السيمر / السبت 27 . 08 . 2016
د . عقيل الناصري
نشر الكثير عن دور وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي. آي. أي) في التخطيط لانقلاب 8 شباط 1963 الفاشي في العراق، والدعم الذي قدمته لحزب البعث وأقطابه آنذاك، لتمكينهم من الوثوب الى السلطة وتحقيق أحد الاهداف الرئيسية للانقلاب: القضاء على الحزب الشيوعي و التصفية الجسدية للآلاف من قادته وكوادره ومؤيديه. ولكن دور بريطانيا في التخطيط للتخلص من نظام عبد الكريم قاسم ودعم انقلابيي 8 شباط وحكومتهم لم ينل اهتماماً كافياً من قبل الباحثين وبقي مبهماً بالمقارنة مع الدور الامريكي.
ومن اجل تسليط الضوء على هذا الدور، نستعرض بايجاز ما جاء بهذا الشأن في كتاب للباحث البريطاني مارك كرتس تناول انتهاكات خفية لحقوق الانسان مارستها بريطانيا في بلدان مختلفة حول العالم.
مقدمة:
تمت الاطاحة بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا في ثورة 14 تموز 1958 واقيمت جمهورية برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم. وتعرضت السفارة البريطانية في بغداد، التي كانت تعرف بأنها القوة الفعلية وراء العرش، الى النهب وقتل أحد البريطانيين. ووصف مسؤولون في السفارة الثورة في تقاريرهم الى لندن بأنها “ثورة شعبية” تقوم على “مشاعر مكبوتة من الكره والاحباط، تتغذى على تطلعات قومية لم تلبّ، وعداء لحكومة اوتوقراطية، وسخط من الهيمنة الغربية، واشمئزاز من فقر متفشي”.
وكان النظام الملكي الذي دعمته بريطانيا من بين الانظمة الأدنى شعبية في الشرق الاوسط، وكان البريطانيون يدركون جيداً سماته القمعية. فقد أشار تقرير لوزارة الخارجية البريطانية، على سبيل المثال، الى ان “الثروة والسلطة بقيتا متركزتين في أيدي حفنة من ملاك الارض وشيوخ العشائر الاغنياء الذين كانوا يحيطون بالبلاط”.
وقبل ثلاثة أشهر من ثورة 14 تموز 1958، كتب السير مايكل رايت، السفير البريطاني في بغداد، الى وزير الخارجية سلوين لويد قائلا ان: “… الوضع الدستوري في العراق يشبه الى حد بعيد ما كانت عليه المملكة المتحدة عند صعود جورج الثالث الى العرش…”. فالسلطة السياسية تتمركز في البلاط، ويمكن للملك أن يعين ويعزل رؤساء الوزراء كما يشاء، بينما “… لا يمكن للمعارضة ان تنظم اجتماعات عامة او تعبر عن معارضتها للنظام في الصحافة”. كما لفت رايت الى ان “… كفاءة جهاز الأمن العراقي تزايدت مادياً في السنة الاخيرة، ويعود الفضل في ذلك الى حد كبير الى المساعدة البريطانية بالتدريب والمعدات…”. ووصف الوضع القائم آنذاك بأنه “… قمع سياسي كامل…”.
ثم عبر السفير البريطاني عن معارضته للديمقراطية بقوله ان: “… إرخاءً كاملاً للقيود الحالية على حرية التعبير بالاقتران مع انتخابات حرة كلياً…” من شأنه ان “… ينتج فوضى وربما ثورة …”. وأوصى فقط بالسماح بتشكيل احزاب سياسية.
وبضربة واحدة، أطاحت ثورة 14 تموز الوطنية والشعبية بنظام موالٍ لبريطانيا كان يمثل دعامة رئيسية لسياستها في الشرق الاوسط. الأسوأ من ذلك، ان مخططي السياسة البريطانية أقروا بأن عبد الكريم قاسم كان يحظى “بشعبية كبيرة جداً”. ورغم ان بريطانيا تعاملت مع قاسم بتسامح في الفترة الأولى من عهد النظام الجديد، الاّ انه سرعان ما انضم الى صنف القادة من امثال سوكارنو في اندونيسيا، وتشيدي جاغان في غويانا البريطانية، وجمال عبد الناصر في مصر، الذين اعتبروا أعداء لمصالح بريطانيا في العالم الثالث.
النفط
لم تكن بريطانيا مهتمة بالطابع الاستبدادي لحكم قاسم وقمع اجهزته الامنية، وهذه العوامل لم تحدد موقفها منه. فالتهديدات التي كان يشكلها قاسم لخصها بوضوح احد الاعضاء البريطانيين في “شركة نفط العراق”، التي كانت تسيطر على النفط العراقي، في تقرير الى وزارة الخارجية البريطانية قبل بضعة أشهر فحسب من الاطاحة بالنظام في 8 شباط 1963. وجاء في التقرير ان عبد الكريم قاسم “… يرغب في اعطاء العراق ما يعتبره استقلالاً سياسياً وكرامة ووحدة، وتعاوناً أخوياً مع بقية العرب، وحياداً بين الكتل المتنفذة في العالم. وهو يرغب في زيادة وتوزيع الثروة الوطنية، انطلاقاً من مبدأ وطني واشتراكي من جهة، وانطلاقاً من مجرد تعاطف مع الفقراء، من جهة اخرى . كما يريد، بالاستناد الى الرفاه الاقتصادي والعدالة، ان يبني مجتمعاً جديداً وديمقراطية جديدة. وهو يريد ان يستخدم هذا العراق القوي، الديمقراطي، العروبي كأداة لتحرير بقية العرب و الاسيويين –الافريقيين والارتقاء بأوضاعهم والمساعدة بتدمير “الامبريالية”، وهو ما يعني به بشكل أساسي النفوذ البريطاني في البلدان النامية…”.
كانت سياسة عبد الكريم قاسم بشأن النفط موضوع كم كبير من المراسلات في ملفات الخارجية البريطانية التي رفعت عنها السرية وسبباً رئيسياً وراء رغبة مخططي السياسة البريطانية في التخلص منه. وتكمن خلفية الأمر في ان قاسم أعلن في 1961 ان حكومته تريد الحصول على اكثر من 50 في المئة من الارباح المتأتية من صادرات النفط، وشكى ايضاً أن الشركات كانت تثبّت سعراً يخدم مصالحها بالذات. وفي قانون صدر في كانون الأول/ديسمبر 1961، سعى الى حرمان “شركة نفط العراق” (آي بي سي) من حوالي 99,5 في المئة من امتيازها. وشملت الاراضي التي تم انتزاعها حقولاً نفطية ثمينة ذات احتياطي مثبت. كما نشرت في تشرين الأول/اكتوبر 1962 مسودة قانون لانشاء “شركة نفط وطنية عراقية” جديدة، لكن القانون لم يكن قد اصبح نافذاً عندما وقع الانقلاب الذي أطاح بقاسم في 8 شباط 1963.
الكويت
ومن القضايا الاخرى التي كانت مصدر قلق كبير لبريطانيا، مطالبة العراق بضم الكويت. وفي 1961، ارسلت بريطانيا قوات الى الكويت لحمايتها، كما يفترض، من هجوم عراقي وشيك. لكن الملفات التي رفعت عنها السرية، تكشف ان بريطانيا لفقت التهديد العراقي كي تبرر تدخلاً بريطانياً من اجل تأمين اعتماد زعماء الكويت، الدولة الغنية بالنفط، على “الحماية” البريطانية.
الدور الامريكي
سقط نظام عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963 وجرى إعدامه في انقلاب قاده عبد السلام عارف واصبح احمد حسن البكر، من حزب البعث، رئيساً للوزراء. وبذلك وصل البعث الى السلطة للمرة الأولى. وكان الانقلاب حصيلة دعم وتنظيم كبير من قبل وكالة الاستخبارت المركزية الامريكية (سي آي أي)، وكان العقل المخطط له هو ويليام ليكلاند، الذي كان بمنصب ملحق في السفارة الامريكية في بغداد. وكانت الولايات المتحدة تآمرت بنشاط في وقت سابق لقتل عبد الكريم قاسم، وبعثت لجنة متخصصة في الـ”سي أي أي” ذات مرة بمنديل مطرز، مسموم، الى قاسم، لكن اما ان المحاولة فشلت او ان المنديل لم يصل الى الهدف المقصود.
وحسب الكاتب سعيد ابو ريش، فان الولايات المتحدة كانت أصرت قبل الانقلاب على تنفيذ خطة تفصيلية لإزالة الحزب الشيوعي العراقي كقوة في الحياة السياسية بالعراق، ما يعني التصفية الجسدية لأعضائه. ولذا زودت وكالة “سي آي أي” قادة انقلاب شباط بلائحة اسماء لهذه الحملة، وجرى ملاحقة حوالي 5 آلاف منهم وقتلهم.( يعترف بها هاني الفكيكي ويقول ان عددهم 70 شخصاً، أوكار الهزيمية وشخصية أخرى تقول 700-800- الناصري) وكان بين الضحايا قادة عسكريون كبار بالاضافة الى محامين واساتذة جامعات ومعلمين واطباء. وكان من ضمنهم نساء حوامل ورجال مسنون، وتعرض كثيرون منهم الى التعذيب امام اولادهم. وجرت عمليات التصفيات الجسدية عبر استهداف الافراد، وباستخدام فرق مطاردة تداهم بيوتهم وتعرف هويات الضحايا المستهدفين وتنفذ احكام اعدام فورية.
وقام روبرت كومر، العضو في مجلس الأمن القومي، بابلاغ الرئيس الامريكي جون كنيدي، فور وقوع الانقلاب في 8 شباط، بأن “الانقلاب مكسب لجانبنا”.
كان صدام حسين حينها مساهماً عن قرب بالانقلاب. فقد استفاد كلاجىء عراقي في القاهرة، هو وآخرون من مخططي الانقلاب، منذ 1961 من اتصالات مع وكالة “سي آي أي” رتبها القسم العراقي في الاستخبارات المصرية. وخلال الانقلاب، أسرع صدام بالعودة من القاهرة وساهم شخصياً بتعذيب اليساريين خلال المجازر.
الدور البريطاني
كانت بريطانيا ايضاً ترغب منذ وقت بعيد بسقوط عبد الكريم قاسم، وتؤكد الملفات السرية البريطانية ذلك في الأشهر التي سبقت الاطاحة به. هل تورطت بريطانيا بدور مباشر اكثر في الانقلاب؟ تتضمن الملفات التي رفعت عنها السرية اشارات الى استعداد بريطاني للمشاركة في إطاحة قاسم، ولم ترفع السرية بعد عن العديد من الملفات التي تعود الى تلك الفترة. ويبدو بالفعل ان بريطانيا ربما كان لديها علم مسبق بالانقلاب، لكن لا توجد أدلة مباشرة على أن بريطانيا كانت على صلة بمخططي الانقلاب، بخلاف الحال بالنسبة الى الولايات المتحدة.
ولكن توجد بعض الاشارات الملفتة للانتباه. قبل خمسة أشهر من الاتقلاب، تشير ملاحظة لمسؤول في وزارة الخارجية البريطانية الى وجهة نظر السفير البريطاني في بغداد بأنه “كلما كان سقوط قاسم في وقت أقرب كلما كان ذلك أفضل، وانه ينبغي الاً نكون انتقائيين اكثر مما يجب للمساعدة باتجاه هذه الغاية”. كما نقل عن السفير، السير روجر ألن، تأييده لـ”سياسة مبادرة ضد قاسم”. واشارت احدى المذكرات من السفير قبل خمسة اسابيع من الانقلاب الى مؤامرة انقلابية ضد قاسم وانه “تلقينا تأكيداً بأن الخطة جرى الاعداد لها بتفصيل وان اسماء كل اولئك الذين سيحتلون مناصب رئيسية قد تم اختيارها”. لكن هذه المذكرة لا تلمح الى ان عبد السلام عارف، الذي تولى في النهاية قيادة الانقلاب، سيكون زعيمه. كما يلفت السفير الى أهمية أن “لا يبدو (موظفوه في السفارة ببغداد) على علم او على صلة بالتخطيط للانقلاب، وقد أكدت مؤخراً مرة اخرى على الموظفين، بما فيهم الملحق الجوي الجديد، انه يجب ان نتصرف دائماً بأقصى درجة من الحذر”.
وقبل أحد عشر يوماً من الانقلاب، تم ابلاغ السفير البريطاني من قبل القائم بالاعمال الامريكي في بغداد بأنه “حان الوقت للشروع ببناء رصيد ثقة لدى خصوم قاسم، بانتظار اليوم الذي يحدث فيه تغيير بالحكم هنا”. واستنتج السفير أنه “للمرة الأولى منذ وجودي هنا، لدي إحساس بأن النهاية يمكن أن تأتي في المستقبل المنظور”. وقد يبدو ذلك أشبه بإشعار على الأقل، من جانب الولايات المتحدة التي كانت سفارتها تتواطأ بشكل وثيق مع المتآمرين. وبالفعل، بعد يوم واحد على الانقلاب، في 9 شباط 1963، بعث السفير روجر ألن برقية الى وزارة الخارجية البريطانية مفادها أن وزير الدفاع الجديد “كان من المتوقع ان يصبح قائد سلاح الجو في حال وقوع انقلاب” – وهو ما يشير الى نوع من المعرفة المسبقة.
نداءات لإبادة الشيوعيين
لكن ما لا يمكن ان يكون موضع شك هو ان المسؤولين البريطانيين في بغداد ولندن كانوا على علم بالمجازر ورحبوا بارتكابها من قبل النظام الجديد. وتبين ملفات الخارجية البريطانية ان السفير روجر ألن وموظفاً آخر في السفارة كانا يتابعان تقارير الاذاعة العراقية في اليومين الأولين من الانقلاب : 8 و9 شباط. فقد ذكرا ان نداءات النظام الجديد كانت تدعو الناس الى “المساعدة على إبادة جميع اولئك الذين ينتمون الى الشيوعيين والقضاء عليهم نهائياً”، وحثتهم: “اقضوا على المجرمين” و”اقتلوهم كلهم، اقتلوا كل المجرمين”. وجرى إعادة بث تلك النداءات مرات عديدة. وابلغ السفير وزارة الخارجية في 11 شباط ان “الاذاعة تحرض الناس على ملاحقة الشيوعيين. ويبدو ان القتال الذي دار كان موجهاً، جزئياً بأي حال، ضد المتعاطفين مع الشيوعيين”. وارسل نص كل هذه النداءات الى وزارة الخارجية البريطانية في 15 شباط.
وقال الملحق العسكري البريطاني في السفارة ببغداد في رسالة بتاريخ 19 شباط انه في يوم 9 شباط كان هناك “اطلاق نار في كافة ارجاء المدينة” و”اعتقالات للشيوعيين”. واضاف انه “بما ان السفارة تقع في منطقة تعد معقلاُ للشيوعيين، فانه سمع اطلاق نار كثير من اسلحة صغيرة معظم الوقت خلال اليوم”. وفي 10 شباط، كانت السفارة تبلغ وزارة الخارجية عن “اعتقالات للشيوعيين” و”اطلاق نار متفرق في اجزاء مختلفة من المدينة”. وفي اليوم نفسه، لاحظت وزارة الخارجية البريطانية ان “اجراءات قوية تتخذ ضد الشيوعيين”.
وفي 11 شباط، كانت السفارة تفيد بوقوع “بعض اطلاق النار” في ضواحي بالاطراف حيث يعتقد بوجود شيوعيين، مع “روايات عن اصابات كبيرة، من المفترض انها بين المدنيين، لكن ذلك غير مؤكد”. وبحلول 26 شباط، كانت السفارة تقول ان الحكومة الجديدة تحاول “ان تسحق الشيوعية المنظمة في العراق” وانه كانت هناك اشاعات بأن “كل كبار الشيوعيين ألقي القبض عليهم وانه جرى إعدام خمسين منهم بهدوء”، رغم انها اضافت بأنه “قد لا يكون هذا الخبر صحيحاً”.
وفي الشهر التالي، آذار، أشارت رسالة من “شركة نفط العراق” الى وزارة الخارجية البريطانية الى “ملاحقة للشيوعيين” وانه “يتعين الانتظار لنرى الى أي مدى سيتم تدميرهم”. وفي تقرير بعد مرور 6 أسابيع على الانقلاب، يشير مسؤول في وزارة الخارجية الى “حمام دم” وانه “ينبغي الاّ نظهر في العلن وكأننا ندعو الى مثل هذه الاساليب في قمع الشيوعيين”. واضاف ان “مثل هذه القسوة ربما كانت ضرورية كوسيلة على المدى القصير”.
وقال السفير روجر ألن في مذكرة الى وزير الخارجية البريطاني، اليك دوغلاس هيوم، في آيار/مايو 1963، انه “جرى التعامل مع الخطر الشيوعي بحزم”. واضاف ان الحكومة العراقية ذكرت ان هناك حالياً 14 ألف سجين سياسي وان “السجون لا تزال مكتظة بالمعتقلين السياسيين”. وبحلول حزيران 196، ذكر بيرسي كرادوك، المسؤول في وزارة الخارجية الذي اصبح لاحقاً رئيس “لجنة الاستخبارات المشتركة”، ان “النظام العراقي يواصل قمعه الشديد للشيوعيين”، مع الاعلان مؤخراً عن تنفيذ 39 حكماً بالاعدام.
وكانت وزارة الخارجية البريطانية تدرك ان المجزرة التي نفذت ضد الشيوعيين كانت عملية ذات طابع هجومي بالكامل. فقد لاحظت في 9 شباط 1963، على سبيل المثال، ان اعمال القتل كانت تجري “في الوقت الذي لم يكن هناك أي مؤشر الى خطر شيوعي او أي معارضة ذات تأثير للحكومة الجديدة”.
دعم حكومة الانقلاب
وفي الواقع أيد مسؤولون بريطانيون هذه المجازر. فقد ابلغ السفير روجر ألن وزارة الخارجية في لندن بعد اسبوع من الانقلاب ان “عملية مطاردة الشيوعيين في بغداد والبلدات تتواصل”، لكن “ستبقى هناك مشكلة شيوعية”. واضاف ان “الحكومة الحالية تفعل ما باستطاعتها، ولذا فانني اعتقد انه ينبغي ان ندعمها ونساعدها على المدى البعيد في ترسيخ نفسها كي يتلاشى تدريجياً هذا الخطر الشيوعي”.
وتابع السفير ان الحكومة الجديدة في بغداد، “على الأرجح تناسب مصالحنا بصورة جيدة”. وفي رسالة اخرى بعث بها في اليوم نفسه، قال انه بما ان “المعارضة الشيوعية يحتمل ان تستمر”، وانه حسب رأيه لا يوجد بديل للحكومة الجديدة، “لذا من الضروري لها ان تعزز مواقعها بسرعة”. وانها “ستحتاج الى كل الدعم والمال الذي يمكن ان تحصل عليه”.
وكانت وزارة الخارجية البريطانية وزعت آنذاك قبل ذلك مذكرة الى سفاراتها توضح فيها الموقف البريطاني من الانقلاب. وأشارت فيها الى ان النظام الجديد “اتخذ بالفعل اجراءات نشيطة ضد الشيوعيين المحلين” وان “قمع الشيوعيين المحليين” سيستمر على الارجح، بينما ستتمثل احدى المشاكل الرئيسية الاخرى للنظام في “تهدئة الاكراد”. واضافت المذكرة “نتمنى الخير للنظام الجديد”، بعدما اشارت الى تدهور علاقات بريطانيا مع نظام قاسم.
كما لاحظ تقرير داخلي لوزارة الخارجية ان الحكام الجدد في بغداد “اظهروا شجاعة وثباتاً في التخطيط لانقلابهم وتنفيذه”، وانه ينبغي ان يكونوا “بعض الشىء اكثر وداً تجاه الغرب”.
وعندما التقى السفير البريطاني وزير الخارجية في النظام الجديد (طالب شبيب) بعد يومين من الانقلاب، لم يرد في تقريره عن اللقاء أي ذكر لكونه أثار موضوع اعمال القتل، بينما وصف اللقاء بأنه كان “ودياً للغاية”. وبالفعل، لم ترد أية إشارة في أي من الملفات التي اطلع عليها الكاتب حول أي تعبير عن القلق بشأن اعمال القتل، بل ان التأثير الوحيد الذي مارسته على السياسة البريطانية هو التشجيع على دعم اولئك الذي كانوا ينفذون اعمال القتل.
هكذا، أشار مسؤولون في وزارة الخارجية البريطانية الى انهم ينبغي ان “يتفحصوا كل الوسائل الممكنة للانتفاع من المناخ الحالي المعادي للشيوعية في العراق”، وبذل “جهد كبير لإقامة صلات مع النظام الجديد”. واقترحت الوزارة وسائل متنوعة “للقيام بايماءات” تجاه النظام الجديد، بما فيها “إبداء المساعدة بشأن تجهيز الاسلحة” و”توفير كورسات تدريب عسكري اذا كان العراقيون يريدون الحصول عليها”. وكُتبت هذه المذكرة في اليوم نفسه الذي بعث فيه السفير البريطاني روجر ألن الى وزارة الخارجية نص ما بثته الاذاعة العراقية التي تحث على “قتل المجرمين”، كما جرت الاشارة أعلاه.
كما قدمت السفارة في بغداد توصيات مماثلة “لتقديم ايماءات ودية من نوع ما” الى “اولئك الذين عانوا في مجرى عملية تفكيك الشيوعية في العراق”. والمقصود بهؤلاء هم اولئك الذين عانوا على أيدي الشيوعيين، وليس ضحايا المجازر. واوضحت السفارة ان ذلك سيتم “تقديراً للجهد المعادي للشيوعية المبذول هنا”.
الحرس القومي
كانت سياسة لندن تتمثل بتقديم الاعتراف الديبلوماسي للنظام الجديد على الفور واقامة “علاقة عمل” معه. كما انها “ستجري اتصالاً ودياً بأسرع ما يمكن مع القادة البعثيين والقوميين”، ودعوة اعضاء في “الحرس القومي” (وهي المنظمة التي ساعدت على تنفيذ المجازر) الى لندن. ولكن المسؤولين في وزارة الخارجية البريطانية لاحظوا انه ينبغي القيام بذلك “تحت عنوان آخر ما” من اجل ابقائه طي الكتمان، كي يتم تجنب الظهور علناً بمظهر المؤيد لأي مجموعة معينة.
وجرى التماثل في هذه السياسة مع الولايات المتحدة، حيث ابلغ مسؤول كبير في وزارة الخارجية الامريكية وزارة الخارجية البريطانية انه “اذا أدى (الانقلاب) الى نظام بسمات بعثية، فان سياساته ستكون على الارجح مقبولة اكثر بالنسبة الى حكومة الولايات المتحدة”.
وكان من المؤمل ان تكون احدى منافع النظام الجديد اعطاء “فرصة لمرحلة جديدة في علاقات شركات النفط مع الحكومة” واستبدال السياسات النفطية السابقة لنظام قاسم التي كانت تهدد شركات النفط الغربية المهيمنة على “شركة نفط العراق”.
وبعد اسبوع على الانقلاب، كان السفير البريطاني روجر ألن يبعث تقريراً مفاده ان الامور “عادت تقريباً الى وضع طبيعي”، معبراً عن أمله في ان تكون “فترة الشعور بالاحباط” في ظل عبد الكريم قاسم قد انتهت، وأن “يكون هناك أفق لعمل بنّاء نسبياً هنا”. ومع ذلك فانه يدرك تماماً ان “مشكلة الشيوعيين وسكان الاحياء الفقيرة لم تنته بعد”، ولذا فان قمع الشيوعيين من قبل نظام الانقلابيين سيستمر على الأرجح، كما جرت الاشارة أعلاه. وبحلول نيسان 1963، كان بامكان السفير ان يتحدث في احدى رسائله عن “سجل صداقتنا مع النظام الجديد”.
قلق من حملة تضامن
كما اشارت وزارة الخارجية البريطانية، حسب ملفاتها، الى الحاجة الى “مواصلة تتبع” نشاط منظمة جديدة انشأها نواب برلمان من حزب العمال تسمى “اللجنة البريطانية للدفاع عن حقوق الانسان في العراق”، وكانت تنوي القيام بزيارة الى العراق والتحقيق في اعمال القتل. كما “حذرت” السفارة في بغداد وزارة الخارجية من انشطة مماثلة تتعلق بحقوق الانسان يقوم بها اللورد برتراند راسل، وصفت بأنها “مصدر إزعاج” في العلاقات الأنكلو-عراقية.
الكويت مرة أخرى
ومن المنافع الاخرى لبريطانيا موقف النظام الجديد تجاه الكويت. فبعد الاطاحة بعبد الكريم قاسم، نصح البريطانيون الكويت باستباق أي تهديد عراقي مستقبلي لاستقلالها من قبل النظام الجديد بالقيام برشوته. ودفع الكويتيون الى الحكومة البعثية الجديدة 50 مليون جنيه استرليني.
وفي تشرين الثاني 1963 اُطيح بالنظام البعثي في انقلاب عسكري آخر. ولم يعد البعث الى السلطة الاّ في 1968، بعد تعاقب حكومات عدة. وحظي انقلاب 1968 ايضاً بدعم وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي أي) التي أقامت على الفور علاقات وثيقة مع الحكام البعثيين، حيث اصبح احمد حسن البكر رئيساً فيما تولى صدام حسين منصب نائب الرئيس.
وبعد انقلاب 1968
ورحبت بريطانيا ايضاً بنظام حزب البعث بعد انقلاب تموز 1968. وكتب السفير البريطاني في بغداد قائلاً: “قد يتطلع النظام الجديد الى المملكة المتحدة للحصول على تدريب عسكري ومعدات، وينبغي الاّ نضيّع أي وقت بتعيين ملحق عسكري”. وتلقى وزير الدفاع الجديد حردان التكريتي دعوة لزيارة معرض فارنبره الجوي، وأبلغه السفير البريطاني انه “يبدو لي ان لدينا الآن فرصة لاعادة العلاقات الانكلو-عراقية الى شىء من حميميتها السابقة”. وفي معرض رده، “قال الجنرال التكريتي انه خلال النظام البعثي في 1963، كان يقدّر كثيراً الموقف المتعاون لحكومة صاحبة الجلالة”.
الملحق التاسع عشر
سقوط قاسم جرى التخطيط له في الحكومة البريطانية لكن الامريكان وناصر انتزعوا السيطرة ..
ترجمة تقرير نشرته صحيفة (جويش اوبزرفر) بتاريخ 8 آذار 1963،
عن انقلاب 8 شباط 1963 والدور البريطاني في التخطيط للانقلاب الأسود .
من مراسل صحيفة جويش اوبزرفر الخاص في بغداد
ترجمة : سلم علي
التواطؤ
التقرير الذي أعده مراسل الصحيفة في بغداد
من المستحيل تماماً فهم ما يجري هنا – وخصوصاً فهم العلاقات الخارجية للنظام – من دون أن يدرك المرء كلياُ لماذا وكيف جرى الاطاحة بقاسم. انها قصة مثيرة، حتى بمقاييس أكثر حكايات ألف ليلة وليلة إثارة للخيال. الخطوات الأولى اتخذت من قبل رجالات النفط في اوائل الخريف الماضي. آنذاك، كنت اعتقد انهم يخططون لـ “ترتيب” جديد مع [عبد الكريم] قاسم، فقد كان واضحاً ان شيئاً ما يدور وان لندن ضالعة فيه الى حد كبير.
كان الاتصال الأول مع الجنرال [غازي] الداغستاني، رئيس اركان الجيش في نظام نوري [السعيد]، الذي حُكم عليه من قبل قاسم بالسجن لفترة طويلة. في اواخر الصيف الماضي جاء الى لندن – كما بدا آنذاك – كمبعوث سري لقاسم، رغم انه لم يبذل جهداً لاخفاء وجوده هناك.
مستشفى “لندن كلينيك” كمقر
جاء بعده الحاكم العسكري للعراق، الجنرال [احمد صالح] العبدي، الساعد الأيمن لقاسم في الجيش، والدعامة التي استند عليها نظام قاسم والمعروف بنزعته المحافظة بالمقارنة مع (وكعامل توازن تجاه) مؤيديه الشيوعيين. مكث العبدي ثلاثة أشهر وجعل من مستشفى “لندن كلينيك” مقراً مناسباً له.
كانت هذه هي البداية. كان البريطانيون، وشركة نفط العراق (IPC)، مقتنعين بأن عليهم التوصل الى سبل للتخلص من قاسم. وقام العبدي بانشاء الصلة بين لندن والمجموعة البعثية في الجيش العراقي التي يتزعمها صالح مهدي عماش (وزير الدفاع حالياً) وعلي صالح السعدي (حالياً نائب رئيس الوزراء). لكن لم يكن هناك أي ذكر للزعيم عبد السلام عارف.
الجنرال أحمد صالح العبدي يقضي ثلاثة أشهر في لندن
عاد العبدي الى بغداد، والآن انتقل التهديد الى يد الرئيس الإسمي للجمهوري العراقية، نجيب الربيعي، رئيس مجلس السيادة. كان الربيعي على خلاف مع قاسم لفترة من الوقت. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قطع علاقته مع قاسم وغادر البلاد.
موعد في جنيف
توجه الربيعي مباشرةً الى جنيف، التي تم اختيارها للقاء مع البريطانيين و “آي بي سي” [شركة نفط العراق]. كان الفريق البريطاني المعني بهذه المحادثات الأولية يتألف من مسؤولين على مستوى رفيع. وقد لا يكون هناك ثلاثي أكثر مقدرة منهم في وزارة الخارجية البريطانية في الوقت الحاضر.
كان الفريق يتألف من روجر ألن، السفير في بغداد، والسير همفري تريفيليان، وهو سفير سابق في القاهرة وبغداد، والسير برنارد باروز، وهو على الأرجح أقدر خبراء الشرق الاوسط في الوزارة. كما أوفدت “آي بي سي” [شركة نفط العراق] بعضاً من افضل مسؤوليها.
ومع وصول الربيعي الى جنيف، اصبحت الأمور فجأة أكثر جدية بكثير. فقد اصبح واضحاً الآن بأنه لم يتبق الكثير من الوقت للتحرك اذا كان سيتم إحباط اجراءات قاسم ضد الشركة النفطية وضد الغرب.
هنا دخلت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية على الخط
يبدو انه كان هناك تشاوراً على مستوى عالٍ في لندن، كما قيل لي، وصل الى مستوى رئيس الوزراء. ونتيجة لذلك تقرر ان النتائج المترتبة على تحرك اضافي قد تكون لها آثار بعيدة المدى يكون معها من المستحسن (أخذا بالاعتبار قضية كوبا) إدخال الامريكيين في الترتيبات. وقد تم ذلك، وكما كان متوقعاُ فقد تولى جون ماكون ووكالة الاستخبارات المركزية المسؤولية عن المهمة. واصبح واضحاً بعد ذلك بوقت قصير انهم لن يتحركوا الاّ بعد الحصول على ترخيص من الرئيس الامريكي او مستشاريه المقربين.
كان أول شىء فعله الامريكيون هو نقل المحادثات مع الرئيس [نجيب] الربيعي من جنيف الى ميونيخ. والشىء التالي الذي فعلوه هو اقناع البريطانيين أنه، للتوثق من تحقيق النجاح، سيتعين عليهم اقامة علاقة ثقة بهذا الشأن مع الرئيس جمال عبد الناصر شخصياً. وأبلغوا البريطانيين – وكذلك العراقيين الذين كانوا يشعرون في الواقع بالقلق – أن بإمكانهم التحدث مع عبد الناصر حتى من دون أن يدرك ذلك أقرب مساعديه.
“الاتفاق” البريطاني مع الربيعي
لم يكن البريطانيون سعيدين بإقحام عبد الناصر في التواطؤ، حتى وإن كان ذلك على أساس شخصي حصراً. فلم يكونوا يريديون ان يعتقد عبد الناصر انهم يقدمون له العراق ونفط الشرق الأوسط كهدية. ولهذا السبب أقنعوا الربيعي بالمجىء الى لندن لاجراء مزيد من المحادثات. كان ذلك في كانون الثاني (يناير). ضغط البريطانيون على الربيعي للموافقة على مجموعة من المبادىء التي ينبغي ان تكون دليلاً مرشداً للحكومة الجديدة. أولاً، ينبغي التخلي عن مطالب العراقيين المتعلقة بالكويت. ثانياً، أن يتعهد العراقيون بعدم استغلال مناطق الامتياز التي كانت شركة نفط العراق IPC قد أعادتها لقاسم.
في المقابل، تعهد البريطانيون بالتفاوض على اتفاق نفطي جديد سيؤدي الى عائدات اكبر للعراق ومساهمة اكبر للعراقيين في ادارة قطاع النفط. لكن الربيعي جادل بأنه لا يستطيع أن يُلزم “الحكومة” الجديدة الى هذا الحد، وأن عليهم أن يأخذوا بالاعتبار تأثير مثل هذا الاتفاق على “الرأي العام”.
“شروط” عبد الناصر
لكنه أصبح الآن واضحاً للمتواطئين الامريكيين والعراقيين أن البريطانيين يريدون الى حد بعيد إعادة تأسيس النظام القديم وموقعهم الخاص بالذات في العراق. ولم يكن ذلك يعجب الامريكيين والعراقيين. ليس واضحاً ماذا حدث بعد ذلك، حسب مصادر معلوماتي. لكن، أياً كان ذلك، لم يكن هناك أدنى شك بشأن النتيجة. يبدو ان الامريكيين ارادوا أن يخلقوا وزناً مضاداً لهذا التحرك البريطاني، وتوجهوا الى عبد الناصر. وبعد جولة أخرى من محادثات فائقة السرية في القاهرة مع عبد الناصر شخصياً، عادوا ليقولوا ان عبد الناصر جعل شرطاً لمواصلة تعاونه في الاطاحة بقاسم أن لا يكون للحكومة العراقية الجديدة التي ستحل مكان قاسم “زعيماً أياً كان”. وأصر عبد الناصر ان [عبد السلام] عارف يجب ان يكون الرئيس وأن يرأس الحكومة.
دعمت واشنطن “شرط” عبد الناصر، ولم يكن امام البريطانيين أي خيار سوى القبول بذلك. وأعطي الضوء الأخضر للمضي قدماً بالتحضيرات للانقلاب.
ضربة موفقة نفذتها وزارة الخارجية البريطانية
لكن خللاً ما حدث بشأن التوقيت. فقد أحس قاسم بأن شيئاً ما يُدبّر بالارتباط مع شركة النفط. وانتابه الشك في البريطانيين وجزء من جيشه. وتمكن البريطانيون من طمأنته بعض الشىء عبر واحدة من أذكى الضربات الموفقة التي نفذتها وزارة الخارجية البريطانية.
فقد تمكنت من جعل قاسم يعتقد ان الترتيبات الجارية والمتعلقة بالحكومة الجديدة التي كانت ستعقب الاطاحة به هي في الحقيقة خطط كان البريطانيون يريدون تنفيذها بمساعدة قاسم. وقد اقتنعت أنا شخصياً بهذه التقارير حول مشروع وضعه السير برنارد باروز لانشاء اتحاد لمنطقة الخليج الفارسي، وهو ما أثار أعجاب قاسم كثيراً (راجع “جويش اوبزرفر”، 1 شباط 1963).
لكن قاسم كان ينتابه الشك. وبدأ بجولة في معسكرات الجيش، والقاء خطب حماسية امام صغار الضباط (الكثير منهم شيوعيون) والجنود، وتحذيرهم من الضباط المتآمرين في صفوفهم. وقدم اليه جهازه الأمني لائحة تضم ثمانية وخمسين من المشتبه بهم وقام بفصلهم من الجيش.
ذعر في 8 شباط
بحلول نهاية كانون الثاني (يناير)، كان مؤيدو قاسم الشيوعيون في الجيش متأكدين أنه كانت هناك مؤامرة ضده وخططوا لضمان موقعهم بأن يقوموا بالاستيلاء على السلطة دعماً لقاسم.
في غضون ذلك، في القاهرة، كان عبد الناصر قد أعطى تعليمات لتشديد الحملة ضد قاسم، من دون أي قيود. ولم يكن المصريون، باستثناء عبد الناصر، يعرفون الأسباب وراء ذلك. وكان عبد الناصر نفسه يعتقد ان الأمر سيتطلب حوالي اسبوعين من هذه الحملة الدعائية المكثفة ، مدعومة بأعمال تخريب نشيطة في بغداد، لإنضاج الوضع للانقلاب.
بدا ان كل شىء يسير بصورة جيدة، الى أن حدثت حالة ذعر في صباح 8 شباط. حينها حدث شىء غريب جداً. فمع وصول التقارير الأولى عن الانقلاب الى القاهرة، كان عبد الناصر مقتنعاً كما يبدو بأن هذا هو الانقلاب الشيوعي وليس انقلاب عارف الذي لم يكن قد حان وقته بعد.
رسائل شديدة القلق من عبد الناصر
ويفسر هذا الوضع الرسائل الشديدة القلق من القاهرة التي تم التقاطها في الاردن، ومن قبل الامريكيين والبريطانيين المندهشين، والتي بيّنت ان عبد الناصر كان يسعى للحصول على معلومات عاجلة عن الانقلاب. ويمكن تصور ارتياحه عندما ظهر عارف الى العلن في النهاية.
هناك بعض الجوانب المتعلق بالفترة التي تسبق الانقلاب والتي تحتاج الى المزيد من التقصي. فان قاسم، كما علمت، سعى الى جس نبض ديغول بشأن امكانية التوصل الى نوع خاص من الاتفاق النفطي مع “السوق المشتركة”، اذا تولى العراق السيطرة على نفطه. لكن الاجزاء الرئيسية من تاريخ الانقلاب اصبحت واضحة الآن، حتى اذا كانت غير مستكملة الى حد بعيد.
ما هي الخطوة التالية؟ ان الترتيبات مع واشنطن تذهب أبعد بكثير أزاء بغداد. فان البعض من كبار مسؤولي الارتباط في مجال النفط التابعين لوزارة الخارجية الامريكية، مثل رينتز ومولر، يعملون على تطوير رؤية جديدة للسياسة النفطية الغربية التي ستؤثر بشكل خاص على السعودية.
الولايات المتحدة ستتخلى عن السعودية
إن أحد تأثيرات هذا التواطؤ ضد العراق هو أن توضع العربية السعودية خارج الخط. فمصر سوف لا تسحب قواتها من اليمن. وإن دورها الحقيقي هو في مرحلة البدء. إنني على علم بأنالأمريكان الآن على قناعة بأن عبد الناصر في الجيب، وانه الأداة الأفضل لجلب السلام والاستقرار الى الشرق الأوسط ولإبعاد الشيوعيين.
في جيب من ؟
لكن عندما امضيت بضعة ايام في القاهرة مؤخراً، طمأنني صديقي محمود فوزي بأن عبد الناصر وضع كنيدي في جيبه. ولم يكن فوزي وحده الذي قال ذلك. كما اعتاد لينين ان يقول: (أنها مسألة الغلبة لمن). الشىء نفسه الى حد كبير يحدث مع الاكراد. فالبارزاني مستاء بلا شك من مفاوضه في بغداد. وهو لا يؤيد الطريقة المتساهلة التي يتفاوض بها الطالباني، ولا رحلته الى القاهرة.
كان أول اعلان اصدره المجلس الوطني للثورة يوم الجمعة الماضي حول القضية الكردية غامضاً الى حد يؤكد أسوأ مخاوف البارزاني. وقد بعث البارزاني برسالة حادة الى المجلس مهدداً بأنه سيستأنف القتال. ونتيجة لذلك، تم ايفاد وزير الدولة الكردي، الجنرال فؤاد عارف، على وجه السرعة الى الشمال لطمأنة البارزاني. وقد يؤدي ذلك بالفعل الى انشقاق آخر في صفوف الاكراد.
المصدر : كتاب : من ماهيات السيرة ، الكتاب الثالث في 3 أجزاء
عبد الكريم قاسم في يومه الأخير
دار الحصاد ، دمشق 2015