السيمر / الاحد 16 . 10 . 2016
نجيب يوسف اسطيفان
المقدمة
-3-
ماذا يجني الانسان من الثورة التي بعد اندلاعها بفترة قصيرة تنطفىء ضياؤها وتخيم الظلمة وتتحول الجمهورية الفاضلة الموعودة الى جحيم ينشط فيه الشياطين ويسوده الرعب؟
يصبح سلوك القائد الثوري تدميرياً للمجتمع عندما يتوجه الى استئصال بعض مكوناته وتمزيق نسيجه وتشويه شكله تحت ذريعة تطبيق المبادىء، حتى وان تطلب الامر بتر اجزاء من القدم لكي يلائم حجم الحذاء بدلاً من تبديل الاخير ليناسب القدم. يقودنا هذا الى تشخيص الخطأ عند تأطير افكار البشر وتقرير اتجاهاتها بطريقة قسرية لكي تتطابق مع رؤى وايديولوجية المنظر من اية مدرسة كان. بالتالي، لا يكون البذار وفير الغلة مالم تُنثر بذوره في موسمها وفي تربتها الملائمة، ومالم تحمل تلك البذور عناصر الحياة ومقومات النماء الطبيعي. حينما نشير الى تعرج او انحراف مسيرة بعض الثورات او كبوتها والتهامها لابنائها، لا ينبغي ان نسيء الى ذلك الانسان الذي بغاية نبيلة ركب الموجة وأذاب كيانه في اللهب المستعرة. في هذا الصدد، اعتذر لتلك الشخصيات المتميزة التي استرخصت دماءها واعطت اكثر مما نالت واضافت الكثير دون ان تبغي شيئاً بالمقابل، مما حولها الى رموز ونماذج تستحق الاقتداء بها. بالرغم من الارتجاجات والمخاضات التي رافقت الثورات وتبعتها، والأثمان الباهظة التي قدمتها الجماهير، يبقى الحراك ومساعي التغيير قائمة ومشروعة، ولكن ربما بأساليب مختلفة.
شهدت العديد من حقب التاريخ اشخاصاً تحكموا بالسلطة او قفزوا الى قمة هرمها، واسسوا الممالك والامبراطوريات والدويلات والامارات على حساب قوت ودماء بني قومهم ودماء الغرباء عنهم. ومتى ما شعر هؤلاء بالجبروت وانتفاخ الذات وامتلكوا مقومات القوة، شنوا الحروب بقصد الهيمنة والاستعباد وخلّفوا وراءهم الفواجع والكوارث. لكن الى جانب تلك الصفحات القاتمة والمليئة بالاساءات الى البشرية، شعت منارات المفكرين والمصلحين والفلاسفة الذين امتلكوا الرؤى الخيرة والمشاريع الانسانية وملأهم الامل بإنتصار العدالة والحرية وقيام انظمة تصون حرية الانسان وكرامته وتؤمن عيشه من دون ان تخل بتوازن المجتمع او تستأصل اجزاءاً منه او تتجاوز على الاخلاقيات والضوابط الايجابية والضرورية. قبل الميلاد ببضعة قرون اوجد الفلاسفة الاغريق مفردة الديمقراطية التي تعني حرفياً سلطة او سيادة الشعب. آنذاك، اقتصر مفهوم الشعب على المواطنين الاحرار ومالكي الثروة والمحاربين، ولم يشمل العبيد والمعدمين. تدريجياً، تطورت الديمقراطية في مضامينها واتسعت قاعدتها الشعبية، وفي الوقت نفسه تنوعت مشاربها واتخذت اشكالاً مطاطة وفضفاضة، وغدت عنواناً يرفعه كل من يطمح للحكم. بعد ان تعمق الايمان بالديمقراطية ظهرت شعاراتها في الممالك المستبدة والدستورية وفي الجمهوريات اللبرالية والمحافظة، وتمسك بأذيالها الدكتاتوريون المدنيون والعسكريون. بالرغم من ترنح او تراجع التطبيق الديمقراطي امام النظم الشمولية على اختلاف مشاربها ومرجعياتها، يبقى جوهرها كيان حي متطور ومرن يستطيع استيعاب التيارات والشرائح المتنوعة، ويستمر في النماء من دون ان يبلغ الكمال، لأن تطلعات الانسان وطموحاته للارتقاء في المجالات المادية والروحية والفكرية لا تعرف حدوداً لتقف عندها.
لم تتوقف إبداعات الانسان في مجال الفكر وامتلاك الرؤى وتوظيف المهارات اليدوية التي آلت الى تطوير وسائل الانتاج. على مر الازمان اخترع واكتشف وابتكر وانتج ونقل ضياء انجازاته لتصل الى مجتمعات وجغرافيات بعيدة ومترامية. عند بعض الفترات المفصلية في مظلومية الانسان، نهض المتمّيزون روحياً وحولوا رؤآهم الى نقطة جذب استقطبت كتلاً كبيرة من البشر ونالت ثقتهم، مما حول تلك الرسالة الى عقيدة ايمانية شبه جمعية ارتقت الى مستوى العبادة والاستلهام والتضرع. انتقل الانسان البدائي من مرحلة الصيد وجني ما تنتجه الطبيعة، ثم عاش في ظل العبودية والقنانة والاقطاع، لكنه زرع وانتج الغذاء ودجن الحيوان وشق جداول الارواء وعبد الطرق واقام السدود ومدّ القناطر وشيد الاهرام والقلاع والاكواخ، وصنعت يداه الآلة الحجرية والخشبية. قبل آلاف السنين انطلق خياله ونسجت افكاره المجردة الاسطورة والملحمة والرواية والشعر. بعد ان اجتازت الثورة الصناعية بواكيرها، طوع الانسان المعادن ومصادر الطاقة، واخترع الآلة البخارية وصنع الباخرة والقاطرة والسيارة وجومة الحياكة التي ضاعفت انتاج قطع الملابس مئات المرات. خلال نظام الرأسمالية الوسيطة والمتطورة، اكتشف الانسان الطاقة الكهربائية وشطر الذرة والنواة وقهر العديد من الامراض الفتاكة وافنى جراثيمها بفضل الادوية والمضادات الحيوية واللقاحات. لا بد ان نشير الى اختراع وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية وصناعة الطائرات السريعة وكافة الالكترونيات التي اختزلت العالم وجعلته قرية صغيرة تحوم فوقه الاقمار الصناعية التي تصور وتنقل على الفور كل ما يحصل حتى في ابعد بقعة من مجاهيل الارض.
عند التطرق الى التطورات السلبية المصاحبة واللاحقة للثورة والى الطغيان الذي قد ينجم عنها، لا اقصد الاساءة الى من آمن بالاصلاح ودعمه في هذا الخصوص، لا بد ان نقف اجلالاً واكراماً للذين وهبوا حياتهم من اجل قضيتهم او صمدوا راسخين على خشبة منصة الاعدام. يعتصر القلب الرقيق الالم حينما يتذكر اولئك اللذين اختطفوا تحت جنح الظلام وفي رابعة النهار بسبب نضالهم وغيبوا في السجون ولم يتم العثور على اثر لاجسادهم. لا بد ان ننظر بإكبار الى تلك الهامات التي طرزت حياتها بالبطولة والايثار وعاشت من اجل الآخرين، وارتقت ارواحها الى الاعالي بسبب رصاصة اطلقها رضيق الامس. ينبغي ان نثمن دور ذلك الثائر الذي تسلق الجبل لاهثاً وحاملاً سلاحه الخفيف وزاده المتواضع واصابته رصاصة العدو قبل ان يبلغ القمة. حينما نسلط الضوء على السلوكيات المنحرفة لمن يوظف الثورة لاهوائه ومصالحه، نستميح العذر ممن مزقت بشرته اشواك واحراش الغابة وهو يهاجم رجال الطاغية او يهرب منهم. ونعتذر كذلك ممن سلك السهل مبشراً متنكراً، واكتشف امره والتف حبل المشنقة حول عنقه. يغرق الانسان في عالم الحزن وهو ينظر الى اخيه في الانسانية وقد هشمت اصابعه او قلعت اظافره او احرقت راحة يديه اثناء التعذيب. ليس من الانصاف ان نسيئ لمشاعر من امضى زهرة شبابه واطفأ العديد من شمعات ذكرى ميلاده واستنفذ طاقة جسده وهو يقبع في زنزانة انفرادية او في معتقل او قبو مجهول. لا يكون الامر مستهجنا في حينه عندما انتظر احدهم لساعات في الطابور الطويل ونسي العطش والجوع والتعب ووقف مسحوراً ومتلهفاً لالقاء نظره على الجسد المحنّط للرفيق المؤسس لدولة العمال ومترجم ايديولوجيا الخلاص. لا بد ان نتفهم موقف اللذين انخرطوا في خلايا الحزب وارتقوا في لجانه وحفظوا الوصايا وتحمسوا لحضور المهرجانات الخطابية والندوات الثقافية واحتفالات عيد ميلاد رمز الثورة ورحيله، او باركوا وايدوا اعدام اللذين اقترفوا الهرطقة الايديولوجية او اعتبروا خونة. لا ينبغي ان نلوم من وقع اسير الاوهام ولم يبال بالقيود التي على معصميه لانه حلم بإمتداد الجنينة الخضراء امام عينيه.
تكون طروحات المنظرين والفلاسفة ضرورية للقائمين على الثورات، لأنها تفتح الآفاق للاصلاح المتوازن والممكن، وتوفر البلاطات لارساء اسس المستقبل الافضل في النواحي المادية والروحية للانسان. لكن ظروف اليأس والاخفاقات والقهر قد تضفي الى استحواذ ايديولوجية ثورية راديكالية تستطيع ان تجرف بسيلها العاطفي وزخمها الجماهيري الهائج بقية المدارس الفكرية والتيارات السياسية وتطرح نفسها كمشروع اجتماعي واقتصادي متكامل وفريد. يتحول ذلك المنهج العنفي الى عقيدة مذهبية توعد المواطن بجبل من الحلوى والمن وبجداول من العسل والحليب، وتوهم البشر بتدشين عصر يستطيع فيه العصفور الركون الى مخلب القطة، والدجاجة الوقوف بأمان على ظهر الثعلب والشاة مجاورة الذئب. لا يمكن اعتبار فترة الشعور بالنشوة وغمرة فرح الجماهير وسخونة عواطفها رصيداً رصيناً لنجاح الثورة. ان حث الهائجين للسير الى الامام والنداءات لحرق المراحل واطلاق شعار ” يا عمال العالم اتحدوا ” لا تمنح الحرية للمكبوت ولا الغذاء للجائع. لا يثمر التعويل على ترديد الاناشيد الحماسية وتعميم ثقافة القطيع وكسب خواطر المتحمسين عن طريق منح النياشين والانواط التي تتحول الى سلاسل واغلال لحماليها. قد ينجح نظام الايديولوجيا الجاهزة في ترويض المجتمع لفترة ما، وفي تزويق المشهد من خلال الدعاية المؤثرة وعن طريق تطوير الصناعة العسكرية وتحسين الجوانب الخدمية وتوفير السكن الجماعي واشاعة التعليم للجميع. لكن هذه الانجازات تبقى باهتة امام تشويه آدمية الانسان والغاء حرية الاختيار عنده وتأميم ذاكرته وتحديد مسارات تطلعاته واختزال آفاقه. حقاً، ان تحقيق نظام العدالة المثالية الذي يملأ الجميع بالرضا والقناعة والسرور لا يزال املاً وحلماً، ان لم يكن وهماً، مما يدفع المعنيين الى مراجعة صفحات الماضي البعيد والقريب وتسليط الضوء على الحقائق، حتى وان كانت لاذعة في مذاقها وقاتمة في مظهرها او فاشلة في تطبيقاتها. خلال هذه الممارسة، لا بد من تصويب الاخطاء وغربلة الوقائع من اجل التقييم واتباع ما هو افضل للارتقاء.
اظهرت الاخفاقات التي جابهت محاولات ترجمة التطلعات الماركسية الى الواقع الفعلي عمق المثالية التي اغرقت الحالمون في بسط العدالة الاجتماعية والغاء التفاوتات الطبقية بطريقة قسرية ومصطنعة. في الوقت ذاته لا يستطيع المرء غض النظر عن مضامينها الانسانية ولمساتها الساحرية التي أغوت كتلاً بشرية كبيرة على مستوى القارات والحضارات والاعراق. آمن بها رسلها وطلائعها الثورية واقنعوا البسطاء والمغمورين بإمكانية جعل النظرية نظام سياسي واجتماعي ينقذ الانسان من بلائه ومعاناته وصراعاته ويأخذ به الى الفردوس الارضي. مع ذلك، ليس من الانصاف انكار جهود ماركس تجاه العمال والمستغلين وتحسسه لأوضاعهم وتبنيه لقضيتهم ورفع درجة وعيهم واقناعهم لولوج عتبة التاريخ ولعب دورهم في ريادة البشرية مستقبلاً.
في ضوء تنوع السجالات الفكرية والطروحات الاصلاحية ومشاريع الثورة الرامية للتغيير، تبقى تطلعات الانسان في توسع وارتقاء وتشعب مستمر بحيث لا تستطيع اية ايديولوجية او فلسفة من اشباعها او ايصالها الى الكمال. لقد انهارت نظم الايديولوجية المذهبية بالرغم من شعاراتها المغرية وصرامة احزابها وانضباطيتها الفولاذية، وخاصة عندما تناقضت ممارساتها مع صيانة كرامة الانسان ومع ضمان حرية اختياراته وشوهت مسيرة حياته الطبيعية. قد لا يسر العديد من رسل وتلاميذ ومبشري ايديولوجيا الخلاص مجابهة الحقائق، وقد يصعب عليهم الاعتراف بلا واقعية مشروعهم السياسي ويرفضوا الهبوط من على ظهور افراسهم والانسحاب من حلبة المنازلة حتى وان تطلب الامر مواصلة القتال بسيوف من خشب.
انتهت المقدمة