السيمر / الأربعاء 19 . 10 . 2016
قراءة وعرض: رواء الجصاني
قبل خمسة وأربعين عاما، وفي حزيران/ يونيو 1971 تحديدا، يجري الشاعر والكاتب سامي مهدي، حوارا مطولاً في بغداد، مع الجواهري الخالد، نشره في مجلة “المثقف العربي” تميز بالصراحة والجرأة وفي اختيار المحاور، فضلاً عن الأستنطاق- بتعبير استعاري- خاصة وان الاجواء في البلاد العراقية كانت متشابكة، ثقافيا وسياسيا – على اشمل وصف. وقد أرتأيت وأنا في “معمعان” الارشيف الجواهري العامر، أن أعيد نشر الحوار لتميزه كما أسلفت، وبشكل شبه كامل، بأستثناء بعض الأيجازات، وإضافة عناوين فرعية، فضلاً عن هوامش توضيحية، كما ازعم … وها هو في التالي:
——————————————–
“كنت قد قدرت ان لقائي بالجواهري سيستغرق ساعة او اكثر قليلا. وانه سيكون جافاً أو حتى مملاً، ولكنه استغرق أربع ساعات، وكان متعة عظيمة لي”… هكذا يقدم سامي مهدي لحواره المنشور في مجلة المثقف العربي البغدادية، ويضيف:
… “في البداية لاح لي انه يتحفظ في الحديث فخمنت انه يريد ان يطمئن الى أمانتي بعد ان افتقد أمانة الكثيرين. ولكن ما ان استغرقنا الأخذ والرد حتى انطلق على سجيته وراح يسترسل حد انه كان ينسى في كل مرة أصل ما بدأنا به.
كان صوت – الجواهري- دائم التغير فهو يعلو مرة حد الصياح وينخفض أخرى حد الهمس، وبدا لي انه ليطربه ان يستعيد معك ذكرياته، حلوها ومرها، وان تنصت له وتشجعه على الاسترسال معك، فحينذاك تراه وقد احمر وجهه من لذاذة، وتهدج صوته من نشوة، كما لو ان حمى خمرة قد ألم به. فرأيت ان يحدثني عن مصادر ثقافته، قلت له أراك تقرأ روسو فمن هم أبرز من قرأت لهم؟”.
* ويجيب الجواهري
…”سؤالك عن أبرز من قرأت لهم صعب، لقد قرأت كثيراً، وقد بدأت القراءة منذ ان كان عمري عشر سنوات، كان بيتنا يساعد على ذلك، وأستطيع أن أقول انني قرأت لأغلب المشاهير. قرأت لبلزاك واناطول فرانس وبودلير صاحب ازهار الشر. قرأتُ هؤلاء مترجمين، مع انني اجيد – القراءة – القراءة – فقط بالفرنسية. وغير هؤلاء قرأت شيللر صاحب اللصوص، وقد أعجبتني رواية مدام بوفاري”.
ماهي مصادر ثقافة الجواهري، ومن أين؟
* ثم يسأل سامي مهدي “وماذا بعد عن مصادر ثقافتك؟” … فيّرد الجواهري:
” ان الأهم هو البيئة: البيت والمدينة والقطر والظروف ونمط الحياة السائدة. ان البيئة التي نشأت فيها بيئة خاصة. كان بيتنا (مشبك عروق) دون كل البيوت. كان ملتقى كبيراً لعوائل مختلفة الأصول. كما كان محفل علم وأدب، أما أبي فكان شاعراً رقيقاً، إلا انه هجر الشعر تقىً وورعاً مثلما فعل الحبوبي الكبير… اما بالنسبة للبيئة العراقية في ذلك الحين فلعلك قد قرأت عنها، وعرفت من أي بؤس وأي تخلف كانت تعاني… اذن فقد كانت هذه البيئة مصدرا غنيا وقد زودتني بخبرات عديدة. على ان اكثر ما اثر بي منها طفراتي من حدود البيئة العائلية والنجفية الى البيئة البغدادية، فلقد فتحت لي هذه الطفرات آفاقا رحيبة وكان ان حددت لي طريقي العام”.
* ويتابع الجواهري اجابته على السؤال ذاته فيقول:
“اثر بي من تلك البيئة تناقضها وتقلباتها، فنحن لم نكن عائلة كادحة، كنا من البيوتات ولكنا مع ذلك كنا نبيت ليلا بلا عشاء، وحتى بلا خبز. ولقد برزت هذه التأثيرات في مظهرين عام وخاص. ففي المظهر العام فرضت عليّ البيئة ان أكون مع الجائع العاري. لذا أصبحت ملتزما رغما عني. وفي المظهر الخاص طغى على حياتي وشعري عنف لم أخلق له. أنا في حقيقتي أكره العنف، وأشعر أحياناً ان عنفي في غير محله فأشجب نفسي ولكنني لم استطع الا ان أكون كذلك، أنا مثل بطل بلزاك في رواية الزوج الضائع (حسن التفكير سيء التصرف)، وحين قرأت الرواية قلت: هذا هو أنا…
… شيء آخر أورثتنيه البيئة، وهو حب الحياة. أنا أحب الحياة، ولقد نما في هذا الحب على نحو لم أكن أتصوره انه ينمو كلما تقدم بي العمر حتى انني لأجده في بعض الأحيان لا يتناسب وسني، وعندئذ لا أجد إلا أن أفلسفه. ان حبي للحياة، كما أعتقد مجرد رد فعل للظروف التي مرت بي لقد كنت محروماً وما حبي للحياة إلا تعويض لهذا الحرمان”.
الجواهري: أشعر احياناً باني كنت عنيفا أكثر مما ينبغي
* ووفق سامي مهدي، في الحوار ذاته وعنه:
“كان ابو فرات أشبه بمن يعترف، وبين الحين والآخر كان ينتبه لنفسه فيعتدل ويحدق فيّ ليرى مدى تأثير حديثه عليّ. اما أنا فكنت أهرب بوجهي عنه لئلا أقطع عليه استغراقه في الاعتراف. كنت أتركه لانفعالاته. ثم سألته: يعرف عنك انك بار بعائلتك، فكيف توفق بين هذا البر وبين عنفك ومواقفك الحدية”.
* ويردّ الجواهري، منطلقاً، ومن بين اجابته:
“أنا أحب العائلة، أذوب في العائلة، وفي أقسى الظروف كنت أحاول المستحيل حتى لا تتضرر، كنت أدللها وكان هذا يكلفني عناءا أكبر، وفي الحق ان العائلة لم تكن تتدخل في مواقفي قبل ان اتخذها، أو انني لم أكن أدع لعواطفي تجاهها ان تؤثر على موقف أزمع اتخاذه. غير انني مع ذلك كنت احتاط لها قبل اتخاذ الموقف. ثم ما عساي ان أصنع اذا جاءت الأثمان أكبر من استعدادي لها؟ أحياناً كنت انقد نفسي فأشعر انني كنت عنيفا أكثر مما ينبغي وحتى أكثر مما كنت أريد”.
ويستمر الجواهري فيتحدث خلال الحوار نفسه عن مثال لما تعرض له، والعائلة بسبب مواقفه، فيسرد تفاصيل عن أجواء وتداعيات بائيته الشهيرة، عن هاشم الوتري، وبيتها الأشهر الذي خاطب به المسؤولين العراقيين عام 1949 ونصه “أنا حتفهم ألجّ البيوت عليهم، أغري الوليد بشتمهم والحاجبا”(1)…
لماذا راح الجواهري صحفيا؟
* وفي ثنايا الحوار يكتب سامي مهدي:
“… قلت لأبي فرات: ان علاقتك بالصحافة تبدو لي غريبة، فهلا أوضحت لي كيف تكونت هذه العلاقة ومدى تأثيرها على شعرك؟”…
ويجيب الجواهري:
“كنت مهووساً بإصدار جريدة، ولكن لم أكن أدري ما هو هدفي بالضبط لعلّ ذلك يعود الى اتصالي بالصحافة عن طريق النشر، أو لعله طموح ذاتي في النشر، أو رغبة في الحصول على مورد حر، وربما كان الدافع رغبتي في خوض السياسة. وعلى أية حال كانت الصحافة بالنسبة لي هي الدنيا، وكنت أعيش جو الصحافة على كثب. وهكذا تركت الوظيفة وأصدرت (جريدة الفرات) التي سميت ابني باسمها.
على انني وان امتلكت ذوقا صحفيا، فأنني لم أكن صحفيا ناجحا. كنت أشعر بأن ثمة تعارضا بين الصحافة والشعر. كانت الصحافة تغرقني في غمرة الاحداث وتشدني اليها فتصرفني عن الشعر في كثير من الاحيان، ومع ذلك فانني ما زلت احب الصحافة واحسب انني استطيع الان مزاولتها. ولكنها من جانب آخر كانت توسع لي الآفاق السياسية”.
* ويضيف الجواهري مسترسلاً:
“هذا لا يعني انني لم اقدم شيئا مجديا في الصحافة. فغالبا ما كنت اكتب الافتتاحيات وغالبا ما كانت هذه الافتتاحيات تحرك الجو السياسي. ومن جانب آخر كانت الرأي العام ملتقى للشعراء الشباب، وكانوا يعتبرون النشر فيها مقياسا لمواهبهم. بدر شاكر السياب كان ينشر عندي ومن اهم ما نشرته له همزيته التي قالها في الوثبة وقد نشرتها بعد ان قدمت لها. بدر كان يعمل عندي مترجما. وقبل ذلك كان يريد مني ان اقدم لديوانه. ففي ذات يوم كنت في زيارة والد عزيز الحاج، كان صديقي وكنت اعرف عزيز من خلال هذه الصداقة. فجاءني – عزيز – مع ديوان صغير لبدر وطلب مني ان اقدم له. واحتراما لعلاقة الصداقة اخذت الديوان ولكني لم اقدم له رغم انه بقي عندي شهورا ثلاثة، أنا لا أؤمن بالتقديم، امين الاعور (صحفي لبناني) أرسل لي منذ ثلاث سنوات ملحمة تاريخية بـ 400 صفحة على ان اقدم لها. الملحمة جيدة ومازالت عندي ولكنني لم افعل شيئا. هكذا أنا لا أؤمن بالتقديم”.
—————————– يتبع الجزء الثاني والاخير
** مع تحيات مركز الجواهري/ براغ