السيمر / فيينا / الأحد 10 .07 . 2022
محمد علي محيي الدين
مما يستهويني في عالم التأليف والكتابة، كتب المذكرات، التي من خلالها أجد صوراً مختلفة لحياة إناس كان لهم أثر في الحياة والمجتمع، لذلك تحتضن مكتبتي عشرات إن لم أقل المئات منها، وجلها أو أكثرها أقرأها بروية وإمعان لما فيها من خبرات وتجارب ومواقف حياتية مختلفة ربما يشكل بعضها طريقا دافعاً للإنسان ليحذو حذو هذه الشخصية أو تلك، ويترسم مسارها، ويرى تجربتها في الحياة ، وكيف خاضت معتركها لتصل إلى ما وصلت إليه رغم ما واجهها من متاعب ومصاعب وعراقيل.
وبين يدي كتاب أختار له مؤلفه الاستاذ غالب العميدي عنوان جاذب( حلو ومر.. من سنوات العمر) من مطبوعات دار الفرات، ضمنه ذكرياته وخواطره وما شهده في حياته – التي أتمنى أن تطول- من تجارب ومحطات غنية بدوافعها، طافحة بمواقفها التي زادته إصراراً على أن يكون شيئاً في هذا الوجود، رغم عدم توفر المهيئات اللازمة لأن يكون على ما هو عليه، نظرا لتعقد الظروف والملابسات التي رافقت حياته منذ نشأته الأولى، ورافقته في مسيرته الحافلة بالمثمر من الأعمال، الزاخرة بالمكاسب التي كان يسعى اليها ويترسمها في مسيرته الدائبة في الوصول إلى ما تشتهي نفسه من مسالك رسمها في وجدانه، فكان له ما أراد من طموح ورغبة فيه، وأصبح كما يشتهي في تحقيق ذاته من خلال هاجسه الفني في أن يكون له مكان في الأسرة الفنية ، ذلك هو الاستاذ خالد العميدي الذي شهدته قبل أعوام وعرفته قريباً مذ شهور فكان مخبره نظير منظره في الهمة والسعي والعمل الجاد الدؤوب.
في مذكراته محطات شتى يستحق أن يقف الانسان متملياً فيها، خائضا في مساربها، فاحصاً لمسالكها، دراساً لمفاصلها بتأن ليصل ما تناثر منها في طيات الكتاب، ويحاول أن يستجلي من خلالها السعي الجاد، والعمل المتواصل، لتجاوز العقبات التي واجهته في هذا الخضم الهائج من الأحداث والمواقف، فقد ولد لأسرة فقيرة أجبرتها الظروف على دفعه للعمل والكدح في سن مبكرة، والعيش في ظروف لم تكن تهيئ له أن يصل إلى ما وصل إليه، ولكه استطاع تجاوزها بالصبر والاصرار والحرص على مواجهتها، بما يحمل في داخله من عزيمة وهمة، فكان له ما أراد مزاوجاً بين العمل اليومي، والدرس والتحصيل، ورغم هذه الظروف المحبطة كان يمارس هوايته، ويحقق رغبته، ليعمل في الشوطين، ويصل في النهاية إلى ما يبغي ويريد.
أول ما يواجهك في هذه المذكرات لفتته الذكية في رسم صورة ناطقة لما عليه مدينته وحيه، حتى ليصح أن نقول عن كتابه أنه كتاب خطط لمدينة الحلة وتركيز واف للحي السكني الذي عاش فيه أكثر أيامه، فهو يذكر ازقتها وساكنيها، ويعرج على معالمها والمراكز المهمة التي فيها، ولا ينسى في هذه العجالة أن يرسم صورا لشخصيات عاشت على هامش الحياة، مركزا على الجوانب المخلفة من حياها، وما كان عليه المجتمع في تلك الايام من توادد ومحبة، وما يزخر به المجتمع من احترام للكبير، وعطف على الصغير ، ويورد حادثة بسيطة في ظاهرها كبيرة في مغازيها عندما يصف حال بعض الأشقياء الذين يتناسون أنفسهم فيرضخون لكبار السن عند تقريعهم، في الوقت الذي لا يتورعون عن ارتكاب كل جريمة في مواقف أخرى، ولكن سلوكهم الاجرامي يتضاءل أمام من يحترمون ويقدرون، بحكم التربية التي كان عليها المجتمع تلك الايام ، في الوقت الذي لا نرى شاهدا لذلك في زماننا هذا ، وهو يعطي صورة لما عليه المجتمع يوم ذاك.
ويعرج على التعليم ومستوياته تلك الايام، رغم تفشي الجهل والأمية، ولو قرناه بالتعليم في يومنا هذا لوجدنا البون شاسعاً بين معلم الأمس ومعلم اليوم، فالمعلم تلك الايام مربي يسعى لبناء شخصية الطفل وزرع الصفات الفاضلة والخلال الحميدة فيه، يعامله معاملة دونها معاملة الوالد الشفيق أو الأخ الشقيق، وتلك سمة نفتقدها في مدارس هذه الايام، ويرسم صورة لما عليه التعليم بالاهتمام برغبات الطلبة وهواياتهم وسعيهم لاكتشافها وتنميتها ، وبذلك تمكنوا من إبراز كفايات الطلبة وتنميتها ليخرجوا جيلاً مشبع بالعلم والتربية الكريمة، لذلك لا يزال ذلك الجيل يذكر مربيه بالتقدير ويحيطهم بالإجلال والاكبار ، ويجد فيهم المثل الأعلى في السلوك والتعامل، وربما حذا بعض طلبتهم حذوهم وعاملوا طلابهم بمثل ما عوملوا بهم فنرى آحاداً من أساتذة هذه الايام ينهجون نهجهم ، ويسلكون مسلكهم .
ويبين ما عليه مدارس تلك الايام من اهتمام بتنمية المواهب، وتقدير الكفايات، والسعي لبنائها على أسس سليمة ثابتة، فترى (معلم الفنية) يبحث عن مواهب طلبته وقدراتهم، فمن يجيد الرسم هيئ له ما يعينه، وأرشده إلى ما ينفعه، ومن يجد فيه الصوت الحسن والقدرة على الانشاد ينمي فيه هذه الموهبة ويمنحه من وقته ما يجعل طريقه مفروشاً بالورود، ومن يشعر بقدرته على تقمص المواقف وميله لتقليد الآخرين يفجر طاقاته بالمران والممارسة، لذلك ترى مدارس تلك الايام حافلة بالكفايات في مختلف الجوانب الفنية والأدبية والعلمية، تتبلور ونمو بفعل التهذيب والمتابعة والاهتمام بتلك الاتجاهات.
ويتناول في مكان آخر الظروف المعاشية الصعبة التي تعاني منها بعض العوائل الحلية، ويشير بإيماءات موحية تجعل القارئ يتوسع في ماهيتها وآثارها، وما يترتب على توزيع الوقت بين متطلبات الحياة وما تهفو إليه النفوس من توجهات في جوانب الحياة الأخرى التي ترضي نفوسهم وتدغدغ مشاعرهم، وهو ما يعكس الوضع الاجتماعي الذي كان عليه الناس تلك الايام.
واهتمامه بالمسرح واكبه منذ نشأته الأولى ، وشارك وهو طالب في النشاط المسرحي ممثلاً، وانخب مع اساتذته عضوا في فرقة مسرح بابل للتمثيل وهو في المرحلة الاعدادية، ويسهم مع فنانين كبار في نشاطات مسرحية متنوعة، حصدت احداها المرتبة الأولى في المسابقات السنوية، ويمر بتجارب مسرحية تثبت ان الجيل الماضي بإمكاناته المتواضعة افضل مما نعيشه الآن، حيث أحيوا مسرحية في المقهى، وأخرى في سجن الحلة المركزي، وهي تجارب حديثة لم يلتفت اليها في السابق، وغابت في اللاحق رغم أهميتها وجدواها في نشر الذوق الفني والمسرحي، لما للمسرح من أهمية في بناء الثقافة للمواطن، واستنهاض الوعي الجماهيري وبناء الذائقة الفنية.
وأثر اهتمامه المسرحي على مستواه الدراسي ، وأدى إلى رسوبه في ثلاثة مراحل، وعدم الاهتمام بالتفوق المدرسي، وهو ما أدى إلى حرمانه من الدخول لأكاديمية الفنون الجميلة ، التي كان للظروف أثر فيها بعد قرار وزارة التعليم العالي برفع معدلات تلك السنة إلى 60% وهو ما لم يحصل عليه، لأن القبول فيها سابقا لا يخضع إلى المعدل ولكن هكذا شاءت الظروف وقدرت الأقدار.
ولكن ذلك لم يثبط من عزمه، أو يوهن من عظمه، فقدم للقبول في معهد المعلمين في الحلة، وبعد أجراء المقابلة كان النجاح حليفه، وفي المعهد برز شاطه الفني والرياضي وأسهم مع زملاء له في النشاطات الفنية والرياضية التي اقامها المعهد ، يضاف لذلك مشاركاته في النشاطات الفنية لمركز الشياب وقابة الفنانين ، وبذلك أصبح له رصيده الفني وأسمه المعروف بين الفنانين
وبعد تخرجه عين معلما في المدارس الابتدائية ولسابقته الرياضية فقد اصبح معلما للرياضة في مدرسته وخاض فريق المدرسة سباقات رياضية كان له نصيب في الجوائز بين الفرق الفائزة. وأكمل دراسته فحصل على البكالوريوس من كلية الفنون الجميلة- الدراسة المسائية وتخرج فيها عام 1999م استمر عمله الفني في الفرق الفنية في الحلة واسهم في كثير من المسرحيات التي كانت تقدم في الحلة او غيرها من المحافظات وتوسعت أفاقه الفنية والمعرفية، وكان له بصمته في الاعمال المسرحية التي شارك بها، واصبح عضوا في نقابة الفنانين ورئيسا لها وتراس نقابة المسرحيين في بابل ومديرا للنشاط المدرسي في المحافظة حتى تقاعده واسس فرقة مسرح المسلة للتمثيل وراس تحرير عددا من المجلات الفنية واسهم في كافة المهرجانات الفنية في الحلة وخارجها ، وألف وأعد خلال مسيرته الفنية (34) نصاً مسرحياً، والف خمسة أوبريتات ومسلسلاً فنيا مع الفنان الراحل حامد الهيتي، وكتب عددا من التمثيليات الاذاعية، ومثل أكثر من (80) عملاً في المسرح والسينما والتلفزيون والاذاعة، وأشرف على انتاج أكثر من (700) عرضا مسرحياً مدرسيا في تربية بابل، وأصدر ثلاثة مجاميع مسرحية، وأسهم في كثير من المهرجانات في أغلب المحافظات، وشارك في مسرحيات خارج العراق، وحصل على كثير من الاوسمة والشهادات التقديرية ، وقدم محاضرات عديدة في كثير من المحافل الأدبية والفنية
ورغم عدم تمرسي بالفن والمامي بقواعده العامة، ومساربه الكثيرة ، إلا أني يمكن لي الادلاء برأي انطباعي عن مسيرته الفنية التي بدأها طالباً، وواصلها استاذاً، فقد أسهم السيد العميدي إلى جانب اخوانه في النشاط الفني والمدرسي، بقابليات كبيرة بوأته مكانا مميزاً بين الفنانين، وأسهم في النشاطات الفنية الكثيرة بحكم عمله الوظيفي في النشاط المدرسي ، واستطاع السير بالمسرح المدرسي في دروب ما كان الوصول إليها سهلاً، لولا المتابعة الجادة، والاصرار المحتدم، على أ يأخذ هذا النشاط دوره المؤثر في المسيرة الفنية ، فكانت العروض الكثيرة، والمشاركة المؤثرة في مسابقات النشاط المدرسي ، والاصرار على الوصول لمستويات عليا، فهو دليل على التفوق الذي حازت عليه محافظة بابل في هذا الجانب، إذ تمكن من الوصول إلى مراكز متقدمة في هذه الفعاليات، وحصدت جوائز كثيرة ما كان الحصول عليها سهلاً لولا الجد والمثابرة والادارة الحاذقة ، والروح الرفاقية الفنية التي عليها مختلف العاملين في هذا الجانب، يتجلى ذلك في نكران الذات، والتعاون البعيد عن الأنوية، والسعي لجل النجاح والبروز والارتقاء بالفن المسرحي إلى المستويات التي يطمحون بالحصول عليها، ناهيك عن روح الألفة والمحبة التي زرعها بين العاملين لوضوح الهدف، وسمو النوايا، ووحدة الغايات، وذلك هو الطريق الاسلم للوصول إلى النجاح.
هذا الجانب المهم في حياة السيد العميدي لم يبرزه تواضعاً ولكن القارئ والمتابع يستطيع تلمس هذه الجهود ، والهمة التي كانت وراء الوصول لهذه الأهداف، بطرق كان للروح الفني أثره نموها وازدهارها والارتقاء بها إلى هذه المستويات التي وصلت غليها وانمازت بها.
أخيرا أبارك له منجزه هذا الذي قدم فيه خلاصة لحياته الفنية وبين من خلاله النشاطات الفنية التي زخرت بها محافظة بابل ، مشيراً إلى الرواد الأوائل للفنون الجميلة من مسرح وتمثيل ورسم وخط ورياضة، مركزا على أدوار الفنانين الذين شاركهم وشاركوه في مسيرته الفنية التي نتمنى لها أن تطول.