السيمر / الخميس 20 . 07 . 2017
د. رحيم الغرباوي
الشاعر هو من يمخر عباب الكون برؤاه ، وهو يتجاوز الزمن , كون الشعر يرتدي زمن الوجود , فيجمع بين المسافات الدنيوية التي مرَّت بها عجلة التاريخ في آنٍ واحد ؛ لذا فزمن القصيدة هو زمن وجودي مطلق متحرر من العوائق والفواصل الزمنية التي تجعله يسجل أحداثاً بل يفيد من التجربة التاريخية ويصهرها برؤاه الشاملة ؛ كي تمنح النص الشعري انفتاحه على تجارب تصوغها مخيلة الشاعر ؛ ليكتنز ذلك النص بالدلالات الشعرية التي يعيش ببهارجها المتلقي ؛ لذا فالشعر (( لاينطلق من أيِّ شرط , ولاينمو تحت أيِّ شرط بل إنَّه يختار تماماً المنطقة غير المشروطة ويجلِّي طبقاتها بسلسلة من الاحتمالات الخاضعة للصدفة الخلَّاقة ولما يشبه ذلك )) (1)
والشعر الحداثي يعتمد بنىً رمزيةً منها أسطورية وتاريخية وصوفية ورموز طبيعية وغيرها , وهذا ما يجعلنا نستدلَّ على خلفية بنية الأدب المعقَّدة ؛ وذلك تتحول من بنية بسيطة … إلى إبداع كلامي شامل )) (2) ذلك هو مايمنح النص تعدد قراءاته .
والشاعرة منال الواسطي واحدة من الشاعرات العراقيات التي أثبتت أنّ القصيدة النسوية على الرغم من أنَّها فضاء واسع للأفكار والرؤى والعواطف إلا أنَّها فتحت لها فضاءَ واسعاً من القراءة , فحينما يقرأ المتلقي قصيدتها لأول وهلة يشعر بأنَّها تعبر عن مشاعر عاطفية تموج بها أروقة القصيدة لكن في القراءة المتأنية يمكن أنْ نقرأ مايضمره النص من تأويلات على الرغم من اكتنازه برموز الهيام والشوق إلا أنها رموز تطفح بمعانٍ يمكن للتأويل أنْ يذهب خلف ظلال الكلمات , فيقترح قدراً من الطرافة التي لربما تقصدتها الشاعرة لكن فعل التأويل كما يراه دريدا هو كسر طوق الدلالة المركزية والعوم من خلال رؤية القاريء في استجلاب الطرافة ؛ لإنتاج نص يفيض بدلالات لها إيماءاتها في فضاء ذلك النص , إذ أنَّ فعل التأويل له القدرة أن يجوب عوالم الشعر الكلية ؛ ليستكشف ويتخطى ويتجاوز ثم يخلق
فالشاعرة في قصيدتها تحكي لنا عشقاً من طرازٍ خاص , فهي تخاطب سلطان عمرها :
سلطانُ عمري
ومتيمي ,
بالحبِّ سرقتَني
أعدْ إليَّ نبضي
فليس من الإنصاف أنْ تحكمَ
دولةً ,
ولا تجيدُ حُكمَ مملكتي .
الذي تراه القراءة التفسيرية أنَّ الشاعرة تناجي حبيباً سرق قلبها , وهي تترجاه أنْ يُرجِع إليها نبضها , فهو الحاكم على عواطفها , لكنَّ القراءة التأويلية ترى أنَّ هذا الفارس هو محتل وغازٍ فلابد في غزوه أنْ يعيد روح الحياة إلى البلاد التي صارت تحت ظلِّ سيطرته , فعليه أن يعدل بين دولته والدولة المستعمرة وكأنَّ نداءها للمحتل الأمريكي الذي جعل البلاد ترزح تحت نير ظلامه أن يهدِّىء من لعبته ويتعامل بإنصاف مع الشعب المغلوب على أمره .
ثم تشير إلى كبريائها تجاه الحبيب دول توسل منها بل تخاطبه بكبرياء وشمم فهي تقول :
أنا فرعونية الهوى
تعلَّمتُ الفخامةَ
من فراعنتي
إذ نجدها تُذكِّر أنَّ فرعون كان شديد المراس حتى طغى فهو الذي قال عن لسانه الباريء سبحانه وتعالى : (( يا هامان ابنِ لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب )) ؛ لذا تؤسس الشاعرة لقومها منزلة عالية ,فهي ابنة حضارة عميقة في التاريخ أعمق من حضارة المحتل , ولديها القدرة على المنازلة بحكمتها ورشدها الذي ورثته من سلالتها العريقة , لكن القوة هي مَنْ حكمت , فسُرق البلد الذي أومأت لسرقته القلب النابض بالحياة .
ثم تعاود مخاطبة المحتل , وهي تطلق عليه تسمية الحبيب ؛ لتمنح النص قدرته على عنصر التشويق , فضلاً عن إضمارها بهذا الحس العاطفي ما آل إليه المحتل وما ترمي الشاعرة التي لم تجد أنَّ المقاومة تجدي نفعاً لاسترداد كل ماهو جميل فهي تدعو للمهادنة والمصالحة , إذ نجدها تقول :
فالأميراتُ تعشقُ
عنفوانَ الفرسان
وأنتَ فارسي ،
وسلطاني
… .
زليخةٌ أنا
فلا تستعصمْ
معي
لايجيد نفعاً استعصامك ,
رهانك ,
فغرامي سيأتي بك طائعاً
كماردِ سُليمان … ,
عرشُ بلقيس
سأزيِّنهُ , ليكونَ عرشك .
وتعلِّل الشاعرة لمسالمتها , فهي تلك الأميرة من بلاد الأمراء ؛ فلزاماً عليها أن لا تصرِّح بانكسارها , ولابد للفارس أنْ يقحم قصرها , ليأخذ بيدها إلى ليالي المرح والسرور , فإحساسها يوافق الحبيب من دون شعور , فهي تشبه نفسها بزليخة الذي استعصم حبيبها يوسف ( عليه السلام ) كي لايقترب من وهج قلبها, لكنَّ يوسف الشاعرة هو غير النبي الذي عاش في خدمة من عرضت عليه حبها طيلة سنيِّ عمره , بينما شاعرتنا نراها قد امتلكت زمام أمورها ؛ لتوازن بين نصر المحتل على بلدها ونصرها عليه بكسب قلبه تجاهها ؛ لتحكمه بدلاً من أنْ يحكم بلدها , فهي المرأة التي بيديها مفاتيح السلام , وهي مَنْ تمتلك مارد سليمان الذي أتى بعرش بلقيس رغماً , تذكرنا بكليوباترا ملكة مصر الذي غزا دولتها يوليوس قيصر ملك الروم , لكنه هام بحبِّها , وصار جيشه حامياً ومدافعاً عن دولتها ضد كلّ غازٍ , فتنعَّمت في ظلال الأمن والأمان , فهي ترسم صورة السلام والمصالحة طالما القدر أطبق فكيه على احتلال بلدها .
فالتفاتة الشاعرة الرؤيوية جسدت لنا عمق التجربة التي تبغي إيصالها لنا من خلال قصيدتها التي مثَّلت روح الأنثى رغم تحطيم أسوار مملكتها إلا أنَّها تحدَّت ذلك الظافر باجتياح قلبه , فهي لم تستسلم للقدر بل رتقت روح البلد لحقن الدماء والعيش بسلام , فهي بلقيس التي تزين عرشها لسليمان كي لاينتقم سليمان من بلدها الذي طالما عتَّقته هي وبنات جنسها بالحب والهناء وروح السلام , وهي كليوباترا التي هام بها من احتل بلدها . ويبدو أنَّها تمثل في قصيدتها الأرض لا الشرف والعرض التي لابدَّ أنْ تحافظ على أرواح ابنائها , ليعيشوا بسلام , وهي رؤية واكبت المنطق , فأصحاب العقول لم يفتوا بالجهاد ضدَّ المحتل , وإنما مدوا يد المصالحة والتآخي ، لينهض البلد من جديد معافى تظلِّلهُ مظلَّات الحرية وتيجان الشموخ ؛ ليواكب مسيرته إلى أمام .
والشاعرة منال الواسطي , تتحرك في قصيدتها بين قطبي الواضح والغامض برشاقة وخفَّة , وتجعل كلَّ قطبٍ مُطرَّزاً بشذراتٍ من القطب الآخر ؛ لذلك فهي قدِّمت في قصيدتها الحقيقة مكتنزة متوترة ؛ فالنص أخذ اتجاهاته في ضوء خبرة المتلقي وقدرته على التفسير أوالتأويل ؛ لينتج نصَّاً يمنح قارئه متعة التلقي .
(1) العقل الشعري , خزعل الماجدي : 1/ 71
(2) الشعر والأسطورة , موسى زناد سهيل : 71