السيمر / الأحد 30 . 04 . 2017
حسين ابو سعود
كاد ان يكون ذلك اليوم عاديا لولا ان رأيت الناس يتراكضون صوب الزقاق المجاور، وكنت في ذلك الوقت فتى يانعا، سألت عن سر هذا التراكض فلم يجبني أحد فهم لا يعيرون الصغار اي اهتمام يذكر، واهتمامهم بالصغار كان يقتصر على إطعامهم وكسوتهم وإدخالهم المدارس فقط، ولكن أين تجاهلهم من سيل الفضول الطفولي؟، فحب الاستطلاع لا يفارق الدم المتوزع ما بين الاوردة والشرايين.
تراكضت مع الناس وانا لا أدرى الى أين تجرني قدماي، ولم أكن اعرف باني سأرى واسمع أشياء أكبر من عقلي بل أكبر من جسمي الهزيل ايضا، وفجأة رأيت ان أتوقف وادس جسمي الصغير بين أكوام البشر.
كانت سيارات الشرطة تضفي هيبة ورهبة على ذلك المكان بصفاراتها المدوية والأضواء المثبتة في اعلى السيارة وهي تدور حول نفسها بدون تعب او ملل،
وما هي سوى دقائق من الترقب والذهول الا وسمعنا صفارات سيارات الإسعاف البيضاء التي اخترقت الجموع بتكبر وخيلاء، فهدأت امام باب البيت المهجور الذي كان يدخله ويخرج منه شخص واحد فقط وهو سعيد أفندي الممرض في المستشفى البيطري، ذلك الانسان الهادئ الرزين الصامت الذي لا يعترف بالصداقات ابدا وكان وحيدا لا أهل له ولا اقارب، كنّا نلاحظ ذلك بوضوح.
كان يخيل إلينا بأننا نعرف عنه الكثير ولمَ لا، السنا جيرانا له؟
ولكن ماذا حدث للعم سعيد الذي زحف الشيب الى راْسه ولحيته وبدا أكثر وَقَارا، وما سر هذا التجمع وسيارات الشرطة والإسعاف فإذا كان سعيد قد مات او أصيب بوعكة صحية فسيارة اسعاف واحدة تكفي لنقله الى المستشفى والمريض عادة لا يكون مصحوبا بسيارات الشرطة ولكن …
فكرت كثيرا وأطلقت لخيالي الخصب العنان ولكني لم أهتد الى تفسير معقول يرضي فضولي حتى الناس حولي يريدون ان يُسكتوا في اعماقهم صراخ الفضول ولكن ….
يا إلهي ازدادت حركة الشرطة ودب الهرج والمرج في صفوف الجمهور وفجأة اخرجت الشرطة أربع بنات وهن يمشين بارتباك وبمساعدة رجال الشرطة وكن ينظرن ذات اليمين وذات الشمال بذهول وتعجب وملابسهن كانت ممزقة ومتسخة ولم يكنّ ليبالين بالعيون الفضولية المحيطة بهن من كل جانب الا الفتاة الكبيرة حيث كانت تشعر بالخجل والحياء وكانت تغطي وجهها بيدها ذات الاظافر الطويلة وفي النهاية رأيت العم سعيد أفندي وهو مكبل بالحديد والضابط يجره جرا الى سيارة الشرطة.
وفِي غضون دقائق قليلة كانت السيارات قد غادرت المكان، وخلا الميدان لحميدان وجاء دور الجمهور ليدلي كل بدلوه فانتشرت الإشاعات كما تنتشر فقاقيع الصابون في الهواء وتضاربت الآراء وتجرد كل إنسان عن رقابة الضمير فنسج من وحي خياله قصة مشوقة أطلقها بالمجان للعابرين.
الناس في هذه المدينة لا يحبون الرتابة لهذا فهم يترقبون بل ويبحثون عن اي شيء جديد وإلا كيف يقضون ليالي الشتاء الطويلة.
كدت أنسى الواقعة مع الناس بعد ثلاثة ايام لولا اننا رأينا سيارة الإسعاف من جديد وهي تقف بدون سيارة الشرطة هذه المرة امام ذلك البيت وترجل منها شاب نحيل حيث انزل جثة فتاة من السيارة ودخل بها الى البيت وبعد ساعات دخل بعض كبار السن ايضا ليخرجوا بعدها وهم يحملون نعشا صغيرا توجهوا به نحو المقبرة وأتموا مراسم الدفن.
وفِي اليوم التالي وقفت سيارة اسعاف اخرى امام نفس البيت لينزل منها نفس الشاب وهو يحمل جثة فتاة اخرى ودخل بها الى البيت فتدافع خلفه بعض كبار السن كما في المرة السابقة فتم تغسيل الجثة وتكفينها وقصدوا بعد ذلك المقبرة ليتموا مراسم الدفن وفِي اليوم الثالث عاد ذلك الشاب للظهور من جديد نازلا من سيارة الإسعاف وهو يحمل جثة ثالثة لفتاة وحدث مثل الذي حدث في اليومين السابقين.
لا اقول تعجبنا او اندهشنا بل كاد الفضول ان يقتلنا، كيف يمكن للحقيقة ان تكون اغرب من الخيال نفسه واغرب من حكايات جدتي ايام كانت تحدثنا عن الغراب الذي اختطف طفلة صغيرة ورباها وكبّرها ومن ثم زوجها من شاب أحبته وهي في طريقها الى الوكر، ولكن لا يهم لقد ذهب الكثير وبقي القليل فالبنات كن أربعة وقد اُقبرت منهن ثلاث وبقيت واحدة لننتظرها في الغد لتأتي جثة هامدة محمولة على يدي ذلك الشاب .
وأخيرا كان اليوم الرابع، وقفت سيارة حمراء صغيرة امام البيت وترجل منها نفس الشاب ويداه تنعمان بالحرية ولم يكن يحمل شيئا هذا اليوم ودخل الى البيت ومكث فيه قليلا وخرج ليركب في السيارة من جديد وأثناء مكوثه في البيت رأيت ان افحص السيارة بنظري فرأيت في المقعد الخلفي فتاة جميلة عليها آثار الانكسار والإرهاق ولكن جمالها كان يتحدى الإرهاق ، هي نفس الفتاة الخجولة التي رأيتها قبل ستة ايام ، ولكن لماذا عاشت هذه الفتاة ولم تمت كالأخريات ؟ لا ادري ، وفجأة انطلقت السيارة وتوارت عن الأنظار ولكن هل ستختفي تفاصيل القصة؟ لا وألف لا ولكن من سيروي لنا التفاصيل ، لقد اختفى كل شيء ، عدت الى البيت خائفا وجلا والقلق كان واضحا على محياي واستسلمت للنوم ولكني استيقظت مرعوبا لأجد أمي وهي تهدئ روعي بعدما سمعتني وانا أهذي اثناء اليوم ولم تشأ أمي ان انام مع اخوتي في غرفتهم فأخذتني الى غرفتها وكان ابي مازال في متجره الذي أصيب بالكساد في الفترة الاخيرة ، تمددت على سرير أمي وتظاهرت بالنوم وبعد قليل سمعت وقع اقدام والدي فأنا أميز خطواته حتى ولو كان يسير وسط طابور عسكري، انه أبي.
دخل الى الغرفة وسأل أمي عن سر وجودي في غرفته هذه الليلة فأفضت اليه بقلقها عليّ بعد ما رأت مني ما يسيء اثناء نومي وأخبرته بأنها رأت ان تكون او اكون بجانبها هذه الليلة على الأقل، وكان الاثنان يظنان باني قد استغرقت في النوم ولكني لم أكن كذلك فسمعت أمي تقول: لماذا تأخرت الليلة يا حاج؟ فأجاب: أيه كنت في مجلس المختار وقد حكى لنا قصة البنات الأربع، فقالت أمي: حقا! ما هي قصتهن بالله عليك فأنا ولهة لمعرفة التفاصيل، فرد أبي: حسنا حسنا ولكني اشعر برغبة شديدة لتناول الشاي فهلا حققت رغبتي؟
وبعد دقائق دخلت أمي الغرفة ومعها إبريق الشاي فصبت له في فنجان كبير وبدأ الوالد بالحديث عن لسان المختار:
ان سعيد أفندي البيطري لم يكن وحيدا في ذلك البيت كما كنّا نظن طيلة السنوات التي كنّا نعرفه فيها، وسعيد هذا كان متزوجا وقد أنجب أربع فتيات وولد واحد كان قد ترك البيت بعد وفاة أمه وهاجر الى العاصمة ليعمل فيها وقد أكمل دراسته ليلا، ولكنه بعد هذه السنين احسّ بشوق طاغ الى أخواته فعاد الى المدينة ولكنه فوجئ بطرد والده له عندما جاء يطلب منه رؤية البنات وكرر المحاولة عدة مرات ولكنه لم يفلح في إقناع الأب، واضطر تحت ضغط الشكوك للذهاب الى مركز الشرطة حيث نجح باستصدار أمر بزيارة البنات بالقوة وحصلت المفاجأة عندما اخرست الشرطة مقاومة الأب حيث عثروا على البنات داخل غرفة تفوح منها الروائح الكريهة وكان الباب مقفلا ولم تكن بالغرفة أية نافذة لتسمح بدخول الهواء النقي او أشعة الشمس الى الداخل.
وكان هذا الأب قد حبس بناته الأربع في تلك الغرفة لمدة عشر سنوات تقريبا وكان هذا الحبس الطويل في تلك المساحة الضيقة هو السبب الرئيسي في وفاة البنات الثلاث حيث تعودن الجلوس القسري الذي اورثهن الشلل ولم يستطعن ان يتكيفن مع الجو الجديد، جو الحرية والهواء النقي فمتن على التوالي ولم يبق منهن غير الفتاة الكبيرة والتي صحبت أخاها في رحلة عودته الى العاصمة حيث مكان عمله.
وهنا أراد والدي ان ينام وتمنيت ان لا يفعل لان القصة لم تنته بعد لأني اريد ان اعرف لماذا فعل سعيد أفندي كل هذا اذ يجب ان يكون الدافع قويا وكدت افضح نفسي لولا ان أمي قالت بأعصاب مشدودة: ولكن لماذا فعل سعيد كل هذا يا حاج؟، وهنا فرحت وارتحت وعدت لأمثل دور النائم الغارق في النوم فاعتدل والدي في جلسته وارتشف الرشفة الاخيرة من الشاي وتابع السرد كما سمعها من المختار: سعيد أفندي هذا كان قد اغتصب احدى الفتيات بعد زواجه بعدة سنوات وقد علم أهل الفتاة بذلك فآثروا السكوت على الفضيحة. ولكنهم هددوا سعيدا وأخبروه بأنهم سوف يفعلون معه مثلما فعل بل سيردون له الصاع بعدة صاعات طال الزمن او قصر، فما كان من سعيد الا ان هاجر عن تلك المدينة التي فعل فيها فعلته المنكرة وجاء الى مدينتنا ولكنه خاف من افتضاح امر وجوده هنا وخاف على بناته الأربع ايضا حيث كان صدى التهديد يرن في مسامعه كل يوم بل كل لحظة فآثر ان يحبس بناته. على هذا النمط الوحشي وينعزل عن الناس، ويعيش وحيدا أسير غلطته التي دمرت حياته وهكذا عاش بدون صداقات ولا زيارات، والآن دعينا من قصة سعيد وليواجه مصيره بعد ايام اذ ستحكم عليه المحكمة بالإعدام شنقا حتى الموت لا محالة وتعالي لكي ……
فقاطعته أمي بانفعال قائلة: الولد الولد
فضحكتُ بصمت بعدما أرضيت فضولي وقلت في سري: ما بال ابي يفكر بمثل هذه الأشياء وفِي مثل هذه الظروف.