليخلد اسمه في عالم السينما ثم يرحل تاركا حكايات المهمشين في “عرق البلح” و”الساحر” كما تركها في “ليه يا بنفسج” والأفلام الثلاثة تصلح لأن تسمى “ليه يا بنفسج” ذلك السؤال الاستنكاري والعتاب الرقيق لكائن هش حزين وجميل يمنح الآخرين بهجة دائما.
يحكي “ليه يا بنفسج” قصة أحمد الذي يعمل خادمًا في أحد القصور، ويطرد بعدما يتجاوز حدوده ويبدي إعجابه بإحدى فتيات السادة.
يظل متعلقًا بحبها ويفشل في حب أي فتاة أخرى. يرث عن عمته عربة طعام متجولة ويشاركه صديقاه سيد وعباس نفس الحجرة ويجمع بينهما الفقر والحرمان.
للبنفسج حضوره في الجنائز والقبور والمصحات، وله الحضور نفسه في الشعر العربي، وفي الطب أيضا إذ يساهم في التخلص من الأرق ويخفض الضغط، وينمو في نصف الكرة الشمالي، ولحضوره في الشعر العربي المعاصر ألق خاص إذ يرد في قصيدة محمود درويش عن حبيبته المستحيلة “ريتا”:
وريتا تنام.. تنام وتوقظ أحلامها
– نتزوج؟
نعم.
– متى؟
حين ينمو البنفسج
على قبعات الجنود
الوردة البيضاء 1932
الدلالة الأولى للون الأبيض هي النقاء والبراءة، لكن ثقافات عديدة وخاصة في الشرق تستخدم الأبيض في المناسبات الحزينة وهو أيضا لون المستشفيات وزي الحكيمات، أنتج فيلم “الوردة البيضاء” عام 1932 وجمع نجوم ثلاثينيات القرن الماضي في مصر وهم محمد عبد الوهاب ودولت أبيض وسميرة خلوصي وسليمان نجيب وزكي رستم ومحمد عبد القدوس، وحمل ميراث الرومانسية في شكلها الأبسط حيث تخبر الوردة البيضاء التي تهديها الفتاة البريئة إلى حبيبها كل معاني البراءة والنقاء.
مخرج العمل هو محمد كريم الذي بدأ حياته ممثلاً. أخرج للسينما فيلمين كلاهما يحمل اسم زينب، لكن الأول فيلم صامت أُنتج عام 1930، والثاني ناطق أنتج عام 1952. ارتبط اسمه مع الموسيقار محمد عبد الوهاب حيث أخرج له الأفلام السبعة التي قام ببطولتها من الوردة البيضاء حتى لست ملاكاً.
كما أخرج فيلم دليلة من بطولة عبد الحليم حافظ عام 1956، وهو أول فيلم مصري يظهر بطريقة سينما سكوب.
تدور قصة “الوردة البيضاء” حول علاقة حب بين رجاء ابنة إسماعيل بك وجلال الذي كان يعمل لدى أبيها، وهو لم يكمل تعليمه، وعندما يعلم الأب بهذه العلاقة يفصل جلال من العمل، تعاني رجاء من زوجة أبيها. يحترف جلال الغناء في الوقت الذي تمارس فيه دولت زوجة إسماعيل بك الضغوط والحيل على رجاء للزواج من أخيها شفيق.
وتكررت القصة التي دار حولها الفيلم مع تغييرات بسيطة تتفق والمرحلة الزمنية والتطور المجتمعي في العديد من الأفلام المصرية، وخاصة تلك التي يقوم بأدوار البطولة فيها مطربون، ولعل أشهرها فيلم “شارع الحب” من بطولة عبد الحليم حافظ وصباح.
تعبر الفتاة التي تعلمت في أوروبا وعادت إلى مصر (قامت بدورها الممثلة المصرية سميرة خلوصي) عن إعجابها بالشاب الفقير جلال بإهدائه وردة بيضاء، وإهداء الورد يعد من الطرق المتعارف عليها للتعبير عن الحب والإعجاب، وتبعا للون الوردة يمكن تحديد نوع أو درجة هذا الحب حيث يرمز الأحمر مثلا إلى الغرام الشديد والأصفر للغيرة.
ياسمين 1950
ياسمين هو اسم الوردة واسم البطلة، وهي طفلة ولدت لثري لا يرغب في إنجاب الإناث، يتركها على باب أحد الملاجئ، فتكبر هناك، ثم تهرب لتنضم لعصابة أطفال، وتصادف عازفا متجولا وفي محاولة لحمايتها يقنعها بالعمل معه، لكنها تمل من حياة الفقر فتهرب ويكتشف بعد هروبها أنها حفيدة باشا، فيساعدها للعودة إلى عائلتها.
وهذا العمل واحد من أفلام السينمائي والنجم المصري ذي الأصول السورية أنور وجدي ويعد من العلامات البارزة في السينما المصرية حيث قدم من خلاله الطفلة المعجزة (كما أطلق عليها في ذلك الوقت) فيروز مع كل من مديحة يسري زكي رستم ومن إخراج أنور وجدي.
رغم الشفقة التي تستحقها الطفلة ياسمين نتيجة تخلي أب غير مسؤول عنها، إلا أن هروبها من حياة الفقر يعد مؤشرا دالا على سلوك غير مطمئن من قبل طفلة يبدو أنها فقدت جزءا من براءتها نتيجة الظروف القاسية التي نشأت فيها، وهو ما يحيلنا إلى تلك الوردة البيضاء الجميلة التي تسمى ياسمين.
وردة الياسمين بيضاء في أغلب الأحيان ويوجد منها نحو 200 نوع وتنمو جنوبا في أفريقيا، حيث تحتاج إلى مناطق مشمسة ومياه وفيرة، لكن المفارقة الكبرى في الياسمين أن هناك نوعين منه، أحدهما صادق والآخر كاذب تماما ولكن يشبه الأصل، وهو قاتل إذ يتسبب في قتل مستخدمة بسبب سميته الشديدة، ويمكن تمييز الأصلي أن أوراقه خضراء طوال العام.
تستخدم زهرة الياسمين في الكثير من التركيبات العلاجية من أجل آلام الصداع وعلاج بعض حالات الاكتئاب، وتستطيع شجرة الياسمين البقاء على قيد الحياة من 15 إلى 20 عاما.
التمر حنة 1957
حين يتحدث الشاعر أو صانع الفيلم عن الياسمين فإنه -غالبا- يقصد الزهرة أو الوردة، لكن في حالة التمر حنة رغم جمال زهورها فإن الشاعر أو صانع العمل يقصد شجرة عملاقة دائمة الخضرة تصلح واجهة بيت، ويبدو الاختلاف في التصور بين زهرة الياسمين والتمر حنة أنه اختلاف في التصور عن المرأة ذاتها في إطار علاقة حب أو زواج، فالوردة الصغيرة الهشة هي صورة المرأة الجديدة أو المعاصرة بينما التمر حنة شجرة طيبة الرائحة جميلة الزهور، وارفة الخضرة وهي أيضا تصلح فروعها لديكور واجهة منزل.
ومن هذا التصور جاء فيلم ” تمر حنة” 1957 للمخرج حسين فوزي وبطولة نعيمة عاكف وفايزة أحمد ورشدي أباظة وأحمد رمزي.
وتدور قصته حول فتاة غجرية ترقص في الموالد وتتمتع بقدر كبير من الجمال والخفة، لكنها تنتمي لطبقة فقيرة حيث يربطها قدرها بحسن الذي يعمل في الموالد الشعبية، وفي نفس الوقت يعجب بها أحمد ابن العمدة الثري، ويحاول بشتى الطرق أن يقربها إليه فيكذب على والده قائلًا عن تمر حنة بأنها بنت باشا غني حتى ينجح في الفوز برهانه مع والده، ولكن تسير الأمور فيما بعد على غير المتوقع.
الفتاة الغجرية في الفيلم ليست ذلك الطرف الضعيف في العلاقة، وليست الفتاة التي تنتظر شفقة حبيب غني كي يعطف عليها، لكنها الفتاة القوية المحبة بكرامة وعزة والنافرة من ابن عمها الذي يتعامل معها كملكية خاصة، امتلكت الفتاة الغجرية إرادة الخروج على الأعراف والتقاليد ولكنها تضعف أمام شاب ثري وقعت في حبه، هي شجرة دائمة الخضرة تنتج زهورا وتنشر عبقا أو تملك إرادة الهجر.