السيمر / فيينا / الأحد 15 . 05 . 2022
محمد علي محيي الدين
من أكثر انماط الشعر الشعبي العراقي اهتماما من الباحثين والقراء العراقيين (الدارمي) ذلك الفن العراقي الأصيل الذي عبر عن خلجات النفس الانسانية ، وأعطى صورة واضحة عن طبيعة المجتمع العراقي، وأبرز بشكل واضح هموم المرأة العراقية ومعاناتها وما يعتلج في داخلها من أحاسيس على مر العصور.
والدارمي في بداياته شعر نسائي بحت، تفردت المرأة العراقية بتناوله، وأبدعت فيه وبرزت نماذج منه لا زالت راسخة في الذهنية العراقية، وأقحم الرجل نفسه في هذا الجانب لما حضي به من اهتمام وعناية من ابناء الشعب ، وأخذ مديات ابعد من خلال الخوض في مجالات الحياة المختلفة فكان أداة للتعبير عن الهم الذاتي والاجتماعي والسياسي حتى أخذ مكانه في كافة مناحي الحياة ولم يعد مقصورا على التعبير عن هموم المرأة وانفعالاتها وما تعانيه في مجتمعها.
وصدرت العديد من الدراسات والبحوث التي تناولت هذا الفن الشعري، وعنيت بدراسة جوانبه المختلفة، اضافة لما جمع من نصوصه الفولكلورية في كتب ودراسات، ولو اردنا استعراض هذه الكتب لضاق بنا المجال.
وآخر ما صدر عنه كتاب الاستاذ الدكتور هاشم العقابي الذي أطلق عليه (غزل العراقيات دراسة في أصل الدارمي) الصادر عن دار نابو البغدادية عام 2022م ، وامتاز كتاب الدكتور العقابي عن الكتب الأخرى بمناقشة مستفيضة هي أقرب الى الدراسة الاستشرافية لما فيها من مراجعات للآراء التي طرحت حول اوزانه وتسمياته وموجبات قوله وما فيه من تطلعات وتوجهات وأغراض، فقد وجد المؤلف الفاضل ان الباحثين في هذا الفن الشعري ذهبوا مذاهب شتى في تسمياته ، وجاءوا بآراء مختلفة ابتعد الكثير منها عن الحقيقة، فقد قيل في تسمياته أنه سمي بالدارمي نسبة الى قبيلة بني دارم ، أو من الدردمة أو اقتداء بقول الاعشى (يا دارمية) وهناك من اطلق عليه غزل البنات أو النثر أو الموشح أو البستة أو الدارمي الى غير ذلك من الاسماء والمسميات ، في الوقت الذي لم يعرف على المستوى الشعبي بغير اسم الدارمي الذي اصبح عنوانا وميسما له، رغم أن الاستاذ العقابي لم يبتعد عن الاسم الشائع غزل البنات الذي خصه بالعراقيات وهو ما ذهبت اليه في كتابي (الدارمي أو غزل البنات) وبذلك توافقت واياه على هذه التسمية.
وأرى أن اطلاق تسمية الغزل عليه قريبة من الواقع رغم انه تناول الى جانب الحب معاناة المرأة العراقية وما واجهت في حياتها من آلام ومضايقات فنجد الشكوى المرة من الواقع الاجتماعي للمرأة العراقية وما لحقها من حيف جراء الممارسات والعادات الضارة التي درج عليها المجتمع العراقي، ففي قضية الزواج ورفضها للأساليب الاجتماعية المتبعة في إقرار الزواج دون موافقتها وأخذ رأيها وشنتها ثورة لاهبة بوجه المجتمع في رفض واستنكار لهذه الممارسات التي لا زالت المرأة العراقية تعاني منها ، فنرى الكم الهائل من النصوص المعبرة عن الزوج المكروه، وطبيعة الحياة المرة التي تعيشها المرأة في ظل الاكراه والهيمنة الذكورية على مقدراتها، لذلك فالدارمي ليس غزلا خالصا كما يوحي العنوان.
واوافقه فيما ذهب اليه حول اوزانه، وان بحور الفراهيدي لا تنطبق على الشعر الشعبي او الملحون كما يطلق عليه في المؤلفات العربية، فالقواعد العروضية لا تنطبق على الشعر الشعبي كما يرى الخليل لوجود فروق جوهرية بين اللغة العربية واللغة المحكية ، فالأولى لا يلتقي فيها حرفان ساكنان كما في الثانية، فكيف يمكننا تطبيق قواعد مستقرأة من العربية على الشعبية.
وفي مرونة الدارمي بين الباحث صلاحية هذا الفن للغناء وليس للإلقاء، فالمغني قادر على التصرف والاختيار اعتمادا على طبيعة الطبقات الصوتية للمطرب، وأورد مثالا على ذلك الدارمي التالي الذي قدم فيه العجز على الصدر:
روحي خطية عاجل غزاها الشيب
ما عدها نية تكبر وتنسى الشوگ
والدارمي يتقبل عند تلحينه أن تضاف اليه كلمة أو عبارة دون أن يؤثر ذلك على وزنه أو ايقاعه ، ونجد ذلك في كثير من الأغاني العراقية التي اعتمدت الدارمي نصوصا لها.
ثم بين الباحث ابتعاد الدارمي عن اجواء الحرب والحماسة، والمديح والسياسة، ولا علاقة له بالحكم والمواعظ أو الانشاد الديني ، مركزاً موضوعاته على الحب والمشاعر الذاتية، ومعاناة المرأة ولواعجها وأشجانها، وما يتعلق بحياتها ونوازعها.
ويشير الى أن بناء الدارمي من بيتين موزونين توحدهما القافية ، وكل بيت يتألف من صدر وعجز، ويرتبطان بعلاقة عضوية ان فقدت يفقد الدارمي وقعه المدهش، ويطرح أحد البيتين البداية أو القفلة حدثا أو احساسا متوقعا ، بينما يحمل الآخر شيئا مفاجئا ، وهناك نصوص تنفرد ببداية غير متوقعة ونهاية تصدمنا بالا متوقع أيضا، وهذه تعد من روائع الدارمي ، وقد أورد نماذج استدلالية لهذا النوع من الدارمي ، تظهر الاستيعاب الواعي لما ذهب اليه المؤلف ، وقدرته على قراءة النصوص وفق رؤية استدلالية تبرز خفايا النص وتوجهاته غير الظاهرة لدى غير المتمرسين في دراسة النصوص الادبية والخوض في بواطنها.
ويرى أن قصر الدارمي ، هو ضرورة فرضها المجتمع على المرأة، فللرجل المجال الواسع للبوح بمكنوناته دون خشية من رقيب بعكس المرأة التي تحسب عليها حركاتها، فيا ويلها لو قالت(آخ) أو (آه) وان كانت تنزف وجعاً:
حرموا حتى الصوت بسمك فلا أصيح
دمعتي بطرف العين بس أرمش أطيح
لذلك ” كان عليها أن تكثف قصيدتها كما البرقية المشفرة التي يبعثها سجين تحت المراقبة” وبهذا يمكننا القول أن المرأة سبقت الآخرين بالتعبير عن رأيها بالومضة التي لجأ اليها الشعراء في العصر الحاضر.
ومجهولية القائل التي اطلق عليها المؤلف(السرانية) ترجع إلى الظروف التي أحاطت بالمرأة العراقية التي لا تستطيع الاجهار بمكنونات فؤادها، لما يترتب على ذلك من عواقب قد يؤدي الافصاح بها إلى القتل أو الزواج القسري من أبله أو عجوز.
ثم يتناول المؤلف انتشار الدارمي وشيوعه عبر الاجيال عازيا ذلك الى عوامل ذاتية وخارجية ، فالعوامل الذاتية التي انماز بها هذا الفن أنه تعبير عن الحاجة الانسانية للحب والحياة، وقصر الدارمي ورشاقته، ومجهولية قائله تبعد من يتداوله عن المسائلة العشائرية أو العائلية، أما العوامل الخارجية فهي (بنات العيد) وهن مجموعة من الصبايا القرويات يشكلن فرق غنائية يتجمعن في الاعياد والمناسبات ويغنين الدارمي، فينتشر بين الناس، ثم يتناوله المطربون فيشيع على الالسن من خلال تداول اغانيهم بين الناس.
وكان للغناء دوره في اشاعة الدارمي وانتشاره، اضافة لدور الغجر الذين اعتمدوا الدارمي في كثير من اغانيهم التي شاعت من خلال تجمعاتهم في بعض المدن العراقية، وتنقلهم الدائم بين المدن، اضافة لدخولهم الاذاعة والتلفزيون، وكذا للرولة دور كبير في شيوع الدارمي وانتشاره فهؤلاء يحفظون كثيرا من نصوصه بحكم التنقل بين المدن فتشيع هذه النصوص بين الناس.
والجديد فيما أورده المؤلف هو (الخيرة في الدارمي) فهذا الموضوع بدا مفاجئا لي رغم ايراده أدلة وشواهد اعتماداً على ما اوردته الكاتبة نبيهة احمد الزبيدي في بحثها الموسوم الخيرة الشعبية بين الضرورة والصدفة المنشور في مجلة التراث الشعبي العراقية بعددها الاول لسنة 1972، والنماذج التي وردت للدلالة لا تحمل في مضامينها شيء من الحدس أو التخمين في معرفة الطالعة، ولم أسمع عند بحثي عن الدارمي من خلال لقائي بعشرات العجائز وبعضهن ممن عشن أزاخر العهد العثماني أن الدارمي استعمل في قراءة الطالع أو الخيرة والاستخارة.
وفي الفصل الثالث عمد المؤلف الى نقد ومناقشة الآراء التي وردت عن الدارمي ، وأستعرض تلك الآراء مفنداً أو مؤيداً، وهذا يمثل وجهة نظره في طبيعة تلك البحوث ودلالاتها، مستخلصا رؤيته في التفنيد والتأييد، وخصوصا في مسألة تسمية الدارمي التي ذهب فيها الباحثون مذاهب شتى فيها كثير من التمحل والادعاء، إلا أن ما وصل اليه المؤلف كان ضمن إطار من أكد على تسميته الشائعة ب(الدارمي) ومضمونه الذي لا يتعدى غزل البنات ، وهذا الرأي الناضج تؤيده عليه حقيقة هذا الفن ودوافعه ومراميه.
وناقش الاستهانة بالدقة وأصول البحث العلمي لدى بعض الباحثين ممن كتبوا عن الدارمي، وعدم الدقة في اختيار النصوص، مستعرضا ما كتبه شاكر لعيبي من نصوص متهالكة لا تمت لهذا الفن بصلة لما فيها من تفكك لا يليق بهذا الفن الجميل الذي يتسم بالأصالة والدقة في اختيار المفردة، ونصاعة المعنى، وكذلك في ترجمته لبعض النصوص التي ابتعدت عن فهم المعاني الواردة فيها واورد نماذج للتدليل على ما يقول.
ويناقش بحث الكاتب محمد غازي الأخرس الذي اورد نصوصا رافقها كثير من الخلل، وافتقدت الدقة والاصالة والمصداقية والوزن وما رافقها من أغلاط املائية شوهت المعنى، وناقش رأي الباحث احمد البدر الذي ينفي نسبته للنساء لأن المرأة لا تملك حقا رسميا في تأليف وقول الشعر وهو رأي لم يطرحه باحث على كثرة الباحثين في هذا الفن.
وعقد الفصل الرابع للبحث في أصل الدارمي، مستعرضا تاريخ الشعر النسوي عبر عصوره المختلفة، وخلص إلى القول أن العرب المتمسكين بالقيم العربية لم يسمحوا للنساء بقول الشعر الغزلي، إلا أنه شاع بين النساء غير العربيات في الدول الاسلامية كالامازيغ والافغان ، وهذا النوع من الشعر قريب من الدارمي في بناءه ومعانيه، واستعان بالمعاجم والقواميس الاجنبية ليخلص الى القول ان تسميته جاءت من سكان العراق الاصليين وهم السومريين بالتحديد أو الاكديين والبابليين وما تلاهم من أقوام اتخذته سكنا، وعثر من خلال بحثه الطويل على ان تسمية الدارمي جاءت من اللغة السومرية، فكلمة دار في السومرية تعني نسج ومي البنات وبحسب الجاحظ فالشعر ضرب من النسج ، وفي اللغة العربية نسج الشاعر الشعر أي نظمه، وبذلك خلص الى الجزم بسومريته.
وفي الفصل الخامس عمد الى فرز الدارميات النسوية من خلال استعراض اراء الباحثين في هذا الجانب وخلطهم في نسبة الشعر النسائي الى الرجالي رغم افتقارهم للدليل القاطع واورد بعض النصوص، ثم عمد إلى أجراء استفتاء بين الخبراء من الجنسين لاستبيان رايهم في جنس قائل او قائلة كل دارمي واعد قائمة من 275 دارمي عرضها على ستة منهم ليصل الى نتيجة ان الاكثرية وجدوا ان 138 دارمي نسوي و 131 دارمي لا يدرون و5 دارميات رجالية، ولابد لي من القول أن النصوص الفولكلورية تطغى عليها الصفة النسوية ، ولكن هناك آلاف النصوص التي عمد الشعراء إلى نظمها وأصبح الدارمي في الوقت الحاضر من الفنون الشعرية التي ينظمها الرجال في مختلف الأغراض، وعلينا التفريق بين النص الفولكلوري والنص الشعري، وأستطيع أن اقدم له نماذج من النصوص الفولكلورية التي لا يمكن نسبتها للمرأة لما فيها من دلائل على ذكوريتها رغم تأكيدي على أنه فن نسائي بحت دخل ميدانه الرجال بعدما لمسوا ما له من أهمية في التعبير والذيوع والانتشار.
خلاصة القول في هذه الدراسة القيمة أن الدكتور العقابي قد استطاع من خلال بحثه هذا الوصول الى نتائج باهرة لم يسبقه اليها أحد وتمكن بدأبه وصبره على البحث من وضع حد لكثير من الاحتمالات التي ذهب اليها كثير من الباحثين ، وإن كنت أؤاخذه على أمرين أنه لم يضع معان للمفردات الشعبية التي يجهلها كثير من القراء، وعمد الى طريقة غريبة في الاشارة الى المصادر تختلف عن المألوف في المؤلفات العربية وإن كانت على طريقة البحث الأكاديمي الحديث في الجامعات الغربية.